سهم محمد العبادي
وأخيراً، انكسر القيد، وسقطت أسوار الظلم التي أحاطت بالسوريين لعقود طويلة، رحل النظام الذي جعل من البلاد سجناً كبيراً، تاركاً وراءه إرثاً من القهر والعذاب الذي لم تشهد له الإنسانية مثيلاً، إلا في فلسطين المحتلة.
الأسد فرّ، والنظام انهار، لكن مشاهد الرعب التي خلفها في سجون الموت ستبقى شاهداً على تلك الحقبة المظلمة.
في سجن صيدنايا، "المسلخ البشري" كما يسمونه، لم تكن صرخات الألم حكرًا على السوريين فقط، هناك كان السجناء العرب أيضاً جزءاً من المأساة، محشورين في زنازين مظلمة لا ترى النور، كانوا كأنهم نسوا جنسياتهم ولهجاتهم في أعماق تلك الأقفاص، ليتقاسموا جميعاً المعاناة نفسها.
سُجنوا لأنهم قالوا "لا"، لأنهم حلموا بوطن بلا قيود، فوجدوا أنفسهم ضحايا آلة القمع التي لا تفرق بين عربي وآخر، وفي أقبية النظام، عاش السوريون والعرب تحت وطأة استبداد جعل حتى أبسط حقوق الإنسان مجرد حلم بعيد المنال.
شخصية المقدم رؤوف، كما قدمها مسلسل "الولادة من الخاصرة"، لم تكن خيالاً درامياً بقدر ما كانت انعكاساً لواقع النظام السوري، رؤوف لم يكن مجرد ضابط مستبد، بل رمزاً لنظام استغل سلطته لتحطيم النفوس قبل الأجساد، وحوّل السجون إلى مساحات للموت البطيء، حيث تتحول الحياة إلى سلسلة من الآلام اليومية التي لا تنتهي، فكان رؤوف صورة مصغرة لمنظومة أكبر ترى في القمع وسيلة للبقاء، وفي الخوف لغة للتخاطب مع الناس.
الذين خرجوا من تلك الأقبية، سواء سوريون أو عرباً، حملوا على وجوههم ملامح الرعب الذي لم تفارقهم، وجوه شاحبة، عيون يملؤها الفزع، أجساد نحيلة بالكاد تحمل أرواحها، وأصوات تنهار تحت وطأة التعذيب، أحد الناجين قال: "كان السجن مكاناً يُذبح فيه الجميع بصمت... لم يكن هناك فرق بين لغة وأخرى، الكل ضحية آلة القمع ذاتها"، ففي كل زنزانة كان هناك "رؤوف" يمارس سلطته المطلقة دون رادع، ويحول الظلم إلى ممارسة يومية لا تنقطع.
في الشوارع، خرج السوريون يحتفلون، ليس فقط بسقوط النظام، بل بتحرر أرواحهم التي كانت مكبّلة بالخوف، زغاريد النساء، صيحات الشباب، وأهازيج الثورة ملأت الأجواء، كأن الوطن بأكمله ينبض من جديد، ولكن وسط الفرح، لا أحد ينسى حجم التحديات التي تنتظرهم.
سوريا اليوم تقف على أنقاض نظام قمعي، خلف وراءه بلداً منهكاً، اقتصاداً مدمراً، وبنية تحتية تحتاج إلى سنوات لإعادة بنائها، لكن التحدي الأكبر ليس في الحجر، بل في الروح وإعادة بناء الإنسان السوري الذي عانى القهر، والمعتقل الذي خرج من جحيم الزنازين، والنازح الذي شردته الحرب، واللاجئ الذي فقد وطنه.
رغم كل شيء، السوريون اليوم يملكون ما لم يمتلكوه منذ سنوات، الأمل، هذا الأمل الذي وُلد من رحم الألم، سيقودهم نحو وطن يحلمون به، وطن لا مكان فيه للظلم ولا للطغاة، وطن تسوده العدالة والمساواة، وطن يعود فيه الإنسان السوري إلى مكانته الحقيقية.
سوريا اليوم تولد من الخاصرة، من عمق المأساة، لكنها تولد أكثر قوة وصلابة، وذكريات سجون النظام وصيدنايا ستبقى شاهدة على حقبة قاسية، تحمل فيها السوريون والعرب معاً عبء القهر، لكنها ستكون أيضاً دافعاً للسوريين لبناء وطن لا مكان فيه لجدران الظلم.
سوريا الجديدة ستنهض، وستكون وطناً يليق بتضحيات أبنائها، حفظ الله سوريا وأهلها.