عامر جبران
كثرت في الساعات الماضية الأقاويل والتكهنات حول التوصل إلى صيغة اتفاق وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية.
هذه الحرب كانت قد بدأت قبل أكثر من عام على شكل اشتباك تكتيكي مقنن ومحدود بين إسرائيل وحزب الله، ثم تحولت إلى حرب شاملة في أيلول من هذا العام عندما وجهت إسرائيل غدرة وضربة استراتيجية ثلاثية الأبعاد تمثلت في تفجيرات أجهزة الاتصالات المفخخة، واغتيال كامل قيادة حزب الله العسكرية، وأخيرا اغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله وخليفته هاشم صفي الدين.
إسرائيل التي نجحت في تدمير غزة وارتكاب جرائم الإبادة والتطهير العرقي بدون أن تنجح في القضاء على المقاومة الفلسطينية واستعادة الأسرى الإسرائيليين لديها، وفي أعقاب نجاحها في تنفيذ الضربة الثلاثية في لبنان فتحت شهيتها بالإعلان عن سقف مرتفع لجملة من الأهداف الاستراتيجية. العنوان الأشمل حول تلك الأهداف هو كما وصفه نتنياهو "تغيير وجه الشرق الأوسط" بما يلائم إسرائيل، وتفرع الحديث إلى عدد من الأهداف ابتداء من القضاء على حزب الله (كاملا) وخلع إيران (كاملا) من الساحة اللبنانية وإخضاع لبنان (كاملا) إلى الهيمنة الإسرائيلية. يشار هنا إلى أن إسرائيل قد أعلنت صراحة نيتها توسيع الهجوم ليشمل إيران نفسها!
تصادف هذا الطرح الإسرائيلي المعلن مع انعقاد بازار الانتخابات الأمريكية حيث تعالت أصوات المرشحين "هاريس" و "ترامب" في إعلان الدعم المطلق إلى إسرائيل تحت عنوان (حق الدفاع عن النفس)، وبما يتوافق مع سياسة الدولة العميقة في الشرق الأوسط. وقد ترجم ذلك الدعم اللامحدود في فتح مخازن السلاح والذخيرة الأمريكية وتوفير غطاء سياسي على الجرائم الإسرائيلية، وتوفير دعم اقتصادي وأمني وعسكري إذا اقتضى الأمر كما شهدنا في وضع منظومة "ثاد" الدفاعية قيد تصرف إسرائيل.
حزب الله بدوره كان يحارب على ثلاث جبهات أساسية؛
الأولى، صد العدوان والاندفاعة الإسرائيلية العسكرية البرية، والتي ترافقت مع حملة قصف جوية غير مسبوقة، وأدت إلى تدمير كافة التجمعات السكانية من قرى ومدن محسوبة على حزب الله مما ترتب عليه تشريد ونزوح أكثر من مليوني لبناني.
الثانية، تحت وقع الضربات الإسرائيلية المتصاعدة توجب على الحزب إعادة ترميم الهيكلة الحزبية وملء الشواغر العسكرية والسياسية والتنظيمية والإغاثية بما يتناسب مع وضع ضاغط وسائل غير مستقر.
الثالثة، إدارة العلاقات اللبنانية الداخلية مع أفرقاء لبنانيين تنوعت مواقفهم بين من يلوم وآخر شامة والبعض المؤيد للعدو الإسرائيلي.
إسرائيل وأمريكا كانتا متأكدتين من أن لبنان الرسمي و (ربما) حزب الله سيرفعون الراية البيضاء، فأرسلتا مزدوج الجنسيتين الأمريكية والإسرائيلية "آموس هوكشتين" ليسمع طلب الاستسلام، ويبحث ترتيباته مع الجهات اللبنانية الرسمية. لكن صمود مقاتلي حزب الله وتمكن الحزب من إعادة ترتيب صفوفه إعادة إلى أن يكون في موقع أخذ زمام المبادرة الميدانية والسياسية كما تكشفت الوقائع العسكرية على مستوى الخسائر التي لحقت بالعدو الإسرائيلي في المواجهة البرية جنوب لبنان، وفي وقع الضربات الصاروخيّة التي وجهها حزب الله في العمق الصهيوني، حيث يشير الواقع الميداني إلى وجود مراوحة تتحول إلى عجز إسرائيلي يكبر يوما بعد يوم بسبب الاستنزاف وعدم القدرة على التقدم. في المقابل ازدادت قدرة المبادرة الهجومية لدى حزب الله بما يخبر عن تعافي قدراته.
أمريكا المعطلة قيادتها نتيجة انتقال الرئاسة من "بايدن" إلى "ترامب" وجدت نفسها تستمع إلى تعالي العويل والصراخ من تل أبيب التي ربما تضطر إلى إعلان الفشل والانسحاب الأحادي من جبهة لبنان إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه. تحركت أمريكا في عدة اتجاهات لاحتواء الانهيار الإسرائيلي المنظور؛
أولا، حولت مهمة "هوكشتين" إلى تحريك المفاوضات مع حزب الله على قاعدة القرارات سيئة الذكر ١٥٥٩ (الذي دعي إلى تجريد حزب الله من سلاحه عقب اغتيال الحريري عام ٢٠٠٤)، و ١٧٠١ معدل بما يتيح إلى إسرائيل حرية الحركة ضد الحزب على شاكلة الاتفاق الذي تم مع روسيا في إطلاق حرية إسرائيل ضد ما أسموه "التموضع الإيراني" في سوريا (القرار ١٧٠١ هو الذي حول انتصار حزب الله عام ٢٠٠٦ إلى مناطق رمادية فيها فخ الفتة الداخلية، ويذكر أن القرار لم يضع أية قيود على إسرائيل باستثناء انسحاب تكتيكي إلى حدود الخط الأزرق). المهم لدى أمريكا أن لا تكون تسوية تساعد الحزب على استعادة قوته وإعادة بناء نفوذه، وأيضا تمنع "وحدة الساحات" التي أشعلت الحرب عبر فصل ساحة غزة عن ساحة لبنان. الخلاصة هي أن تحقق تلك التسوية لإسرائيل ما لم تستطع تحقيقه في الحرب!
ثانيا، أن تتيح التسوية مع حزب الله شراء الوقت اللازم حتى يستلم "ترامب" الرئاسة، والذي بدوره يعلن صراحة أنه سيضرب إيران وسيوسع جغرافيا إسرائيل، وسيخضع المنطقة إلى استسلام تام عبر معاهدات التطبيع الإبراهيمية! وعليه يكون أي اتفاق مع الحزب هدفه قطع منحى العزم التصاعدي لصالح الحزب في الميدان، وإعطاء إسرائيل فرصة لالتقاط الأنفاس بين الجولات.
ثالثا، تحريك ملفات الفتنة الداخلية في لبنان عبر تمرير تسوية تجعل من معالجة ملف حزب الله إسرائيليا مسؤولية لبنانية، وهذا حكما سيؤدي إلى صدامات سياسية، وربما عنيفة في الداخل اللبناني، لا سيما وأن حافزية بعض الأفرقاء المعادين قد ازدادت بسبب حجم الدمار ووعود الأموال الخارجية وتأثير النفوذ الأمريكي.
إن مرور تسوية "الفتنة أو الخديعة" إنما هي تسوية مؤقتة ستضيع دماء الشهداء، وخاصة القادة، وعلى رأسهم حسن نصر الله، الذين قضوا دفاعا عن غزة وإبطالا للنوايا الخبيثة التي أعدت لها إسرائيل ضد الحرب وضد لبنان كما تبين في أيلول المنصرم. وكذلك لا يستبعد أن هكذا تسوية سوف تدخل لبنان في نفق الحرب الأهلية مرة أخرى؛ بسبب اختلال قوة الحزب داخليا، والذي يترتب عليه بموجب التسوية (الفتنة) أن يقوم اللبنانيون أنفسهم بالسعي لتجريد حزب الله من قوته بغض النظر عن الدوافع.
هنا يأتي السؤال الجوهري؛ ما الذي يمنع الفتنة والخديعة الأمريكيتين؟ هنالك أربعة إجراءات يمكن لقيادة المقاومة اتخاذها؛
١) إطالة أمد الحرب التي تستنزف إسرائيل فترة أطول إلى حين تقلد "ترامب" الرئاسة. وهذا التباطؤ قد يفسر سلبيا في الداخل اللبناني، ولكنه حتما سيفسر من قبل إسرائيل إنه اطمئنان في سير المعركة لصالح الحزب.
٢) الابتعاد عن المفاوضات في إطار القرار ١٧٠١ المشبوه والملغوم؛ لأنه حمال أوجه في تأويلاته، ويعزز من فرص فتح الباب لأية اعتداءات إسرائيلية في المستقبل، ويغطي سياسيا أفرقاء الحزب في مسعاهم لتجريده من قوته لصالح إسرائيل.
٣) التمسك بشروط لبنانية داخلية منها تعيين رئيس لبناني وتعيين رئاسة حكومة يوافق عليهما حزب الله أولا، ولا مانع أن يكون ذلك ضمن معادلة التوافقات الداخلية ثانيا. وهكذا مطلب يعكس ميزان قوى فعلي فيه صورة حزب الله المنتصر.
٤) التمسك بوحدة الساحات، لا سيما ملف غزة للأسباب التالية؛
١. إظهار أسباب القوة التي بناء عليها دخل الحزب جبهة الإسناد لغزة.
٢. إن وقف الحرب في غزة هو صورة الانتصار التي ضحى الحزب في الغالي والرخيص من أجلها ناهيك عن كونها وصية الشهيد نصرالله، وأن يوقف الحرب دون ذلك سوف يبرز تساؤل فتنة ومصيدة سياسية وأمنية "لماذا كل هذه التضحيات"؟ وعليه قد تكون مساءلة ومحاسبة للحزب من خصومه، وقد تشمل بعض مناصريه.
٣. إن العالم قد تخلى عن غزة، وبقي حزب الله ورقة رابحة من أوراق رفع الظلم عن غزة.
٤. إن تقييم الأمين العام نعيم قاسم شخصيا والحزب عامة سوف يكون سلبا؛ لأنه لم يحصل على صورة الانتصار الكامل كما حصل في أيار ٢٠٠٠ وأب ٢٠٠٦ وأب ٢٠١٨، حيث لا تزال الصورة الأقوى في هذه الحرب هي صورة تفجيرات أجهزة الاتصالات والاغتيالات.
ليس سهلا أن تكون في مكان قيادة حزب الله هذه الأيام، ولكنه حتما لن يكون سهلا في بضعة أيام أو أشهر قادمة إن وقع الحزب في مصيدة "اتفاق الفتنة والخديعة"، ولنا في خديعة تفجيرات أجهزة الاتصالات المفخخة واغتيال كامل قيادة حزب الله العسكرية والأمين العام في الأمس القريب عبرة وموعظة..