أخبار اليوم - يُعتبر الدكتور حنا سلمان القسوس الهلسا واحدًا من الشخصيات الأردنية البارزة التي قدمت إسهامات كبيرة في مجال الطب والعمل الإنساني. وُلد في الكرك عام 1885، في زمن كانت فيه البلاد تمر بتغيرات سياسية واجتماعية كبيرة. بدأ مسيرته التعليمية والعلمية من الكرك، مرورًا بلبنان وفرنسا، ليعود ويصبح أحد أعمدة الطب في شرق الأردن.
البداية: من الكرك إلى باريس
وُلد الدكتور حنا القسوس في أسرة كركية عريقة. بعد أن أكمل دراسته الابتدائية في الكرك، انتقل إلى القدس لاستكمال تعليمه، ثم اتجه إلى مدرسة عينطورة في لبنان لإكمال دراسته الثانوية. بفضل شغفه بالعلم والطموح الكبير، سافر إلى بيروت والتحق بالجامعة اليسوعية، حيث حصل على شهادة الطب. لكن طموحه لم يتوقف هنا، بل واصل دراسته في جامعة السوربون الشهيرة في باريس، حيث تخصص في الطب وحصل على شهادته عام 1911.
مسيرته المهنية: من مصر إلى شرق الأردن
بعد تخرجه، بدأ الدكتور حنا مسيرته المهنية كطبيب في الجيش المصري. خلال هذه الفترة، خدم عامًا كاملًا في السودان ضمن الخدمة الإلزامية. ثم عاد ليعمل طبيبًا ضمن فرق الهلال الأحمر خلال حرب البلقان، وهي تجربة زادت من خبرته العملية في التعامل مع الظروف الصعبة وأزمات الحروب.
في عام 1913، افتتح أول عيادة طبية خاصة به في مسقط رأسه الكرك، ليصبح بذلك أول طبيب كركي وأحد الأطباء القلائل في شرق الأردن آنذاك. لكن مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1915، جُنّد الدكتور حنا ليعمل كطبيب في الجيش العثماني، حيث كانت خبرته مطلوبة على الجبهات.
بعد نهاية الحرب، عاد إلى العمل المدني وقدم خدماته الطبية في عدة مناطق، بما في ذلك المستشفى الفرنسي في الناصرة عام 1919، ثم افتتح عيادة خاصة في دمشق عام 1920. في عام 1921، عاد مرة أخرى إلى الكرك وافتتح عيادته الخاصة، حيث قدم خدماته لأبناء مدينته.
العمل الحكومي: من الطب إلى السياسة
في عام 1922، انتقل الدكتور حنا إلى عمان ليعمل كطبيب في المستشفى الحكومي، واستمر في هذا المنصب حتى عام 1938. في هذه الفترة، أصبح معروفًا بتفانيه في العمل، حيث كان يقدم الرعاية الطبية لأبناء الأردن في ظروف صعبة وبنية تحتية طبية محدودة.
لم يكن الدكتور حنا قسوس مجرد طبيب، بل كان رجلًا ذا تأثير واسع في المجتمع. في عام 1943، عُيّن وزيرًا للتجارة والزراعة في حكومة توفيق أبو الهدى، حيث خدم بلاده في هذا المنصب حتى عام 1944. تزامنت فترة عمله كوزير مع رئاسته للجمعية الأرثوذكسية عام 1943، وهو ما يعكس دوره الكبير في خدمة المجتمع.
الأوسمة والتكريمات
نظيرًا لإسهاماته الكبيرة في مجالات الطب والعمل الاجتماعي، حصل الدكتور حنا القسوس على العديد من الأوسمة. من بين هذه الأوسمة وسام الاستقلال من الدرجة الثانية الذي منحه إياه الأمير عبدالله بن الحسين عام 1944. كما حصل على وسام الحرب العثماني عام 1916 نظير خدماته خلال الحرب العالمية الأولى، ووسام القبر المقدس من رتبة فارس عام 1944.
في عام 1944، حصل الدكتور حنا على لقب باشا، وهو لقب يُمنح للشخصيات البارزة التي قدمت خدمات جليلة للوطن. لاحقًا، في عام 1952، حصل على وسام بطريرك الإسكندرية، تقديرًا لجهوده الخيرية والإنسانية.
إسهاماته في العمل الخيري والطبي
لم تقتصر إسهامات الدكتور حنا القسوس على الطب والسياسة فقط، بل شغل مناصب قيادية في الجمعيات الخيرية والطبية. في عام 1946، تولى رئاسة الجمعية الطبية الأردنية، وهي مؤسسة تهدف إلى تحسين الخدمات الصحية وتطوير مهنة الطب في الأردن. كما كان رئيسًا للجمعية الأرثوذكسية في الكرك، والتي كانت تعنى بالعمل الخيري وتقديم الدعم للمجتمع المحلي.
إرثه الخالد
في عام 1953، توفي الدكتور حنا سلمان القسوس الهلسا، تاركًا وراءه إرثًا كبيرًا من الإسهامات الطبية والسياسية والاجتماعية. يُعد أول طبيب في شرق الأردن وشخصية بارزة في تاريخ الطب الأردني. إسهاماته في تطوير النظام الصحي في الأردن لا تزال تذكر حتى اليوم، حيث كان له دور كبير في تأسيس مفهوم الرعاية الصحية في المناطق الريفية والحضرية على حد سواء.
كان الدكتور حنا يؤمن بأن خدمة المجتمع من خلال الطب والعمل الإنساني هي واجب على كل طبيب. وقد عاش حياته مخلصًا لهذا المبدأ، تاركًا خلفه جيلًا من الأطباء والمواطنين الذين استلهموا من مسيرته.
رحمه الله وخلد ذكراه، فقد كان نموذجًا يحتذى به في الإخلاص والتفاني في خدمة وطنه ومجتمعه، وستبقى سيرته منارة للأجيال القادمة.