أخبار اليوم - "لم أحزن على مكتبتي، فأصغر طفل بغزة أهم من أكبر بناية أو مكتبة، فتلك الكتب راسخة في العقول ونستطيع إعادة صناعتها لكن لا نستطيع إعادة الشهداء" لم يقف الكاتب والأديب الفلسطيني يسري الغول (44 عامًا) منكسرًا أمام منزله المدمر ومكتبته التي تضم ألفي كتاب دفن الكثير بعضها تحت الركام وبعضها تمزقت أوراقه فوق حجاراتها، جمعها على مدار 27 عامًا، لكنه يؤمن رغم قسوة فقد الكتب أن "الفلسطيني كالعنقاء ينبعث من الرماد".
علّمت الكتب الغول أن "(إسرائيل) يمكنها تدمير الإنسان لكن لا تستطيع أن تهزمه، وأنها لن تستطيع محاصرة الفكر وتدمير الهوية، فما دام هناك طفل يحمل العلم "فإننا ذاهبون لتحرير فلسطين، طالما أننا متسلحون بالوعي والإرادة والثقافة".
والغول وهو روائي فلسطيني من غزة صدرت له نحو عشرة أعمال أدبية، أخرها كان "شهادات على جدران حبيبتي غزة" ومن بين المؤلفات، "على موتها أغني، و"ملابس تنجو بأعجوبة" ورواية غزة "87"، و"جون كينيدي يهذي احيانا"، وله مئات المقالات في صحف ومجلات عربية.
منذ نعومة أظافره، ارتبط الغول بحب القراءة، وعندما درس بالجامعة كان يشتري الكتب التي تباع من أمام البوابات، يحاول حراسة الكتب من الضياع ويضعها في مكتبته التي مثلت الحاضنة الطبيعية للكتب وملاذها الآمن، وأعادها لمكانها الطبيعي، فضلا عن شراء كتب من المكتبات الثقافية حتى وصل عدد إلى ألفي كتاب تبرع بجزء كبير منها لمكتبة بلدية غزة ومكتبة رشاد الشوا الثقافي.
تحطُّ ذاكرة الغول في حديثه لـ "فلسطين أون لاين" ترحالها للحظة انتقال سكنه من مخيم الشاطئ لحي النصر بمدينة غزة كيف احتاج لسيارة نقل كبيرة لنقل مكتبته لمسكنه الجديد، ويقول: "حتى وأنا تحت القصف والمعاناة لا زلت أعيش بين الكتب، لأني مؤمن أن الإنسان إن أراد أن يموت عليه أن يموت وهو يقرأ وأن قارئ اليوم هو قائد الغد، فأقرأ حاليا رغم تدمير المكتبة كتب الشرق الأوسط الجديد واستشارات الواقع القادم، ونحن نعيش في آتون الحرب".
عن ما تضمه المكتبة، يوضح "المكتبة كبيرة جدا تضم كتبا أدبية وثقافية ودينية وتاريخية، ذهبت أدراج الرياح وأحرقت بالكامل، وكانت تضم كتبا لكبار كتاب العصر الحديث أو القدماء والتي تعتبر مراجع دينية وفكرية وتاريخية وصناعة البلاغة والنهضة".
ما يؤلم الغول، أن الكتب التي لم يطالها آلة البطش، قررت الناس استثمارها في ظل عدم وجود غاز طهي، "رأيت كتبا تحترق لأحمد الراشد ويوسف القرضاوي وغيرهم من الكتاب وخليط من الأفكار تتقلب بين النيران لأجل طهي طعام لا يسد الجوع في ظل هذا الحصار والإبادة" يقول بصوت متألم.
الكلمة هي البندقية
مثلت الكتب بالنسبة للغول فعل مقاوم كمن يفجر قنبلة، لذلك تغتال (إسرائيل) الكتاب والصحفيين لأنها تعلم أن الكلمة هي البندقية والهوية، وأحد أهم مشاكل الحالة الفلسطينية والعربية تجاهلها للثقافة والأدب والمسرح والسينما، فالكتابة والأدب تعطيك بصمة ثقافية، فمن سيعرف ماذا حدث بغزة؟، إذا لم نكتب ونوثق، وهذا ما دفعني لنشر عملي الأدبي "شهادات على جدران حبيبتي غزة" وهي سرديات لتوثيق المقتلة التي تحدث.
هنا، لم تتأخر سمر أبو ماضي بالوصول لمنزلها الواقع شرق محافظة خان يونس بعد انسحاب قوات جيش الاحتلال من المحافظة، محاولةً الاطمئنان على مكتبتها المنزلية، قبل الاطمئنان على البيت نفسه، فكانت المكتبة بيتًا تسافر به بين الصفحات الورقية تنهل منها علمًا وثقافةً، لكن أوراق الكتب المتطايرة على مسافة من المنزل أول من استقبلها، ومزج بدموعها.
كانت تنظر بذهول وصدمة للكتب الممزقة والمتناثرة على الأرض، بسبب تدمير منزلها بشكل جزئي ومكتبتها كليًا، لم تستطع حبس دموعها التي تساقطت على صفحات الكتب، تستحضر قصتها لحظة اقتناء أول كاتب عام 1998 عندما كانت بعمر السادسة عشرة من عمرها أثناء وجودها بالسعودية، فأحضرت من هناك نحو 60 كتابًا لغزة، واستمرت في شراء الكتب من معارض محلية ودولية إلى أن زاد عددها عن 115 كتابًا انتقتهم بعناية.
وأبو ماضي إعلامية مجتمعية، وهي خريجة من قسم الصحافة والإعلام بالجامعة الإسلامية عام 2007، تضم مكتبتها كتبا من تخصصات الإعلام والأبحاث الخاصة بدراسات المرأة الفلسطينية وتحسين ظروفها الاجتماعية، إضافة إلى كتب خاصة بتصميم الملابس الفلسطينية وتاريخها وتفاصيل كل ثوب للمحافظة على الموروث الثقافي، وكتبًا ثقافية وعلمية متنوعة.
سفر لعالم آخر
لم تكن الكتب بالنسبة لها "مجرد حبرٍ على ورق"، ترثي لـ "فلسطين أون لاين" فقدان موروثها الثقافي قائلة: "كنت أغلق المكتبة على نفسي، وأعتزل كل شيء بعد إتمام مهامي المنزلية ومتابعة درو الأولاد، واستمر في مراجعة المعلومات وإعادة قراءة الكتب، وكانت المكتبة بنظام مؤرشف، وإضافة للنظام كنت أحفظ موقع كل كتاب منها، وأعلم كل كتاب متى اشتريته ومن أي معرض للكتب".
بحسرة تغلف صوتها، تصف علاقتها بالكتب "الكتب رزق للعقل لكنها ذهبت في لمح البصر، فقبل الحرب بشهرين لجأت لتجهيزها وتوسيعها وشراء أثاث جديد لها ومطبعة وكنت أريد زيادة الكتب فيها، لكن هذا الشيء لم يكتمل، كما أنني في بداية الحرب أعدت تصنيفها من جديد، ووجدت الكتب خارج المنزل".
إن كانت أبو ماضي، قد فقدت المكتبة وبقي منزلها، فإن عايدة أحمد البطنيجي، فقدت منزلها ومكتبتها الخاصة التي تضم 200 كتاب، إضافة لحديقة صغيرة لشجيراتها والتي لكانت ملاذها حينما تغوص في عالم القراءة والكتب.
والبطنيجي حاصلة على دكتواره في الصحة النفسية وعلم النفس، تعمل مرشدة تربوية في التربية والتعليم بمديرية شرق غزة، واستمرت بجمع الكتب على مدار سنوات طويلة، منها كتب علمية وثقافية ودينية وبعض الروايات، معظمهم كانت تقتنيهم من معارض الكتاب.
تدمر بيت البطنيجي الواقع بحق الشجاعية بشكل كامل، ولم يبق أثر لأي شيء من ملامحه وسوي بالأرض بعد تدمير الاحتلال مربعا سكنيا بالحي الذي تسكن فيه واستشهد 22 فردا من أقاربها.
تطرق أبواب ذكرياتها داخل المكتبة لـ "فلسطين أون لاين": "الكتب تأخذك لعالم آخر، تعيش مع المعرفة والثقافة، كل كتاب تشعر أنه يرتبط بشخصيتك ومن أجمل ذكرياتي مع الكتب أنها كانت ترتبط بالأرض وبمزروعاتي، فكنت أقرأ بين شجيراتي أثناء الري، حتى أشجاري ردمت ولم يعد لها وجود"، مؤكدةً، "القراءة متعة منها تعرف الكثير عن الحياة حولك، تنمي أفكارك وتعطيك حافزًا".
أول كتاب قرأته البطنيجي كان "بروتوكولات حكماء صهيون" في الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، أما آخر كتاب قرأته فكان "المرأة في ظلال القرآن".
ورغم نزوحها وسفرها لمصر، وبعدها عن مكتبتها، إلا أنها لم تقطع صلتها بالتعليم والقراءة، فتقرأ حاليا كتابا عن العالم المصري أحمد زويل بعنوان "عصر العلم"، والذي يضم معلومات عن تطوير الذات وأهمية العلم.
مصير مجهول
أما أسيل أحمد حنون فلا تعلم مصير مكتبتها بعد نزوحها عن مدينة غزة لجنوب القطاع منذ بداية حرب الإبادة على غزة إن كانت قد تدمرت أم تعرضت للسرقة من لصوص سرقوا منزلهم.
وحنون خريجة إعلام عملت مراسلة تلفزيونية مع قناة الإباء العراقية، ومعلقة صوتية مع شركات انتاج عربية وعالمية، لم تقل مكتبتها الخاصة عن 100 كتاب، مغلفة بحبها للقراءة منذ طفولتها.
بدأ غرس حبها للقراءة في انخراطها بمركز القطان للطفل بمدينة غزة عندما كانت بعمر 12 سنة، فمثل الحاضنة الحقيقية، للبداية الفعلية لارتباطها بالكتب والقراءة، وكانت مولعة بمكتبة جدها المليئة بالكتب السياسية والدينية والروايات والأشعار، وكان الشغف يدفعها لفتح أغلفة الكتب وتقليب صفحاتها وقراءة المعلومات والقصص مما زاد ارتباطها، ثم بدأت بكتابة نصوص أدبية ونشرها مع فريق "يراعات الأدبي".
كل ما سبق، كان حجر الأساس لبناء مكتبة خاصة بها، شيدتها كتب عديدة، وبدأت بتشكيلها حسب ميلوها الأدبي والثقافي، وصولا لمرحلة الجامعة، "هي أكثر مرحلة كنت أشتري فيها الكتب السياسية والأدبية والسير الذاتية والروايات والشعر، وكنت أدخر من مصروفي بكل سعادة، وعندما كان أي فرد من عائلة يسافر كان يجلب لي كتبا معه خصوصا النسخ التي لم تكن تتوفر في القطاع" تستذكر في مستهل حديثها مع "فلسطين أون لاين" تلك المحطة.
نزحت حنون عن منزلها بمدينة غزة لجنوب القطاع، وقبل تركها المنزل خبأت الكتب بصناديق كرتونية بعيدًا عن شظايا الصواريخ الإسرائيلية، ولا تدري مصيرهم.
نفس الحرص الذي تحلت به على كتبها لحظة مفارقة البيت، هو ذاته الذي بدأت فيه بتأسيس مكتبتها التي تعدها "كنزا معرفيا"، ولا غرابة في أن تخبئها أسفل سريرها، ثم نقلتها على رفوف خشبية، لكن الحرب حالت بين طموحها بتوسيعها.
تعد حنون الكتب "الفاصل بين ضوضاء الحياة والصعوبات التي تمر فيها خلال الانشغال بالتعلم والعمل، وهي مؤنسة وصديقة موجود بكل وقت"، القراءة هي الفسحة التي حرمتها الحرب منها.
وبمكان نزوحها، بلهفة تركض على أي بسطة مليئة بالكتب بين أسواق النزوح، تذكرها بشغفها قبل الحرب، ثم تتراجع عن شرائها تخشى أن تكون لشخص ما اقتناها بنفس تعبها ثم ضاعت منه، في لحظة يسرقها الحنين بعيدًا، ويسافر بها الشوق لتمني احتضان صفحاته، كون كل كتاب له قصة في اقتنائه أو طريقة وصوله كهدية أو ادخار من مصروف.
غرست فيها الكتب مخزونا معرفيا كبيرا، تستحضر بعضا من الاقتباسات التي رأتها واقعا في حياتها، تنتقي من كتاب "صديقي الله" لزياد رحباني "الأيام أبواب، على كل منها حارس، وقد كُتب علينا أن نخلق كل يوم وعلى كل باب قصةٍ جديدة نلهي بها الحارس ليفتح لنا الباب إلى بابٍ آخر".
أما الاقتباس الثاني من كتاب أعراس آمنة لإبراهيم نصر الله " أتعرف يا غسّان ما مصير الحكايات التي لا نكتبها؟ إنّها تصبح ملكاً لأعدائنا"