سليم عزوز
فبينما يتابع العالم أخبار الثورة السورية، التي أذهلته، إذ بشبكة «بي بي سي»، صاحبة التغطية التلفزيونية الباهتة للحدث، مشغولة بأمر آخر، لتعلن قبل قليل من كتابة هذه السطور، إنها ستطلق خدمة إذاعية موجهة إلى سوريا ودول الجوار، فقلت من فوري: إنه الباب الذي سيدخل منه الشيطان، حوالينا لا علينا!
هذا تصرف ذكرني بتصرف مشابه، بعد نجاح الثورة المصرية في إجبار مبارك على التنحي، وبينما الناس في فرح وجدل حول المستقبل، إذا بمن يختفي ليخطط للاستفادة مالياً من الثورة، فكانت محطة تلفزيونية، تستخدم اسم الثورة، «التحرير»، والتي لم تكن محطة فضائية فقط، ولكن وجريدة أيضاً، وكان المالك الفعلي هو رجل أعمال من عهد مبارك، جاء ليغسل سمعته، أما صاحب الفكرة العبقرية والتاجر الشاطر في المجال، وهو إبراهيم عيسى وشقيقه، فكانوا ملاكا بـ «المجهود»!
وبعد ذلك باع الشريك بمجهوده القناة وخرج منها، ومع أفول نجم الثورة، وانتهاء «التحرير» كرمزية، بيعت لصاحب القسمة والنصيب، لتصبح قناة «تن»، أما «التحرير» الصحيفة فقد فشلت، وبيع الاسم لرجل أعمال آخر من عهد مبارك، كان يحتاج للاسم لغسيل السمعة السياسية أيضاً، فلما قضى منها وطراً أغلقها، ولم ينتظر حتى لبيعها للشركة المتحدة، والتي لا أظن أن الاسم؛ التحرير، يمثل لها غواية، فالعهد الجديد يعتبر أن مصر عرت كتفها وكشفت ظهرها في ميدان التحرير!
الأهداف السياسية للمشروع
بلا شك فإنه قياسا مع الفارق، فالحالة المصرية مثلت انتهازية لمن يجيد بيزنس الإعلام، وفي حالة «بي بي سي»، فلا بد أن تكون هناك أهداف سياسية وراء المشروع، والـ»بي بي سي»، صفت أعمالها في المنطقة، وفي يناير/كانون الثاني من العام الماضي، صدمت عواطفنا الجياشة بإغلاق المحطة الإذاعية التاريخية «بي بي سي»، بعد عمر ناهز الخامسة والثمانين عاماً، ولم يمنعها من الإقدام على هذه الخطوة القاسية، عواطفنا الجياشة؛ إذ كيف يقوون على هذا الفراق، وهذه الإذاعة جزء من تاريخنا وتاريخ المنطقة، صحيح أن الأجيال الجديدة لم تكن كالجيل المؤسس، فلا قوة في الصوت، ولا همة في الأداء، لكن اسمها يداعب ذكرياتنا، إنها كبيت والدي في مسقط رأسي، لن أسكن فيه، ولست مستعداً لبيعه!
بيد أن الإدارة لم تكترث بعواطفنا وأقدمت على خطوة تدمير ذكرياتنا، بقسوة متناهية، وأغلقت الإذاعة، فقد قررت الانسحاب من المنطقة بعد كل هذه «العشرة الطويلة»، وإن بقيت محطتها التلفزيونية الباهتة المواجهة لنا، فقد تردد أن خطة إغلاقها قائمة، فما حاجة القوم إلى المنطقة؟!
والحال كذلك، ومع أن الانسحاب بدا قراراً لا رجعة فيه، فإن الإعلان عن إطلاق خدمة إذاعية من «بي بي سي» موجهة إلى سوريا ودول الجوار، هو مفاجأة، فما الهدف منها!
من لسعته الشوربة لا يلام إذا نفخ في الزبادي، ودعك من «دكانة إبراهيم عيسى»، فقد كانت «سبوبة» في حدود تصوراته البسيطة، وهي تقوم على اللحظة الراهنة، ولو انتظر بعض الشيء لوجد مشتريا بأعلى سعر من الإقليم، الذي كان يخطط في الانقلاب على الثورة، وكانت وسيلته في البداية هي الإعلام، فأطلق ترسانة إعلامية، بح صوتي وأنا أطلب بتتبع تمويلها، وهي عملية سهلة وميسورة، لكن الحكم الإخواني كان مقتنعا بأنه لن يهزم بعد اليوم من قلة أو من ضعف، فمعه أغلبية الشارع، وقوة الجيش. فكان ما كان!
القادم وصدمة الإقليم
سوريا ستكون في مقبل الأيام هدفاً لإطلاق الصواريخ الإعلامية، هذه قناعتي، لكن قناعتي أن هذا سيكون أجندة الإقليم، الذي لا يزال إلى الآن في صدمة، ولم أكن أتوقع أن تكون هذه الطلعة الجوية من «بي بي سي»!
الصدمة من هول ما حدث، وأيضاً من هذا الانسحاب غير المنظم أمام قوات الثورة السورية، واختفاء الجيش السوري الباسل، وكأنه فص ملح وذاب، وهذا الهروب المفاجئ لبشار الأسد، بدون بيان وبدون إعلان، وكأنه لص كان يستولي على أملاك غائب فلما عاد هرب، عطل قدرتهم على التركيز!
هل يعقل أن يكون هذا أداء رئيس دولة مسؤول، يفتقد حتى الإحساس بالمسؤولية إن لم يكن على بلده فعلى قبيلته، ورجاله، وأنصاره، فإذا كان لا بد من التخلي عن السلطة، فليكن هذا بشجاعة القادة، وليس بتصرفات اللصوص، الذين يلوذون بالهرب في جنح الظلام!
وكما فاجأت الثورة المصرية الإقليم، فقد فاجأ نجاح الثورة السورية الإقليم كذلك، وإذا استبعدنا دولة أو دولتين، فهو إقليم معاد للثورات، فماذا وهي ثورة يقودوها إسلاميون، وأن هؤلاء الإسلاميين نجحوا، في وقت كان هذا الإقليم يظن أنه انتصر في دول الربيع العربي، بالهزيمة الساحقة الماحقة لتيار الإسلام السياسي، ومن مصر إلى تونس إلى اليمن، وفي وقت كان الإقليم قد أعاد دمج بشار الأسد من جديد في المنظومة العربية، فذهب إلى أهله يتمطى، ويدخل القمة العربية في الرياض وهو ظالم لنفسه، فلن يبيد ملكه أبداً، وقد يكون الوارث منه، من صلبه، أو تكون أسماء، فمن يعترض؟!
إن المفاجأة كوم، وهروب بشار في جنح الظلام كوم آخر، فقد اعتقد الإقليم إنه أسد، ولم يكن يظن أنه فأر مذعور!
وهذا كله أربك الإقليم، المعادي للربيع العربي، ومن هنا فهذا المشهد الذي نراه في سوريا لن يستمر طويلاً، فغداً تذهب السكرة وتحل الفكرة، ويلتقطون أنفاسهم ويستردون وعيهم ويبدأ التخطيط، وأداتهم هي الإعلام!
الثورة السورية ليست كالثورة المصرية، والفصيل الديني الذي يمثله أحمد الشرع (الجولاني) ليس الإخوان، ولن يسمح بضرب الثورة من الداخل السوري، وبإنشاء وسائل إعلام تمول من الخارج، ويغض الطرف عن هذا ليثبت انحيازه لحرية الرأي!
فمن الوارد إطلاق إذاعات وقنوات تلفزيونية في الخارج وموجهة للداخل السوري بتمويل الثورة المضادة، وسيتم استقطاب من يتم النفخ فيهم بأنهم قد يكون لهم دور في المستقبل، وقد يتوصلون إلى بشار الأسد، لعلهم يصنعون منه علي عبد الله صالح من جديد!
فرض الوصاية على الثورة
ونتابع الآن محاولة فرض الوصاية على الثورة السورية، فالجميع صاروا حكماء يعطون الدروس في السياسة لـ «الجولاني»، فحتى النظام المصري يطالب بعملية سياسية لا تقصي أحداً، فلا تملك إلا أن تستلقي على قفاك من الضحك، باعتبار أن شر البلية ما يضحك، فهذا النظام الذي يعطي هذه الدروس، هو نفسه من أسس عملية سياسية غير مسبوقة في تاريخ السياسة، وهي أن يقصي الجميع، فحتى الحزب الوطني تم أقصاؤه، وأقام عملية غير سياسية بأشخاص من خارج السياسة لاستيفاء الشكل!
وقد شاهدنا رئيس الحكومة العراقية وهو يتحدث بالنغمة نفسها، لنسأله أين العملية التي جاءت به من الأغلبية السنية في العراق؟!
بيد أن الجميع يرون في أنفسهم مؤهلين لإعطاء الدروس للجولاني وإخوانه، ومن ثم لن يكون مفاجأة أن تطلق محطات إذاعية، وقنوات تلفزيونية تحمل اسم سورية، وتصنع من خلالها معارضة تعمل على إعادة الحكم البائد، أو لإفساد المشهد وإشاعة الفوضى إن عجزت عن إعادة الحكم، وهي الفوضى التي تضرب الآن ليبيا واليمن!
كل هذا مفهوم، فنجاح الثورة السورية في خلع بشار الأسد واسقاط نظامه وتحقيق الاستقرار، من شأنه أن يمثل غواية لبلاد كانت تظن أنه الخريف، لا الربيع، العربي، فضلا عن أن القبول الدولي بشخص مثل أحمد الشرع (الجولاني)، مفزع جداً للإقليم، فما الذي يمنعه في المستقبل أن يقبل غيره، حازم صلاح أبو إسماعيل مثلا، وأحيانا يكون القبول الدولي على مضض، كما حدث في التجربة المصرية من قبول الإخوان، لكن عند وجود أي بادرة أمل في التغيير أو الفوضى يتحول الموقف الغربي، إذن فلتتم تهيئة المناخ لذلك!
والأداة الوحيدة لذلك، هي الإعلام، لكن المفاجأة أن تكون البداية من «بي بي سي» بإطلاق خدمة إذاعية موجهة إلى سورية، فلماذا هذا الكرم الحاتمي، من شبكة بدأت الانسحاب بالفعل من المنطقة؟!
ما هي مصالح القوم في سورية الجديدة لكي يتحملوا فاتورة إطلاق خدمة إعلامية بهذا الشكل، ولماذا ليست هناك خدمة إعلامية موجهة لمصر، أو اليمن، أو ليبيا، أو غيرها من الدول!
عموما، إن لم تؤسس الثورة السورية إعلامها بسواعد المؤمنين بها، فسيكون هذا هو الباب الذي يدخل منه الشيطان!
ولأن إيمان الإسلاميين بالإعلام ضعيف، فالخوف من تكرار التجربة المصرية. من خاف سلم!