أخبار اليوم - حوَّلت رحلته الدراسية الجامعية، إلى رحلةٍ في غياهب السجون، لا يعرف عن الحياة في الخارج شيئًا كأنه سافر إلى أزمنة ماضية، معزولاً عن عائلته التي لم تعرف مصيره؛ وعددته "مفقودًا أو ميّتًا"، مضت سنة وسنتان وعشرة سنين وطالت المدة التي بلغت 42 سنةً ذاق فيها الفلسطيني من القدس المحتلة وليد بركات كل ألوان العذاب داخل سجون النظام السوري المخلوع، كان آخرها سجن "صيدنايا" المسمى "المسلخ البشري" كما يسميه السوريون ومنظمات حقوق الإنسان.
في ثمانيات القرن الماضي، حطت أقدام بركات مطار دمشق بهدف الدراسة الجامعية بالعاصمة السورية عندما ودع عائلته، وكان عمره 25 سنةً، كان استقبال الضيف والوافد الجديد مختلفًا عما توقعه، فأثناء دخوله مطار العاصمة اعتقل بـ "صورة غير إنسانية" كما وصف، وبدأ التغييب القسري حتى قبل أن يجلس على مقاعد الدراسة، بدون تهمة وبلا "ذنب ارتكب!" دون أن يمس النظام بشيءٍ، "ربما لمجرد التخمين أو هواجس الخوف" كما يعتقد كثيرون عن سبب التغييب داخل السجون السورية.
طالت الرحلة الدراسية التي انتظرت فيها أمه لحظات عودته، ولم تدر أن نظام الاستبداد سلمه شهادة حكم مؤبد بدلاً من الشهادة الجامعية، وأجلسته على أرضية باردة تحت الأرض بلا أغطية أو فراش بمساحة لا تزيد عن متر ونصف مربع بدلا من المقاعد الدراسية، وأنه قرأ المنهج كان تعذيبا مورس عليه عمليًا.
صديق الجدران
"وجهت لي تهم ما أنزل الله بها من سلطان، لكني حاولت جاهدًا أن أنفي معظم ما وجه لي دونما جدوى" محاطا بجدران بيضاء وإنارة وهو يمسك هاتفًا لأول مرة في حياته، يروي بركات رحلته المؤلمة في سجون النظام السوري.
ترحل ذاكرته لبدايات الاعتقال، فيقول: "مكثت بسجن "المزة" العسكري ثلاث سنوات، ثم حولت إلى سجن "تدمر" التأديبي الذي لا يشبهه مكان على وجه الأرض، لقذارته وسوئه وسوء المعاملة فيه، لكن الله نجاني من هذا السجن بعد 16 سنة من الاعتقال، ونقلت عام 2001 إلى سجن صيدنايا وأكملت باقي مدة السجن فيه، حتى عرفت جغرافيته والكثير عنه بالتفصيل".
السجن الذي يتكون من ثلاثة طبقات من الأعلى ويشبه عند دخوله السجون العادية، يخفي تحته أسرارًا مدفونة، وأبوابا سرية لا يعلمها أحد، وطوابق سجن أرضية تستوعب عشرات الآلاف من المعتقلين، وهو المكان الذي لم يستغرب منه بركات كونه يعرفه جيدًا، ويعرف ما يحدث بداخله.
شد مشهد وصول أهالي المعتقلين للسجن بعد سيطرة المعارضة المسلحة عليه وتحرير السجناء، بركات وهو الذي كان قبل أيام في داخل إحدى الزنازين مضيفا: "كثيرا من الناس بحثوا عن أبنائهم في هذا السجن الذي يفوق الوصف والخيال من الأعداد الهائلة التي ذهلت عندما رأيتها والناس تتوافد كيوم الحشر يبحثون عن أولادهم وأبنائهم وزوجاتهم، والذي لا ينسى من عادوا يجرون الحزن والألم لفراق أحبتهم، والذي أعرف مصيرهم وأينما ذهبوا".
طيلة سنوات أسره، كان يسمع بركات صرخات المعذبين، وأصوات شهقاتهم الأخيرة وهم يقادون إلى مقصلة الإعدام، لكنه لم يرَ ورغم وجوده بالسجن مطحنة الجثث وهي طريقة يتم بها التخلص من الجثامين بضغطها داخل مكبس حديدي لتسهيل التخلص منها، وربما كان سيلاقي نفس المصير لو طواه الموت.
ملامح تغيرت
بملامحه التي غيرتها سنوات السجن ورأسه الذي كساه الشيب، وصوته المتألم، يتابع "بلغت من العمر 67 عاما وأصبحت بخواتيم العمر وخواتيم الحياة، التي من الله علي فيها أن أخرج من السجن حيًا، وكان لله حكمة أن أكون أمامكم، وكان الأمل يراودني أن النصر قريب".
"عشت في السجن ورأيت فيه الصغير والكبير. هذه المرحلة انكفأت وذهبت بمن كانوا فيها" تتنقل ذاكرة بركات المليئة بالأحداث والمواقف، بين محطات زمنية مختلفة عاصر خلالها أربعة عقود داخل جدران مظلمة.
خرج بركات والتقى بمن بقي على قيد الحياة من عائلته، استغرقت رحلة سفره للدراسة اثنين وأربعين عاما بدلا من أربع سنوات، كان ينتظر أن يعود ويجد أمه في انتظاره، لكنه رجع وكان الموت قد طوى والديه وأخوته، وكبر من كان يعرفه من الأطفال وأصبح لديهم زوجات وأولاد.
عن هذا الغياب الطويل، يداهمهم البكاء قائلا: "لا يوجد ما يصف هذه اللحظات عندما تعرفت على أهلي الذين أعرفهم، والذين خلقوا بعد اعتقالي وأصبح لديهم أولاد، حسرتي الكبيرة كان بودي أن أرى أمي وأبي وأخوتي، كان الحزن مفعما بالفرح والحزن".
في لحظة الحرية المنتظرة ورغم انتظاره الطويل لها، كانت مشاعره تتأرجح بين فرح على هذه الحظة التي كانت "خروج من قبر أحياء" وحزن على فراق عائلته، "السجن مدرسة يتعلم فيها الإنسان شماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء، قليل من الناس يعيشون هذه الفترة والمدة التي عشتها، قليل من الناس لم يتجاوزوا نصف المدة إلى أن وافتهم المنية حسرة وقهرا".
تحدث بركات عن معاناته في لحظات أسره، والتي كان فيها يحتاج إلى أهله، "كنت أعزلا بالسجن لا أملك مقومات الحياة، حتى أنني عرفت حكمي بالسجن المؤبد بعد 30 عاما من السجن".
لم تكن المحاكمة، كما تابع، إلا "شكلا صوريا" ورغم طول المدة التي وضع النظام السوري "الموت" نهاية لها كما كان مصير الآلاف من المعتقلين غيره، رأى بركات النور لكن ما تركه السجن لم يمح من ذاكرته، "مورس بحقي الكثير داخل السجن، وترك على جسدي آثارا لا زالت باقية وأمرضا لا زالت تعج بجسدي الهش نتيجة ضعفي وقلة إمكانياتي وعدم إيصال الحقيقية لمن يعرفني، حول سبب اعتقالي ولماذا أنا داخل السجن".
وختم بقهر "كنت أتمنى أن يختصر الوقت حتى تقل معاناتي في إيصال مصيري".