أخبار اليوم - صوت انفجار يخترق أذنيها، ارتجَّت معه الغرفة واهتزَّ قلبها، أصوات انفجارات متتالية، ارتجفت أحاسيسها، وافتعل الخوف قلقًا بداخلها؛ كلِّ شيء شاهدته بعينين واسعتين، حتَّى أسدل الظَّلام ستارةً على نور عدنان الغول (34 عامًا) الَّتي لم تدرك أنَّ الهزَّة الأرضيَّة الَّتي شعرت بها، والثِّقل الَّذي أصبح فوقها لم " يكن مجرَّد أغطية وضعت فوقها وهي نائمة " كما اعتقدت، ولم تستوعب أنَّ بيت شقيقة زوجها الَّذي نزحوا إليه مع أشقَّائه ووالديه وبعض شقيقاته تعرَّض للقصف بمخيَّم النُّصيرات السَّاعة الرَّابعة وعشرين دقيقةً، وكان عددهم 48 فردًا، فجر 21 نوفمبر/ تشرين الثَّاني 2023.
ذهب اعتقاد الغول أنَّ أحد بيوت الجيران تعرَّض للقصف، ووصلها بعض الرَّدم، ولم تستوعب أنَّ القصف طالهم هم وليس غيرهم، عندما لم تستطع تحريك أيِّ جزء من جسدها أو إزالة الثِّقل الجاثم فوق رأسها، وكانت محاصرة تحت الرَّدم بشكل تامّ، وحينما ارتدَّ صوتها خاويًا بلا مجيب وهي تنادي على أطفالها الَّذين ناموا بغرفتها وهم ليان (13 عامًا) وعدنان (12 عامًا) وآدم (9 سنوات) وأمُّها، إضافة لابنها عز الدِّين (15 عامًا) الَّذي ارتدى ملابس جديدةً ونزل عند والده محمَّد عليان، وأعمامه ولم تره، كما لم ترد أمَّها الَّتي كانت تنام بغرفتها على ندائها.
"يمكن مشُّ سامعيني" هكذا برَّرت عدم الرَّدِّ أو حاولت مواساة نفسها، وأمضت وقتها من السَّاعة الرَّابعة فجرًا حتَّى السَّادسة صباحًا، بين النَّوم المتقطِّع والدُّعاء للمولى أن يفرج عنها، حتَّى سمعت أحدهم يصرخ " في حدّ عايش " لوهلة أدركت خطورة ما يجري، وبدأت بحبس أنفاسها تخشى أن يكون قد طال مكروه أبنائها الأربعة وزوجها وأمَّها وكلِّ العائلة، لتعود من ذلك الشُّرود، وتجيبه من تحت الرَّدم " أنا هان طلعوني ".
جرعة أمل
بإزالة بعض الحجارة ظهر رأسها، "أخذت نفسا وقتها وطلبت منهم أن يساعدوني في إزالة الركام. بدأت بإخراج قدمي ثم سحبوني للأعلى، وقتها رأيك فرشة طفلتي ليان سألتها عنها، وأشرت لمواقع أطفالي وكانوا يبحثون عنهم وسرت معهم نحو الإسعاف، ثم رفضت التحرك دون الاطمئنان على أطفالي، لكن أحدهم أعطاني جرعة أمل عندما أخبرني أنهم نقلوا مصابين أحياء للمشفى، فذهبت" يحترق قلبها وهي تعيد تقليب المشاهد، تقص لـ "فلسطين أون لاين" حكايتها.
تحاول لملمة المشاهد المتناثرة في زحام ذاكرتها "ذهبت للمشفى، فوجدت الساحة كلها جثث، تنقلت بينهم أتعرف على وجوه الشهداء حتى وجدت جثة طفلي "آدم" وأمي وباقي العائلة، كنت أتمنى أن أجد طفلا حيًّا، وألهج بالدعاء بذلك كلما قفزت عن جثة شهيد، حتى أيقنت أن الكل استشهد".
في مجزرة بشعة استشهد خلالها 37 فردًا من عائلة زوجها (عليان) وقفت "نور" أمام فقد ثقيل برحيل زوجها محمد عليان وأبنائها عز الدين وليان وعدنان وآدم، وهي التي جربت الفقد عندما استشهد والدها القائد عدنان الغول، لتشرب الفتاة التي ذاقت ويلات اليتم من كأس الفقد مرتين، زاد قسوته استشهاد أمها معها.
لم يكن المشهد سهلًا على قلبها، وهو ترى أبنائها ممددين أمامها، وهم الذين كانوا قبل ساعات يبادلونها الحديث والحياة، والآن تنظر إلى جثثهم نائمين ولا تستطيع إيقاظهم، كلهم حزموا حقائب الرحيل وتركوها تتجرع مرارة الفقد وقسوته وحدها، ولا أحد يستطيع حمل هذا الثقل عن قلبها.
قبل المجزرة بيوم، استهدف جيش الاحتلال بيت شقيق صاحب المنزل الذي نزحت إليه العائلة، انهمك زوجها محمد وأخوته في انتشال المصابين والشهداء وقضوا نهارهم بمكان الحادث وعادوا بساعات متأخرة من الليل.
تجمع الأخوة على طعام العشاء الأخير فيما بينهم، بعدما اغتسلوا من آثار الغبار الذي امتلأت به ملابسهم، وأدوا صلاة الجماعة، "قعدنا كلنا مع بعض نتحدث عن أخبار الهدنة المرتقبة، ويومها كنت فخورة بابني عز الدين الذي ذهب مع الشباب بلا خوف وأخرج الأشلاء بيده، وقتها قلت له في نبوءة مستقبلية: "أنت بتطلع دكتور، ما بتخاف من الدم"، وقت بادلني بإبتسامة بأنه أصبح كبيرا وبات يرتكن عليه، أعطيته ملابس جديدة وذهب ليغتسل بينما صعدت عند السيدات ولم أره بالملابس الجديدة" بصوت متماسك يخفي بين حروفه حزنًا كبيرًا لم تبح به تروي.
قبل القصف، توزعت هي وأبنائها ليان وعدنان وآدم داخل الغرفة، ترافقهم والدتها، لم تقفز ذاكرتها عن كلمات أمها وكأنه حدس داخلي عندما قالت "الليلة دورنا"، لتتساءل ابنتها "ليش هيك بتحكي!؟" وأخبرتها أنه يمكن نقلها لمدرسة إيواء عند ابنتها الأخرى لو شعرت بالخوف، لترد الأم: "أنا مش خايفة. أنا بستنى هدا اليوم من زمان. بتفكريني عايشة بعد أبوك وأخوتك".
تتوقف الغول عند المشهد الأخير مع أمها: " نامت وهي مطمئنة ثم استيقظت قبل القصف بربع ساعة وسألتني عن التوقيت، فأخبرتها أنها الرابعة وست دقائق، ثم عادت للنوم وكنت أنتظر صلاة الفجر حتى شعرت بالهزة ثم بظلام دامس".
عائلة مليئة بالتضحيات
لم تقف نور أمام وداعها الأول، بل جربت الفقد ثلاث مرات قبل ذلك عندما اغتال الاحتلال والدها القائد عدنان الغول وهي شقيقة الشهيدين "محمد وبلال"، خرجت من عائلة لها تاريخ طويل من الجهاد والمقاومة والتضحيات، تيتمت وهي بعمر 15 عاما، وبعد ثلاث سنوات تزوجت من ابن عمتها محمد عليان وعاشت في كنف عائلته 16 عاما.
عن علاقة عائلية غلفتها المودة والحب، يغلف صوتها أيضًا احترام كبير لهذه العائلة، فتقول: "كنا متماسكين مع بعضنا البعض، يجمعنا حب واحترام لأبعد الحدود، جمعاتنا ومشاويرنا ومناسباتنا كلها قضيناها مع بعض بكل حب، وكانت حياتنا جميلة ونحب الخير للغير والكل يحبنا".
حتى عندما قررت العائلة النزوح لبيت شقيقتهم بمخيم النصيرات، قرروا النزوح مع بعضهم لحين العودة لمنزلهم بمدينة غزة، تصفهم الغول بأنهم كـ "خلية النحل"، يوزعون المهام اليومية لتوفير أفضل بيئة معيشة للجميع، تقول: "كنا نطبخ ونعجن ونخبز على النار، ونأكل بأجواء فكاهية الكبير والصغير يحضر الجلسة، نتابع الأخبار ونتألم على الفقد، نخاف مع بعضنا ونهون على بعضنا البعض، نترقب رجعة الشباب عندما كانوا يذهبون لطوابير الخبز والمياه ونسهر بأجواء القصف ونحاول تهدئة الأطفال".
عن والدها، يمتلأ صوتها بالفخر "كوني ابنة قائد، فهذا شيء فخر لنا وللأمة كلها لأنه لم يكن مجرد قائد عادي، فهو أول من صنع القنبلة والصاروخ بغزة، وأول من حرك المقاومة والعمليات بالداخل المحتل مع الشهيد المهندس يحيى عياش، وكانت حياتنا كلها أمنيات بشكل كبير، نتنقل من بيت لبيت بغزة وفي المدارس أحيانا بأسماء مستعارة حتى لا يعرفنا أحد وكنا أطفال لكن تربينا على حفظ السر".
فهمت الغول منذ طفولتها أنها يمكن أن تفقد أعز شخص بأي وقت، عاشت في بيئة فيها خوف وتحمل مسؤوليات وتحديات، وكل ما مرت به بعد زواجها عاشت مثله في طفولتها، عاشت الحصار من قبل أجهزة الأمن، والاعتقالات، جربت الإقامة الجبرية.
استشهد القائد الغول عام 2004 وعمره 46 عاما بعد استهداف سيارة كان يستقلها بصاروخ. وأطلقت كتائب القسام اسمه على بندقية القنص "غول" التي كشفت عنها إبان الحرب على غزة عام 2014، ويصل مداها إلى كيلومترين، وهو يعد من أبرز قادة التصنيع لدى المقاومة الفلسطينية وكان رائد التصنيع العسكري في كتائب القسام.
حتى اغتيال والدها بدأت قصة كفاح أمها بالحياة لوحدها مع رحيل السند الأساسي، وهي تربي خمس بنات وولدين، تستذكر: "كانت عمتي تحاول خطبتي لابنها محمد، لكن أمي كانت ترجئ الأمر لما بعد التوجيهي، وفعلا حدثت الخطبة وكان محمد سندا لي بدراستي حتى تزوجنا، كانت الخطبة عائلية كون والدي خاله وليس بأنه جاء ليخطب ابنة قائد".
بين دراسة جامعية وحمل مسؤولية البيت والحمل، أعانها زوجها على تجاوز الكثير من الصعوبات في الحياة، فكان نعم الزوج والصديق والأخ والأب والابن، بارا بأهله وصديقا مع إخوته وشقيقاته، حنونا على أولاده والجميع يشهد له بذلك، "كانت علاقته مع أولادهم كأنه صاحب لهم وليس أبا فقط".
امتاز زوجها بأنه لين الحديث مع أولاده، مهتم بالاستماع وتوجيههم بتعليمهم، ليس فقط بالمدرسة بل بكل جوانب الحياة، وكانوا منخرطين بنواد رياضية ككرة القدم والسلة وتعلم السباحة وحساب الذكاء العقلي، والرياضيات، فضلا عن حفظ القرآن ودورات تقنية، كثيرا الهدايا الكثيرة التي كان يحضرها لأولاده وأبناء أخوته.
وجع قلبها يتحول لكلمات تنهمر من صوتها "كانت حياتنا حلوة، ولم نقصر بأحد، والكل يشهد لهم بالاستقامة والصلاح، ولو أردت كتابة مجلد لن أوفيهم حقهم".
امتاز نجلها البكر عز الدين، بابتسامة لا تفارق وجنيته، هادئ محبوب، ذكي خفيف الظل لاعب كرة قدم ولعبة رفع الأثقال رغم صغر سنه، كان لديه طموح كبير في اللعبتين، أما شقيقته "ليان" حبيبة والدها مجتهدة بالمدرسة وهي لاعبة كرة سلة وشغوفة بتعلم كل شيء جديد، عدنان الذي حمل اسم جده القائد، المجتهد الحافظ لأجزاء من القرآن الكريم المداوم على الصلاة والأذكار، أما آدم آخر العنقود فكان اللطيف المشاغب الذكي المحبوب.
كان طموح الأطفال بأن تتوقف عجلة الحرب ويعودوا للبيت، ولحياتهم الطبيعية ولكن شاءت الأقدار أن يلتحقوا بقوافل الشهداء بمجزرة دموية تساقطت فيها أشجار العائلة، أما نور الغول فسافرت لمصر لاستكمال العلاج وإجراء عملية جراحية ليست مرتبطة بإصابتها من القصف، تعافت واستكملت علاجها، لكنها لم تتعافَ من ألم الفقد ولم تجد ما يوقف نزيف قلبها.
شجرة تساقطت أوراقها
ضمت المجزرة قائمة طويلة من أبناء العائلة، من أعلى الشجرة استشهد الأب عبد العزيز عليان (86 عاما) وزوجته زينب الغول، واستشهد نجلهما محمود عليان واستشهدت معه زوجته وأولاده الأربعة أصغرهم طفل رضيع لا يتجاوز عمره ثلاثة أشهر، واستشهد نجلهم "محمد" مع أولاده الأربعة أكبرهم عمرهم 14 عاما وأصغرهم ست سنوات بينما أصيبت زوجته نور عدنان الغول، وهي الوحيدة الناجية من عائلتها، فيما استشهدت أمها التي نزحت معهم.
واستشهد نجلهم يوسف عليان ويعمل ممرضا، ونجت زوجته وأولاده الذين لم يتواجدوا بالبيت لحظة القصف وكانوا في منزل آخر وهما طفل وبنتان.
واستشهدت ابنتهم "نسرين" هي ونجلاها الصيدلي عصام وطفليه، والمهندس حسام عبد ربه ويعمل في شركة الاتصالات الفلسطينية "أوريدو" وطفله، واستشهد بنات نسرين وهن: إسراء وأفنان ومسك ورغد ومعظمهن احتفلوا بتخرجهن الجامعي حديثًا.
ضمت قائمة الشهداء نجلتهم "جيهان" وزوجها خالد الحملاوي، وابنها موسى وابنتها لينا مع زوجها وطفليها "يحيى ولين"، واستشهد من عائلة الحاج سارة وقسام وديما الحاج والأخيرة استشهد معها زوجها وطفلهم الرضيع وهي تعمل بمنظمة الصحة العالمية.
نجى من المجزرة الطبيب عبد اللطيف الحاج الذي كان على رأس عمله بالمشفى واستهدف منزله، وزوجته "آية" التي أصيبت في كسور في عظام القفص الصدري وأصيبت ابنتها، ونجى حفيداها عبد الرحمن (7 أعوام) وأصيب بكسور بالحوض وشقيقته آية (14 يوما) والتي ولدت خلال الحرب وقدر لها أن تعيش وتخرج من تحت الردم حيّة وأصيبت بنزيف في الدماغ، ونجى طفلان من أبناء أخواتها من المجزرة.