أخبار اليوم - عندما سقط نظام بشار الأسد وفرّ الرئيس المخلوع من العاصمة دمشق، سارعت الحشود، خاصة أهالي المعتقلين، إلى سجن صيدنايا، الذي طالما ارتبط اسمه بالرعب والموت، وكان هدفهم البحث عن ذويهم ومعرفة حقيقة ما جرى وراء أسوار ذلك المعتقل، المعروف باسم "المسلخ البشري".
لكن ما اكتشفوه داخل أكبر معسكرات الموت في سوريا، تجاوز كل التصورات، فقد تفاجئوا بوجود "مكبس آلي"، أظهرته مقاطع الفيديو التي انتشرت، مؤخّراً، وقيل إنّه كان يُستخدم للتخلّص من جثث المعتقلين بعد إعدامهم شنقاً، أو وفاتهم تحت التعذيب.
والأشد قسوة، ما أشار إليه آخرون -منهم معتقلون سابقون في سجن صيدنايا- بأنّ "المكبس" ربما كان يُستخدم أيضاً في تنفيذ بعض عمليات الإعدامِ، لسجناء وهم أحياء.
"مكبس صيدنايا"
"المكبس الآلي" أو "مكبس الجثث" أو "مكبس الموت"، لم يكن يتصوّره أحد، ولم يكن مُدرجاً في العديد من التقارير الحقوقية، التي أشارت إلى نحو 72 أسلوباً من وسائل التعذيب في سجون نظام الأسد السابق ومعتقلاته ومراكز الاحتجاز في الأفرع الأمنيّة والمشافي العسكرية.
وبحسب الشبكة السورية لـ حقوق الإنسان، فإنّ وسائل التعذيب داخل سجون "الأسد" الهارب، لا حصر لها، وأبرزها الصعق الكهربائي، والاغتصاب، وحرق الأجساد بالزيت والمعدن المٌذاب، مروراً بأساليب سحق الرؤوس بين جدران الزنزانات أو إدخال المسامير والإبر في أجساد المعتقلين.
إلّا أنّ اكتشاف "المكبس البشري"، أضاف جزءاً من مشهد أشمل أثار صدمةً وغضباً واسعاً، حيث حبال الشنق التي ما تزال تحمل آثار دماء جديدة، إلى جانب غرف الإعدام التي تفوح منها رائحة الموت، وأدوات التعذيب التي فاقت في وحشيتها كل السجون والمسالخ البشرية المعروفة في العالم.
وعلى منصّات التواصل الاجتماعي، اشتعلت التعليقات حول ما سمّاه بعضهم "مكبس الإعدام" أو "مكبس الجثث"، حيث غرّد بعضهم قائلاً: "فقط في سجون آل الأسد، يوجد مكبس لتفريغ سوائل الجسم بعد كسر عنق السجين".
وعلّق أحدهم في وصفٍ مؤلم: "في أروقة سجن صيدنايا، حيث تتشابك ظلال الموت مع أنفاس السجناء، يظهر مكبس الجثث كرمز بشع لوحشية منظمة، إنّه تجسيد صارخ لاختزال الإنسان إلى مجرد رقم".
وبحسب آخرين، فإنّ مكبس سحق البشر في سجن صيدنايا، هو آلة حديدية هيدروليكية وزنها 40 طناً تقريباً، تكبس الجثّة وتطحنها وتفرّغها من السوائل (الدماء) حتّى تصل إلى وزن لا يتجاوز الـ2 كيلو، قبل تذويب ما تبقّى منها كلّياً، بمواد كيميائية.
وأضافوا أنّ "عقلية المستبد الفاشل لن تفكّر أبداً في أي شيء نافع، أقصى إبداع تصل إليه هو المكبس الآلي، هي عقلية الكبس والكبت، تكبت الناس أحياء وتكبسهم أمواتاً.. كبسهم الله جميعاً".
يبدو أنّ هذا "المكبس البشري" لم يكن مجرّد آلة ميكانيكية لـ سحق الأجساد فقط، بل هي تجسيد صارخ لفلسفة سحقٍ مارسها نظام الأسد البائد بحق معارضيه، طوال 50 عاماً من حكمه للبلاد، وإخفائهم بطريقة تشير إلى نسيانهم وكأنّهم لم يكونوا أبداً.
ورغم فرحة عارمة عمّت أرجاء سوريا والعالم، بخروج آلاف المعتقلين من سجن صيدنايا وغيره من معتقلات نظام الأسد السابق، لكن الغصّة لم تغب عن القلوب، فمئات المشاهد المؤلمة التي حملها المعتقلون معهم، والقصص المرعبة التي خرجت من جدران السجن، بقيت جرحاً نازفاً في جسد هذه الفرحة، التي سحقها أخيراً "مكبس البشر".
وزادت غصّة السوريين وأهالي المفقودين، عقب إعلان الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، عملية انتهاء البحث عن معتقلين محتملين داخل السجن، مشيراً إلى أنّه "لم يُعثر على أي زنازين أو سراديب سريّة غير مكتشفة".
ورغم تحرير مئات المعتقلين، خلال الأيام الأخيرة، فإنّ مصير عشرات الآلاف منهم ما يزال مجهولًا، وسط اعتقادٍ بأن بعضهم قد لقوا حتفهم في هذا المكان الرهيب، الذي جسّد أبشع صور الاستبداد والقمع في تاريخ سوريا الحديث.
نعم، سجن صيدنايا وكلّ معتقلات الموت والإجرام للنظام البائد، كانت أمكنة تعكس مدى قدرة الظلم على سحق الإنسان، وكيف يمكن لأداوت تعذيب وحشية أو آلة حديدية واحدة (المكبس) أن تطمس هويته وتحوّل حياته إلى سرابٍ وصمتٍ أبدي، لكنّ أرواح الضحايا المعلّقة على جدران التعذيب ستواصل الصراخ دائماً: "كنّا هنا، وكان لنا حلم وأمل".