أخبار اليوم - عندما نتحدث عن إبراهيم الطراونة، نحن لا نتحدث عن مجرد اسم مرَّ في صفحات القضاء الأردني، بل عن قامة بحجم وطن، عن رجل ترك بصمته في أدق التفاصيل، عن قاضٍ كانت هيبته تسبق حضوره، وكان الناس يتحدثون عنه كأنه العدالة بحد ذاتها. اليوم، وبعد 39 عامًا على رحيله، ما زال الرجل حاضرًا في الذاكرة، كأن عبق محكمة التمييز ما زال يحمل صوته وكلماته.
الطراونة ابن الكرك، وُلد في عام 1929 في مدينة عرفت كيف تخرج رجالًا لا يلتفتون للخلف، رجالًا يعيشون بكرامتهم، ويموتون وهم واقفون. بدأ حياته معلمًا، يعلم الأجيال كيف يُبنى الوطن بالحرف والكلمة، لكن القانون كان يجري في عروقه. رحل إلى جامعة دمشق، عاد حاملًا شهادة الحقوق، لكنها لم تكن مجرد ورقة تُعلق على الجدران، بل كانت وعدًا قطع على نفسه أن ينصر الحق ويحمي المظلوم.
لم يكن الطراونة قاضيًا عاديًا؛ الرجل كان كأنما وُلد ليجلس خلف منصة القضاء. دخل هذا السلك، وكان يدرك أن العدالة ليست مجرد قانون مكتوب، بل هي ضمير حي وإحساس بالمسؤولية. تنقل بين مدن الأردن قاضيًا ومدعيًا عامًا، ورئيسًا لمحاكم وهيئات، لكنه لم يكتفِ بذلك. امتدت يده لتصل إلى أبوظبي، حيث عمل هناك قاض، وأثبت أن الأردني أينما حلَّ يحمل معه قيمه وأخلاقه.
على الصعيد العربي، كان الطراونة جزءًا من صوت الأردن في جامعة الدول العربية، حيث مثل المملكة في اللجان القانونية، وترك بصمته في كل اجتماع وكل اتفاقية. كان يفهم أن العدالة ليست فقط في قاعات المحاكم، بل هي جزء من السياسة والدبلوماسية أيضًا.
آخر محطات حياته المهنية كانت في أعلى مراتب القضاء الأردني، عضوًا في المجلس القضائي الأعلى، وقاضيًا في محكمتي التمييز والعدل العليا. ولأنه رجل لم يعرف المجاملة في عمله، منحه الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، وسام الاستقلال من الدرجة الأولى. وسام لم يكن تكريمًا عاديًا، بل كان رسالة تقول: هذا الرجل فعل للوطن ما لم يفعله كثيرون.
حتى بعد رحيله، لم يغب الطراونة عن المشهد. عمان، التي يعرف كل زاوية فيها، احتفظت باسمه حين أطلقت على أحد شوارعها اسمه. هذا الشارع ليس مجرد طريق؛ إنه شهادة حية بأن إبراهيم الطراونة كان وسيظل جزءًا من ذاكرة هذا البلد.
في كل قضية فصل فيها، في كل مظلوم أعاد إليه حقه، وفي كل كلمة نطق بها خلف منصة القضاء، كان الطراونة يقول: العدالة ليست اختيارًا، إنها واجب. اليوم، ونحن نستذكره بعد 39 عامًا من الغياب، نعرف أن بعض الرجال لا يموتون، لأن الوطن الذي بنوه بعرقهم وأمانتهم يظل شاهدًا على عظمتهم.
إبراهيم الطراونة لم يكن مجرد قاضٍ؛ كان قصة عن الشرف المهني، عن الإخلاص، وعن رجل آمن أن العدالة لا تُشترى ولا تُباع، بل هي حق يُصان.