سهم محمد العبادي
الشهيد وصفي التل، اسمٌ نقش في ذاكرة الأردنيين كرمز للوطنية الحقيقية والعمل الدؤوب.
لم يكن وصفي مجرد رئيس وزراء عابر، بل كان رجل دولة حمل على كاهله هموم الوطن والأمة وطموحاتها، وسعى جاهدًا لتحقيق نهضة تعتمد على إرادة الشعب، وترتكز على مبادئ العزة والسيادة والاعتماد على الذات بعد الله.
تميز فكر وصفي ونهجه بالصلابة والعزم، فقد جمع بين الحزم والإبداع، مما جعله مثالًا يُحتذى في القيادة، ولم يكن يعترف بالمستحيل، بل كان يتحرك بإصرار لتحقيق أهداف وطنه، متحديًا كل الظروف والعقبات.
على الرغم من المناصب الرفيعة التي تقلدها، بقي وصفي مخلصًا للبسطاء من شعبه، وعاش حياة متواضعة، ورفض أن يستغل موقعه لتحقيق مكاسب شخصية، وكان يلجأ إلى الاقتراض عند الحاجة، مثل أي مواطن عادي، ويدفع أقساطه بانتظام من راتبه.
رجولة وصفي التل تجلت في مواقفه الحازمة ضد المحسوبيات والفساد، ولم يكن يرضى بالتراخي في العمل العام.
ففي أحد مواقفه الشهيرة، جلس وصفي مكان وكيل إحدى الوزارات الذي تأخر عن عمله، وبدأ بتوقيع معاملات المواطنين، وعندما وصل الوكيل متأخرًا، قال له وصفي بحزم: "ارجع إلى بيتك، فهو أولى بك، هنا مكان عمل وخدمة الناس".
كان وصفي التل يرى في الأردن دولة ذات سيادة لا تقبل الإملاءات، مؤكداً أن قراراتها يجب أن تنبع من إرادة الشعب، ولم يكن يقبل أن يخضع الأردن لضغوط أو هيمنة أي طرف خارجي، بل كان يرى أن الأردنيين أدرى بمصلحتهم، ما جعله يقف ضد محاولات التدخل في شؤون الوطن.
اعتقد وصفي أن الأردن يمثل العقبة الأكبر أمام المخططات الصهيونية لتصفية القضية الفلسطينية، وكان يؤمن أن إسرائيل تستهدف إسقاط الأردن لتحقيق أهدافها.
ومن هذا المنطلق، دعا وصفي إلى بناء خطة وطنية شاملة تعزز قدرات القرى الحدودية، وتشجع الشباب على التمسك بأرضهم والدفاع عنها، ومن هذه الرؤية، أطلق فكرة "معسكرات الحسين للشباب"، التي صُممت لإعداد جيل مرتبط بأرضه، قادر على مواجهة التحديات.
وفي سياق رؤيته الاقتصادية والاجتماعية، كان وصفي أول من أطلق الخطة السباعية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية عام 1962، وقدم مشاريع ريادية كبيرة وعديدة لا تزال قائمة حتى اليوم كشاهد على رؤيته المستقبلية وإنجازاته الخالدة.
إقليمياً، اقترح وصفي خطة عربية متكاملة تقوم على خمس ركائز: قيادة عربية موحدة، توحيد الأساليب العسكرية، خطة تسليح مشتركة، تمويل جماعي لدعم الجهود، وخطة عمليات موحدة لمواجهة أي تهديدات.
أما بالنسبة للجيش الأردني، فقد وصفه وصفي بأنه "رأس الرمح الحاسم الذي سيحرر فلسطين"، مؤكداً أن القوات المسلحة الأردنية مؤهلة لتكون القوة الأساسية في مواجهة الاحتلال إذا تلقت الدعم العربي المطلوب، مثلما تحظى إسرائيل بدعم الغرب والصهيونية العالمية.
لم يكن وصفي يؤمن بالحلول الدبلوماسية التي وصفها بأنها مضيعة للوقت وإعطاء فرصة للاحتلال لتثبيت أقدامه، وكان يرى أن النصر لا يتحقق إلا بالتضحية والعمل الدؤوب، وأن استعادة حقوق الأمة تبدأ بالإرادة الصلبة والعمل الجماعي.
على صعيد الإعلام والثقافة، أدرك وصفي أهمية الإعلام كأداة لتعزيز الهوية الوطنية والانتماء، وعمل على تطوير الإعلام الأردني ليكون منبرًا يعكس تطلعات الشعب، وشجع إنتاج الأغاني الوطنية التي تُلهب الروح، وتعزز الارتباط بالأرض.
وصفي التل يعيش في وجدان الأردنيين، وكلما حملهم الحنين إلى الماضي، كان وصفي رمزهم ودليلهم الذي يستمدون منه العزيمة، واعتبره الأردنيون مقياسًا للوطنية والنزاهة، ومرادفًا لكل ما يمثل الوفاء للأرض والاعتزاز بالهوية، ولكل قرية ومدينة ومحافظة حكاية مع وصفي، ولكل ذرة من تراب الأردن بصمة تحمل روحه.
وصفي التل لم يكن مجرد رجل دولة، بل كان قائدًا آمن بأن الأردن أغلى من أي شيء آخر.
اليوم، وفي ظل التحديات التي تواجه الوطن، تزداد أهمية استلهام فكر وصفي ونهجه ونظريته، وإرثه سيظل منارة تهدي الأجيال إلى طريق العمل والكرامة، ورمزًا خالدًا في ذاكرة الأردنيين، يعيش في قلوبهم كنموذج لرجل الدولة الذي ضحى بكل شيء من أجل وطنه ونحن على دربه سائرون.
رحم الله دولة الشهيد الخالد وصفي التل.