أخبار اليوم - على الموعد جاءت مريم، مرتدية حجابها الكامل، مترفقة بوالدتها تمشي إلى جانبها بتؤدة وهدوء، تخفض لها جناح الذل، متمثلة تعاليم الدين الحنيف الذي اعتنقته منذ 3 سنوات فقط.
كان لقاء مريم بنت الـ16 ربيعا رفقة والدتها مع الجزيرة نت في ضيافة الشيخ رجبو (رجب) مشرف الأخلاق في معهد الهداية الإسلامي في إحدى ضواحي العاصمة الرواندية كيغالي، لتسرد علينا قصة إسلامها.
تقول مريم التي ولدت لعائلة مسيحية -وهي الثانية بين 6 أشقاء، 4 بنات وولدين- إنها تأثرت وإخوتها بسلوك أصدقائهم المسلمين، وأعجبوا بأخلاقهم العالية، مما خلف أثرا طيبا في نفسها في البداية.
يضاف لذلك، ما سمعته وما قرأته عن الدور الإيجابي للمسلمين في البلاد قديما وحديثا، دفعها كل ذلك للتفكير بشكل مستمر بهذا الدين الذي خالط بشاشة قلبها، فقررت الدخول فيه.
تحدثت مع والديها "المسيحيين" عن رغبتها في اعتناق الإسلام، لم يكن القرار صعبا عليهما ولم ويلبث التفكير فيه وقتا طويلا، فما كان منهما إلا أن وافقا ودون تردد.
وحين سألت الوالدة موهاوينيمانا عن باقي الأبناء، قالت مبتسمة إنهم حذوا حذو أختهم وأسلموا جميعا، ارتسمت على وجهي أمارات العجب مما قالت، فما كان من الشيخ رجب إلا أن بادرني بعربيته المتقنة "يا أخي، لا تستغرب هذا أمر طبيعي في رواندا، للجميع هنا الحق في اعتناق ما يريد".
تمكنت مريم خلال 3 سنوات من حفظ نصف القرآن الكريم، كما تحاول الآن إتقان اللغة العربية، بينما ينشغل الوالدان -اللذان يفكران باعتناق الإسلام- بتوفير أجواء مريحة لأبنائهما لممارسة شعائر دينهم.
1000 مسلم جديد كل شهر
أعادتني القصة إلى المقابلة المطولة التي أجريتها قبل أيام مع مفتي رواندا ورئيس مجلسها الأعلى للشؤون الإسلامية الشيخ موسى سندايغايا الذي قال إنهم يستقبلون كل شهر ألفا على الأقل من المسلمين الجدد، موضحا أنه من الطبيعي جدا أن تجد في العائلات المسيحية أفرادا يعتنقون الإسلام.
ومما يسهم في دخول الناس في الإسلام -وفق الشيخ موسى- عقد المناظرات الجماهيرية بين علماء المسلمين ونظرائهم من النصارى.
وتستمر بعض المناظرات 3 أيام، يعلن بعدها كثير من الحضور إسلامهم، حيث تتولى 8 معاهد دعوية خاصة استقبالهم وإدخالهم في مسارات إرشادية لفهم تعاليم دينهم الجديد.
وتحدث الشيخ عن قبول الآخر وثقافة التعايش التي تسود في البلاد بين المسلمين وغيرهم، مشيرا إلى أن النصارى في البلاد يحتفلون مع المسلمين بعيدي الفطر والأضحى، ويشاركونهم في مناسباتهم، بل إنهم يبادرون إلى استقبال الحجيج من المسلمين بالورود والأهازيج.
وأشاد سندايغايا بدور الرئيس بول كاغامي وحكومته والسلطات الرسمية في البلاد الذين فتحوا الأبواب للدعاة المسلمين، وسمحوا لهم بالتحرك بحرية بين الناس لنشر تعاليم الإسلام، ودعوة الناس للدخول فيه.
معسكرات الاحتجاز
ولم يكن المسلمون في رواندا على هذا الحال منذ أن دخل الإسلام إلى البلاد قبل أكثر من 100 عام على يد التجار المسلمين، بل كانوا هدفا لسياسات الاستعمار البلجيكي، الذي سعى إلى تجهيلهم وإفقارهم.
فحرمهم من بناء مدارسهم الخاصة، ومن أراد الدراسة فعليه الالتحاق بمدارس الكنيسة، وحينها يفرض عليه تغيير اسمه أولا تمهيدا لتغيير دينه، وهو ما رفضه المسلمون فمنعوا أولادهم من الذهاب لتلك المدارس خوفا من تنصيرهم.
كما منع المستعمر البلجيكي المسلمين من ممارسة مهنتي الرعي والزراعة، وهما أهم مهنتين يمكن للمرء أن يعمل بهما في ذلك الزمان، وبذلك فرض عليهم أن يعيشوا فقراء.
بل تجاوز الأمر ذلك بأن أجبرهم على العيش في معسكرات معزولة لم يسمح لأحدهم بالخروج منها إلا بتصريح من السلطات الحاكمة، واستمر الأمر هكذا من عام 1925 حتى 1962 عام الاستقلال.
الموقف من الإبادة
ولم تهتم الحكومات المتعاقبة بأوضاع المسلمين وبقوا على ما هم عليه، حتى كان وقوع الإبادة الجماعية عام 1994، التي برز فيها الدور الإيجابي للمسلمين، حيث بذلوا جهودا كبيرة لحماية أفراد أقلية التوتسي من الهجمات التي شنها متطرفو الهوتو.
وخلّف هذا الموقف الإيجابي -الذي سنفرد له تقريرا خاصا- أثرا طيبا في نفس الرئيس كاغامي بشكل خاص وفي نفوس السكان بشكل عام، ودفعهم ذلك إلى إعادة التقدير للمسلمين ورفع مكانتهم التي سعى الاستعمار إلى وضعها والحط منها.
وينقل الشيخ موسى وغيره من الدعاة الذين التقتهم الجزيرة نت أن الرئيس طلب في أكثر من مناسبة من المسلمين أن "يجتهدوا في نشر قيمهم السمحة التي أدت إلى تلك المواقف المشرفة خلال فترة الإبادة".
بل تولدت القناعة لدى كثير من المسؤولين أن انتشار القيم الإسلامية في البلاد يؤدي إلى انخفاض مستويات الجريمة والنزاعات الأسرية والإدمان على الخمور، لذا فهم يدعون المسلمين في كل مناسبة لنشر هذه التعاليم.
وتقديرا لمواقف المسلمين -الذين تصل نسبتهم وفق التقديرات إلى نحو 15% من عدد سكان رواندا البالغ 15 مليونا- فإن الرئيس أمر باعتماد يومي عطلة في البلاد للاحتفال بعيدي الفطر والأضحى.
كما أن عددا كبيرا منهم يشغلون مناصب عليا في البلاد، مثل رئيس أركان الجيش، ونائب رئيس البرلمان، إضافة إلى وزيرين في الحكومة، و7 من النواب والسيناتورات، كما يعمل بعضهم رؤساء بلديات ومديرين في المؤسسات وضباطا في الجيش.
فرص وتحديات
وخلال المقابلة مع الجزيرة نت، تحدث مفتي رواندا ورئيس مجلسها الأعلى للشؤون الإسلامية عن أحوال المسلمين في رواندا بشكل عام، عن الفرص المتاحة لهم والتحديات التي تواجههم.
كما قدم خلال حديثه نبذة تعريفية بالمجلس الذي تأسس عام 1964 ويعتبر مظلة رسمية للمسلمين، يمثلهم وينسق مع السلطات لمتابعة أوضاعهم، ويرعى شؤونهم في البلاد، ويسعى إلى تنمية وتطوير مجتمعهم.
ويشرف المجلس على مساجد البلاد جميعا البالغ عددها 456، ويعين الخطباء والأئمة، ويهتم المجلس أيضا بتطوير الدعاة والعلماء وتأهيلهم للدعوة ونشر تعاليم الإسلام في المجتمع.
وبالقدر الذي يشكل فيه دخول أعداد كبيرة من النصارى في الإسلام فرصة، فإنه يشكل تحديا نظرا لقلة الإمكانات التي يمتلكها المجلس لاحتوائهم وتعليمهم.
واستثمر الشيخ موسى المقابلة إلى توجيه دعوة عبر الجزيرة نت للمؤسسات الإسلامية في العالم العربي والإسلام لتكثيف جهودها في رواندا، من أجل خدمة المسلمين الجدد وتوفير الدعم للمجلس من أجل القيام بواجبه في خدمة الإسلام.
كما حث مفتي رواندا المنظمات الإسلامية إلى إنشاء مؤسسة للوقف الإسلامي لتمويل المناشط الدعوية، وتخصيص منح دراسية للطلاب المسلمين، مما سيكون له انعكاس إيجابي على أوضاع المسلمين بشكل عام في رواندا.