أخبار اليوم - عواد الفالح - يصادف يوم غد الخميس الذكرى الثالثة والخمسين لاستشهاد القائد الأردني وصفي التل، رمز الوطنية والعمل المخلص الذي حمل هموم الوطن والأمة العربية، وسخر حياته لبناء دولة أردنية قوية ومستقلة. يستذكر الأردنيون في هذه المناسبة إرثه الذي تجاوز الزمن، وما زالت إنجازاته وشهادات معاصريه تروي قصة رجل دولة استثنائي، ترك بصمة لا تمحى في تاريخ الأردن الحديث.
وصفي التل، الذي ولد عام 1919 لعائلة أردنية أصيلة، كان ابنًا للشاعر الكبير مصطفى وهبي التل (عرار)، وقد تأثر منذ صغره بالقيم الوطنية والعروبية. انطلق في مسيرته المهنية من قناعات راسخة بأهمية العمل الوطني، وكان يرى أن بناء الدولة يبدأ من ترسيخ قيم النزاهة والعمل الجاد وتعزيز روح الانتماء. في حكومته الأولى عام 1962، أطلق وصفي أول خطة تنموية شاملة في تاريخ الأردن، عُرفت بالخطة السباعية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. استهدفت هذه الخطة تطوير القطاعات الزراعية والصناعية والتعليمية والصحية، حيث أرسى مشاريع ريادية لا تزال شاهدة على رؤيته الثاقبة.
من بين هذه الإنجازات كان تأسيس الجامعة الأردنية، أول صرح أكاديمي في البلاد، والذي أصبح فيما بعد مركزًا للتعليم العالي والبحث العلمي. كما أطلق مشروع سد الملك طلال، الذي حوّل آلاف الدونمات في الأغوار إلى أراضٍ زراعية منتجة. لم يكن هدفه مقتصرًا على تأمين الغذاء فقط، بل على تحقيق الاكتفاء الذاتي وترسيخ مفهوم الاعتماد على النفس. كما أنشأ وصفي قناة الغور الشرقية لنقل المياه إلى المناطق الزراعية، مما عزز الإنتاج الزراعي بشكل غير مسبوق.
رؤية وصفي لم تكن محصورة في الاقتصاد والزراعة، بل امتدت إلى البنية التحتية التي اعتبرها العمود الفقري لتنمية البلاد. طور الخط الصحراوي، الذي ربط شمال المملكة بجنوبها، ما أسهم في تعزيز حركة التجارة والنقل بين المحافظات. كما أنشأ شركة الفوسفات وشركة البوتاس لاستغلال ثروات البحر الميت، وسعى لتوسيع ميناء العقبة ليصبح بوابة الأردن الاقتصادية إلى العالم.
في مجال الإعلام والثقافة، أدرك وصفي التل أهمية الإعلام في تشكيل الوعي الوطني وتعزيز الهوية الأردنية. أسس التلفزيون الأردني ليكون نافذة للأردن على العالم ومنبرًا للتواصل مع الشعب. كما شجع إنتاج الأغاني الوطنية التي تبث روح الانتماء، وتغرس قيم العزة والفخر بالوطن.
وصفي التل لم يكن مجرد قائد داخلي، بل كان أيضًا رجلًا قوميًا عربيًا. على صعيد القضية الفلسطينية، كان وصفي يعتبر أن الأردن يشكل العقبة الأكبر أمام تصفية القضية الفلسطينية، ورفض الحلول الدبلوماسية التي رأى فيها مضيعة للوقت وإعطاء فرصة للاحتلال لترسيخ وجوده. دعا إلى مواجهة الاحتلال بالعمل العسكري والمقاومة الشعبية، وقدم خطة شاملة للعمل العربي المشترك تقوم على توحيد الجهود العسكرية والمالية والقيادية بين الدول العربية.
إيمانه العميق بالقوات المسلحة الأردنية تجلى في وصفه للجيش الأردني بأنه "رأس الرمح الحاسم الذي سيحرر التراب الفلسطيني". كان يرى أن الجيش الأردني يمثل قوة وطنية وقومية قادرة على مواجهة الاحتلال إذا ما تلقت الدعم الكافي. هذه الرؤية جعلته هدفًا للعديد من القوى التي رأت في شخصيته تهديدًا لمخططاتها في المنطقة.
اغتيل وصفي التل في القاهرة عام 1971 أثناء مشاركته في اجتماع جامعة الدول العربية. اغتياله كان صدمة للأردن وللعالم العربي، إلا أن إرثه الوطني بقي خالداً في قلوب الأردنيين الذين يروون عنه قصصًا تعكس شجاعته ونزاهته ووفاءه لوطنه. فقد وصفه إسحاق شامير، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، بأنه "الشخصية العربية الأخطر على إسرائيل"، في شهادة تؤكد مدى تأثيره ودوره في مواجهة المشروع الصهيوني.
اليوم، يستذكر الأردنيون وصفي التل باعتباره نموذجًا للقيادة الوطنية التي تعمل من أجل الشعب. لكل قرية ومدينة وعشيرة أردنية حكاية معه، ولكل ذرة من تراب الوطن بصمة تحمل اسمه. كان رمزًا للبساطة والنزاهة والشجاعة، وترك إرثًا من الإنجازات التي لا تزال ماثلة حتى يومنا هذا.
هذا الإرث يمثل درسًا للأجيال الحالية والمستقبلية في أهمية العمل من أجل الوطن. وصفي التل لم يكن مجرد رجل دولة، بل كان مدرسة في القيادة والنزاهة والالتزام. ستبقى ذكراه خالدة في ذاكرة الأردنيين، وستظل إنجازاته شاهدًا على رجل أحب وطنه وعمل بكل إخلاص من أجله. رحم الله الشهيد وصفي التل وأسكنه فسيح جناته، وسيبقى اسمه محفورًا في ذاكرة الوطن كرمز للنزاهة والتضحية والوفاء.