يستذكر الأردنيون اليوم الثلاثاء 21 آذار يوم الكرامة الذي ضربت فيه القوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي قبل 55 عاما، موعدا مع النصر، وتخليد الشهداء الذين كانوا سبب النصر العظيم.
معركة الكرامة التي بدأت فجر 21 آذار، عام 1968 بين الجيش الأردني، وجيش الاحتلال الإسرائيلي، وانتصر فيها الأردن بعد قتال استمر 15 ساعة، أسفرت عن استشهاد 88، وجرح 108 آخرين، وتدمير 13 دبابة، و39 آلية مختلفة للأردن، في المقابل قٌتل في المعركة 250 من القوات الإسرائيلية، وجرح 450 آخرون، ودمرت 88 آلية مختلفة، شملت 47 دبابة، و18 ناقلة، و24 سيارة مسلحة، و19 سيارة شحن، وأسقطت 7 طائرات مقاتلة.
إن دماء الشهداء من أبناء هذا الجيش لا زالت منارات وشواهد على البطولات التي سجلوها على أسوار القدس، وفي اللطرون وباب الواد والكرامة وفي أماكن كثيرة على الأرض العربية” من أقوال الحسين بن طلال طيب الله ثراه.
الكرامة أهزوجة النصر العربي
يعيش الأردن وأمته العربية هذه الأيام زهواً وفخاراً بذكرى معركة الكرامة الخالدة، وأمجادها الرائعة، ونستذكر ذلك الإنجاز العسكري والانتصار العربي البارز، ونحن نستعرض صفحة الكرامة الناصعة من صفحات تاريخ الجيش العربي، ونقرأ أسفاراً من أمجاد البطولة لجيشنا الباسل في معاركه التي خاضها خلال سنوات الصراع العربي الإسرائيلي، ذلك هو تاريخه المشرف وهو يدافع غرب النهر عن ثرى فلسطين وذوداً عن الأقصى والمقدسات، على أسوار القدس وبوابة الأقصى والصخرة المشرفة ومهد المسيح والقيامة وخليل الرحمن، وعن كل حبة تراب من الثرى الطهور وعن ثرى الجولان وفي مواقع عديدة من الوطن العربي.
البيئة الجيو- سياسية قبل معركة الكرامة
يمكن تلخيص البيئة الجيو سياسية التي سبقت معركة الكرامة بما يلي:
أ) بعد انتهاء حرب 1967:
أصبحت الشريعة (نهر الأردن) خط وقف إطلاق النار بين الأردن وإسرائيل، وامتداد وادي عربة جنوبا حتى العقبة حيث كانت القوات الأردنية ترابط على أطول خط لوقف إطلاق النار خلال فترة الصراع العربي الإسرائيلي ويبلغ طول الواجهة تقريباً (480) كم.
ب) كانت المناطق المتاخمة لخط وقف إطلاق النار مناطق زراعية من الدرجة الأولى، وتكثُر فيها البيارات والبساتين، وكان المواطنون الأردنيون يقومون بزراعة هذه الأراضي والقيام عليها تحت إشراف وحماية سيطرة الجيش العربي، واستمروا بالعمل في أرضهم وبيوتهم بمؤازرة ودعم الجيش العربي لهم، وقد كان قسمٌ كبيرٌ من الأراضي مزروعاً بحقول الألغام (التي تمت إزالتها بعد اتفاقية السلام بين الأردن وإسرائيل)، حيث كانت هذه الحقول جزءًا من الخطة الدفاعية الأردنية أيام تلك الفترة، ولا تزال المواقع هي ذاتها منذ انتهاء حرب الأيام الستة عام1967م.
ج) كان الأردن يتحمل مسؤولية دعم الفدائيين والسماح لهم بالتواجد على أراضيه، وهذا عائد لاستقلالية القرار الأردني من ناحية، ومن ناحية أخرى لاعتماد الأردن على قواته المسلحة في حماية أراضيه والدفاع عنها ضد أي تهديد، وأن معركة الكرامة لم تقع فجأة بل كانت الفترة التي سبقتها وتلت حرب 67 مسرحاً لمعارك يومية بين الجيش العربي والقوات الإسرائيلية.
د) كانت إسرائيل تعي أهمية الدور الأردني في المنطقة، والذي كان يشكل رأس الحربة في النضال القومي خلال فترة الصراع، وعليه فقد كان لها أطماع وأهداف استراتيجية كانت تخطط لها، وتتحين الفرص لتنفيذها ضد الأردن، حيث كانت الأجواء السائدة آنذاك أفضل الأجواء، فأخذها العدو ذريعة وغطاء لتنفيذ تلك الأهداف مثل مقولة ( تدمير قواعد العمل الفدائي في غور الأردن)، إذ إن مثل هذه المقولة لا تحتاج إلى هذا الحشد العسكري الهائل أو تلك الحركة العسكرية طالما إن لدى إسرائيل من وسائل ومضاعفات القوة ما يكفي لقصف وتدمير الأغوار دون اللجوء إلى مهاجمتها عسكرياً، الأمر الذي كان أبعد بكثير من تلك الذريعة التي خلقتها إسرائيل لتبرير هجومها العسكري واعتدائها على الأراضي الأردنية.
ه) كانت الاستراتيجية السياسية والعسكرية المتبناة في فرض سياسة الأمر الواقع، وهذه تحتاج إلى عمل إجراء على الأرض لتستطيع إسرائيل من خلاله الحصول على ورقة مهمة تفاوض عليها سياسياً في مراحل لاحقة، وما يؤكد الأهداف الاستراتيجية، تلك العملية التي أذيع أنها كانت أهداف إسرائيل في إعادة رسم حدودها إلى أبعد مما هي عليه.
و) كان توضيع قوات الجيش العربي على الواجهة الوسطى وعلى أخطر الكريدورات التي تقود إلى المرتفعات الشرقية مرتفعات ناعور والسلط، بالتالي إلى مركز الثقل (عمان)، وهو الأساس في الخطة الدفاعية لقوات الجيش العربي على ذلك الكريدور خلال الفترة التي سبقت المعركة، والذي يتضمن أخطر المقتربات التي تقود بسرعة ومن أقصر الطرق إلى أهداف حاسمة ومهمة.
تحليل الجوانب المهمة في معركة الكرامة
بغية الوقوف على الحقيقة لا بد لأي محلل عسكري لسير معركة الكرامة من أن يُحكِم المنطق العسكري أثناء التحليل، حيث أن تلك المعركة التي خاضها الجيش العربي لم تكن عملية محدودة ضد هجوم منفرد قامت دورية بغارة مسلحة على هدف محدد، بل كانت معركة واسعة استمرت لفترة من الزمن على رقعة من الأرض شاركت فيها كافة الأسلحة، ولكي نقف على حقيقة تلك المعركة فلا بد من إخضاع الجوانب المهمة التالية في تلك المعركة للتحليل.
أ) طبيعة المعركة:
إن معركة الكرامة تعتبر من المعارك العسكرية المخطط لها بدقة، نظراً لتوقيت العملية وطبيعة ونوع الأسلحة المستخدمة فيها, حيث شاركت بها من الجانبين أسلحة المناورة وعلى اختلاف أنواعها إلى جانب سلاح الجو لعبت خلالها كافة الأسلحة الأردنية، وعلى رأسها سلاح المدفعية الملكي أدواراً فاعلة طيلة المعركة، وبالنظر لتوقيت المعركة نجد أن لتوقيت الهجوم (ساعة الصفر ) دلالة أكيدة على أن الأهداف التي خُطِطَّ للاستيلاء عليها هي أهداف حاسمة للمهاجم، وتحتاج القوات المنفذة لفترة من الوقت للعمل قبل الوصول إليها واحتلالها (وهذا يؤكد وبشدة مقولة أن هدف معركة الكرامة هو فقط تدمير قواعد الفدائيين الفلسطينيين في الأغوار) من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن طبيعة الأسلحة المشاركة في تلك المعركة من الجانب الإسرائيلي (جميع أسلحة المناورة المسندة بأسلحة الإسناد والمدعومة بسلاح الجو) تؤكد أن المخطط لتلك المعركة كان قد بنى خططه على معلومات استخبارية وأمنية اتضح من خلال تقديمها حجم القوات الأردنية المقابلة وتسليحها وطبيعة دفاعها، الأمر الذي حدد لذلك المخطط زج هذا الحجم الهائل من القوات بغية تحقيق عنصر المفاجأة، وإدامة الاستحواذ على عنصر المبادأة أو المبادرة، لتأسيس جسر يسمح باستيعاب باقي القوات المخصصة للهجوم بغية الوصول إلى الأهداف النهائية المبتغاة.
ويؤكد حقيقة لا مُراء فيها وهي أنه لا يمكن للأفراد (مسلحين بأسلحة خفيفة من الوقوف أمام هذا المد الإسرائيلي والجيش المُنظم والمُسلح بمختلف أنواع الأسلحة) إذا إن زخم الهجوم ما كان ليكُسر لولا أن القوة المقابلة كانت كبيرة ومُنظمة، وتعمل من مواقع دفاعية مُنظمة ومُخططة وفقاً لأسلوب الدفاع الثابت، حيث أن القوات التي عبرت النهر جرى التماس معها منذ البداية واستدراجها إلى ما بين الخطوط الدفاعية الأردنية على جبهة المعركة حتى جرى امتصاص زخم هجومها في عمق المواقع الدفاعية التي تعبر جهة الموقع الدفاعي الرئيس، حيث خاضت مما هو متاح لها معركة كبيرة في ذلك اليوم.
ب) اتساع جبهة المعركة:
لم تكن معركة الكرامة محدودة تهدف لتحقيق هدف مرحلي كما أشيع، بل كانت معركة امتدت جبهاتها من جسر الأمير محمد شمالاً إلى جسر الأمير عبدالله جنوباً في الاغوار الوسطى، وفي الجنوب كان هناك هجوم تضليلي على منطقة الغور الصافي وغور المزرعة.
ومن خلال دراسة جبهة المعركة نجد أن الهجوم الإسرائيلي قد خُطِطَ له على أكثر من مقترب، ما يُؤكد مدى الحاجة لهذه المقتربات لاستيعاب القوات المهاجمة وبشكل يسمح بإيصال أكبر حجم من تلك القوات على اختلاف أنواعها وتسليحها وطبيعتها إلى الضفة الشرقية بغية إحداث المفاجأة والاستحواذ على زمام المبادرة، بالإضافة إلى ضرورة إحداث خرق ناجح في أكثر من اتجاه يتم البناء عليه لاحقاً ودعمه بغية الوصول إلى الهدف النهائي، ومن ناحية أخرى فإن جبهة المعركة تؤكد أن تعدد المقتربات كانت الغاية منه تشتيت الجهد الدفاعي لمواقع الجيش العربي المرابطة في المواقع الدفاعية، حيث كانت قوات منظمة أقامت دفاعها على سلسلة من الخطوط الدفاعية بدءًا من النهر وحتى عمق المنطقة الدفاعية، الأمر الذي لن يجعل اختراقها سهلاً أمام المهاجم وكما كان يتصور، لا سيما أن المعركة قد جاءت مباشرة بعد حرب عام 1967.
ج) أهداف المعركة:
لم تكن الأهداف النهائية للمعركة التي خطط لها الإسرائيليون كما يشاع (تدمير قواعد العمل الفدائي في غور الأردن) حيث أن معركة الكرامة كانت ذات أهداف إسرائيلية استراتيجية وحاسمة تهدف إلى احتلال سلسلة الجبال الشرقية بغية فرض سياسة الأمر الواقع، وهذا يؤكده حجم القوات التي تم حشدها لهذه العملية، حيث وصلت إلى ما يربو على ثلاث فرق عسكرية عَبَر جزء منها شرقي النهر، وكانت بقية القوات تحتشد في عمق المنطقة العسكرية الوسطى وتنتظر دورها في العبور نحو أهدافها، حيث أن خريطة خطة الهجوم كانت تبين الأهداف النهائية بوضوح، وإن المحلل العسكري عندما يرى تلك الأهداف يستطيع أن يخمن ويقدر حجم القوات اللازمة لتنفيذ الهجوم عليها، الأمر الذي يؤكده حجم القوات التي تم حشدها فعلياً في تلك المعركة، بالإضافة إلى ما تناقلته وكالات الأنباء آنذاك من أن وزير الدفاع الإسرائيلي موشي دايان أوعز للعديد من الصحفيين للاستعداد لحضور مؤتمره الصحفي الذي سيعقده في عصر ذلك اليوم في بقعة ما من المنطقة، وما كان لهذا الهوس أن يقهر لولا وقفة الجيش العربي في وجه تلك القوات المهاجمة حيث قاتل كجيش منظم ومدرب ومسلح مستخدماً ما هو متاح له بأفضل السبل.
أهداف المعركة
أ) أهداف نفسية:
1.القضاء على قوات الجيش العربي الأردني قبل أن يتمكن من إعادة التنظيم بشكل جيد بعد حرب حزيران.
2. تحطيم الروح المعنوية في صفوف الجيش وزعزعة الجبهة الداخلية في الأردن.
ب. أهداف اقتصادية تتمثل في ضرب الوضع الاقتصادي في وادي الأردن الذي يشكل المورد الزراعي الرئيس للمملكة ليصبح أرضاً غير منتجة.
ج) أهداف تعبوية:
1. احتلال المرتفعات الشرقية لغور الأردن باعتبارها منطقة تعبوية مسيطرة، وليس تعبوية فقط، وإنما استراتيجية باعتبار المنطقة الممتدة بعد مشارف السلط وحتى الحدود الأردنية الشرقية مناطق مكشوفة إلى حدٍ كبير.
2. تثبيت القوات الأردنية المتمركزة في مواقعها الدفاعية المختلفة بواسطة القصف الجوي، وضرب المقاومين العرب في بلدة الكرامة.
د) أهداف سياسة:
1. احتلال المزيد من الأراضي الأردنية والمساومة عليها.
2.فرض شروطها السياسية على الأردن.
موقف الطرفين
أ. القوات الأردنية، فرقة المشاة الأولى وتدافع عن المنطقة الوسطى والجنوبية ابتداءً من سيل الزرقاء، وحتى العقبة جنوباً، وكانت موزعة كالتالي:
(1) لواء حطين، ويحتل مواقعه الدفاعية على مقترب ناعور.
(2) لواء الأميرة عالية، ويحتل مواقع دفاعية على مقترب وادي شعيب.
(3) لواء القادسية، ويحتل مواقع دفاعية على مقترب العارضة.
(4) يساند لواء الأمير الحسن بن طلال المدرع/ 60 فرقة المشاة الأولى حيث كانت كتائبه موزعة على الألوية الآنفة الذكر وكتيبة الاحتياط.
(5) تساند الفرقة ثلاث كتائب مدفعية ميدان وسرية مدفعية.
(6) تساند الفرقة كتيبة هندسة ميدان.
(7) كانت القوات الأردنية مهيأة نفسياً، وجرى إنذارها واتخاذ كافة الاحتياطات، وقامت باحتلال المواقع الدفاعية والتنسيق بشكل جيد وجرى تفقد الوحدات وإكمال النقص.
ب. قوات العدو، وتتألف مما يلي:
(1) قوات رأس الجسر.
أ. اللواء المدرع /7
ب. اللواء المدرع/60
ج. لواء المشاة الآلي/ 80
د. سرية مظليين من لواء المظليين/ 35
ه. خمس كتائب مدفعية ميدان ومدفعية ثقيلة.
و. أربعة أسراب طائرات مقاتلة (ميراج، مستير).
ز. عدد من طائرات الهليكوبتر القادرة على نقل كتيبتي مظليين.
(2) قوات الهجوم الرئيس، وتتألف من فرقة مدرعة وفرقة مشاة آلية، وكانت منطقة الحشد لهما في (أريحا) بانتظار نجاح عملية رأس الجسر.
خطة الطرفين
أ) خطة دفاع القوات الأردنية:
كانت الخطة بأن تدافع فرقة المشاة الأولى عن المنطقة المسؤولية بثلاثة ألوية مشاة وكتيبتي دبابات كما يلي:
1) لواء حطين، يدافع على مقترب جسر الملك عبدالله ناعور- عمان- على مرتفعات الكفرين.
2) لواء عالية، يدافع على المرتفعات المسيطرة على وادي شعيب /السلط.
3) لواء القادسية، يدافع على المرتفعات المسيطرة على مثلث العارضة.
4) كتيبة الدبابات موزعة بمعدل سرية على كل مقترب.
5) كتيبة دبابات احتياط.
6) إخراج حجابات بحجم كتيبة مشاة وسرية دبابات.
7) تساند هذه الخطة ثلاث كتائب مدفعية ميدان لتدمير قوات العدو ومنعها من احتلال مرتفعات ناعور والسلط.
ب) خطة العدو:
اعتمدت إسرائيل بعد حرب حزيران عام 67 في توزيع قواتها على طول الواجهة على مبدأ احتلال النقاط الحصينة والمنظمة بعمق ومراقبة أمامية بتمرير المعلومات إيقاع الخسائر في أية قوات مهاجمة وتأخيرها، وتحتل القوات الرئيسة مواقع خلفية تزجها في الوقت والمكان المناسبين، أما في معركة الكرامة فكانت خطتها كما يلي:
1. الحركة من منطقة الحشد إلى منطقة التجمع في أريحا.
2. قام العدو بتقسيم قواته المكونة من فرقة مدرعة بمعدل مجموعة قتال على كل مقترب، والاحتفاظ ببقية القوات كاحتياط لتعزيز النجاح على أي مقترب.
3. البدء بالهجوم الساعة (0530) يوم 21 آذار 1968 على ثلاثة مقتربات رئيسة ومقترب رابع تضليلي لتأسيس موطئ قدم شرقي النهر ولغاية طريق الشونة الشمالية والبحر الميت، يسبقها إنزال مظليين في بلدة الكرامة.
4. تطوير الهجوم باتجاه الأهداف المخططة، وذلك لاحتلال مرتفعات السلط وناعور أو أحدها باستغلال النجاح الذي يتوفر على أي من المقتربين.
5. إسناد قوات العدو بنيران خمس كتائب مدفعية وأربعة أسراب طائرات مقاتلة.
محاور القتال:
حشَّد العدو لمعركة الكرامة أفضل قواته تدريباً وخبرة قتالية فقد استخدم لواء المدرع/7، وهو الذي سبق أن نفذ عملية الإغارة على قرية السموع عام 1966م واللواء المدرع/60، ولواء المظليين/35، ولواء المشاة/80، وعشرين طائرة هليكوبتر لنقل المظليين، وخمس كتائب مدفعية (155ملم و105 ملم)، بالإضافة إلى قواته التي كانت في تماس مع قواتنا على امتداد خط وقف إطلاق النار، وسلاحه الجوي الذي كان يسيطر سيطرة تامة على سماء وأرض المعركة، بالإضافة إلى قوة الهجوم التي استخدمها في غور الصافي، وهي كتيبة دبابات وكتيبة مشاة آلية وسريتي مظليين وكتيبة مدفعية، حُشدت هذه القوات جميعها في منطقة أريحا، ودفع بقوات رأس الجسر إلى مناطق قريبة من مواقع العبور الرئيسة الثلاثة، حيث كان تقربه ليلاً.
بدأ العدو قصف المركز على مواقع الإنذار والحماية، ثم قام بهجومه الكبير على الجسور الثلاثة في وقت واحد، حيث كان يسلك الطريق التي تمر فوق هذه الجسور وتؤدي إلى الضفة الشرقية، وهي طريق جسر داميا (الأمير محمد) وتؤدي إلى المثلث المصري، ثم يتفرع منها مثلث العارضة- السلط- عمان وطريق أريحا ثم جسر الملك حسين- الشونة الجنوبية وادي شعيب- السلط – عمان ثم جسر الأمير عبدالله (سويمه، ناعور) عمان.
وفي فجر يوم 21 اذار 1968 زمجرت المدافع، ودنت أقدام المعتدين من ماء النهر المقدس عندها انطلقت الأصوات على الأثير عبر الأجهزة اللاسلكية تعلن بدء الهجوم الصهيوني عبر النهر على الجيش الأردني الصامد المرابط.
القتال على محور جسر الأمير محمد
اندفعت القوات العاملة على هذا الجسر تحت ستار كثيف من نيران المدفعية والدبابات والرشاشات المتوسطة، فتصدت لها قوات الحجاب الموجودة شرق الجسر مباشرة ودارت معركة عنيفة تمكنت قواتنا خلالها من تدمير عدد من الدبابات للعدو وإجباره على التوقف.
عندها حاول العدو إقامة جسرين إضافيين إلا أن كثافة القصف المدفعي على مواقع العبور، ثم كرر اندفاعه ثانية، وتحت ستر نيران الجو والمدفعية إلا أنه فشل أيضاً، وعند الظهيرة صدرت إليه الأوامر بالانسحاب والتراجع غرب النهر تاركاً العديد من الخسائر بالأرواح والمعدات.
القتال على محور جسر الملك حسين.
لقد كان هجوم العدو الرئيس موجهاً نحو الشونة الجنوبية، وكانت قواته الرئيسة المخصصة للهجوم مركزة على هذا المحور الذي يمكن التحول منه إلى بلدة الكرامة والرامة والكفرين جنوباً، واستخدام العدو في هذه المعركة لواءين (لواء دروع ولواء آلي) مسندين تساندهما المدفعية والطائرات.
وفي صباح يوم الخميس 21 آذار دفع العدو بفئة دبابات نحو عبور الجسر، واشتبكت مع قوات الحجاب القريبة من الجسر إلا أن قناصي الدروع تمكنوا من تدمير تلك الفئة بعدها قام العدو بقصف شديد ومركز على المواقع، ودفع بكتيبة دبابات وسرية محمولة، وتعرضت تلك القوة إلى قصف مدفعي مستمر ساهم في الحد من اندفاعه، إلا أن العدو دفع بمجموعات أخرى من دروعه ومشاته، بعد قتال مرير استطاعت هذه القوة التغلب على قوات الحجاب ثم تجاوزتها، ووصلت إلى مشارف بلدة الكرامة من الجهة الجنوبية والغربية مدمرة جميع الأبنية في أماكن تقدمها.
واستطاع العدو إنزال الموجه الأولى من المظليين شرقي الكرامة لكن هذه الموجه تكبدت خسائر كبيرة في الأرواح وإفشالها، ما دفع العدو إلى إنزال موجه أخرى، تمكنت هذه الأخيرة من الوصول إلى بلدة الكرامة، وبدأت بعمليات تدمير لبنايات البلدة، واشتبكت مع بعض الجنود والسكان والمقاومة في قتال داخل المباني، وفي هذه الأثناء استمر العدو بمحاولات الهجوم على بلدة الشونة الجنوبية، وكانت قواتنا تتصدى له في كل مرة، وتوقع به المزيد من الخسائر، وعندما اشتدت ضراوة المعركة طلب العدو ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وقف إطلاق النار، ولكن جلالة القائد الأعلى للقوات المسلحة الحسين بن طلال -طيب الله ثراه- أمر باستمرار القتال حتى خروج أخر جندي إسرائيلي من ساحة المعركة، وحاول العدو الانسحاب إلا أن قواتنا تدخلت في عملية الانسحاب، وحولته إلى انسحاب غير منظم فترك العدو عدداً من آلياته وقتلاه في أرض المعركة.
القتال على محور جسر الأمير عبدالله
حاول العدو القيام بعملية عبور من هذا المحور باتجاه ناعور- عمان، وحشد لهذا الواجب قوات مدرعه إلا أنه فشل ومنذ البداية على هذا المحور، ولم تتمكن قواته من عبور النهر بعد أن دمرت معظم معدات التجسير التي حاول العدو استخدامها في عملية العبور.
وفي محاولة بائسة من العدو لمعالجة الموقف فصل مجموعة قتال من قواته العاملة على مقترب وادي شعيب ودفعها إلى مثلث الرامة خلف قوة الحجاب العاملة شرق الجسر لتحاصرها، إلا أنها وقعت في الحصار، وتعرضت إلى قصف شديد أدى إلى تدمير عدد كبير من آلياتها.
وانتهى القتال على هذا المقترب بانسحاب فوضوي لقوات العدو، وكان لمقاومة قواتنا بالمدفعية ونيران الدبابات وأسلحة مقاومة الدروع الأثر الأكبر في إيقاف تقدم العدو وبالتالي دحره خائباً خاسراً.
محور غور الصافي.
حاول العدو جاهداً تشتيت جهد القوات الأردنية ما أمكن، وإرهاب سكان المنطقة، وتدمير منشآتها مما حدا به إلى الهجوم على مقترب غور الصافي برتل من دباباته ومشاته الآلية، مُمهداً لذلك بحملة إعلانية نفسية مستخدماً المناشير التي كان يُلقيها على السكان يدعوهم فيها إلى الاستسلام وعدم المقاومة، كما قام بعمليات قصف جوي مكثف على قواتنا إلا أن كل ذلك قوبل بالمقاومة العنيفة، وبالتالي أُجبِرَ على الانسحاب، وهكذا فقد فشل العدو تماماً في هذه المعركة دون أن يحقق أيا من أهدافه على جميع المقتربات، وخرج من هذه المعركة خاسراً مادياً ومعنوياً خسارة لم يكن يتوقعها أبداً.
لقد صدرت الأوامر الإسرائيلية بالانسحاب حوالي الساعة (1500 ) بعد أن رفض جلالة الملك الحسين القائد الأعلى للقوات المسلحة آنذاك وقف إطلاق النار، والذي كان يشرف بنفسه على المعركة ويقودها، ويبعث روح الحماس بين جنوده وقواته، وكان بتصميمه وإرادته القوية مثلاً رائعاً تعلم منه الجميع كيف تكون الإرادة الحرة القوية فوق كل اعتبار.
لقد استغرقت عملية الانسحاب تسع ساعات نظراً للصعوبة التي عانى منها الإسرائيليون في التراجع بسبب القصف المركز من جانب قواتنا.
د) السيطرة على الجسور
لقد لعب سلاح الدروع والمدفعية الملكيين دوراً كبيراً في معركة الكرامة وعلى طول الجبهة، وخاصة في السيطرة على جسور العبور، وهذا يؤكد عدم مقدرة الجيش الإسرائيلي على دفع أي قوات جديدة لإسناد هجومه الذي بدأه وذلك نظراً لعدم قدرتهم على السيطرة على الجسور خلال ساعات المعركة وقد أدى ذلك إلى فقدان القوات الإسرائيلية المهاجمة لعنصر المفاجأة، وبالتالي المبادرة، وساهم بشكل كبير في تخفيف زخم الهجوم وعزل القوات المهاجمة شرقي النهر، وبشكل سهل للتعامل معها وتدميرها، وقد استمر دور سلاح المدفعية والدروع حاسماً طيلة المعركة من خلال حرمان الإسرائيليين من التجسير أو محاولة إعادة البناء على الجسور القديمة، وحتى نهاية المعركة، ما يؤكد أن الجيش العربي قد خاض معركة الكرامة وهو واثق من نفسه، وإن الجهد الذي قد بذل كان جهداً دفاعياً شرساً مخططاً بالتركيز على أهم نقاط القتال للقوات المهاجمة بغية كسر حدة زخمها وإبطاء سرعة هجومها.
ه) توقيت بدء معركة الجيش العربي
بدأ الجيش العربي قتاله بعد مرور خمس ساعات، وبالنظر إلى قصر مقتربات الهجوم، قاد بسرعة إلى أهداف حاسمة (مركز الثقل) فإن مدة خمس ساعات كافيةٌ لوصول تلك القوات إلى أهدافها خاصة في ظل حجم القوات التي تم دفعها وطبيعتها وسرعة وزخم هجومها، ومن ناحية أخرى فإن دور كافة الأسلحة الأردنية وخاصة المدفعية يجب أن تكون مغيبةٌ طيلة خمس ساعات ونصف، وهذا كاف لتمكين القوات الإسرائيلية من العبور وحسب المقتربات المخصصة لها حيث أنهم لا يحتاجون لبناء جسور أو أطواق، لأن بعض الجسور موجودة أصلاً إلا ما ينقض هذه المقولة من أساسها هو عدم مقدرة الإسرائيليين على دعم قواتهم شرقي النهر، وحاولوا جُزافاً إعادة البناء على الجسور السابقة، كما حاولوا بناء جسور حديدية بغية إدامة زخم الهجوم والمحافظة على زمام المبادأة، إلا أن القوات الأردنية ومنذ اللحظة الأولى للهجوم فوتت عليهم الفرصة وحرمتهم منها، وهذا دليل على أن القوات الإسرائيلية التي تكاملت شرق النهر كانت بحجم فرقة، وهي القوات التي عبرت من الساعة الأولى، وتم استدراجها في عمق المواقع الدفاعية، وكسر حدة هجومها وبعدها لم تتمكن القوات الإسرائيلية من زج أي قوات جديدة شرق النهر، الأمر الذي أربكها وزاد من حيرتها خاصة في ظل شراسة المواقع الدفاعية ومقاومته الشديدة التي واجهتهم، وقد استخدمت القوات المسلحة في قتالها مع القوات الإسرائيلية المهاجمة في الشونة كافة الأسلحة قصيرة المدى والسلاح الأبيض.
و) طلب وقف إطلاق النار.
لجأت إسرائيل لوقف إطلاق النار الساعة الحادية عشرة، وهذا دليل كبير على أن قوات الجيش العربي التي واجهتها في المواقع الدفاعية كانت بحجم التحدي، وكانت المعركة بالنسبة لهم معركة وجود على الصعيد العسكري، أما على الصعيد السياسي فقد أصر الأردن، وعلى لسان جلالة الملك الحسين -طيب الله ثراه- على عدم وقف إطلاق النار طالما هناك جندي إسرائيلي شرق النهر، وهذا يكفي لدرء الظلم الذي أطلقه الكثيرون على الأردن وقيادته وشعبه وجيشه وسعياً لتجيير تلك المعركة، إذ كيف يستطيع من لا يسيطر على المعركة، ويتحكم بكافة مجرياتها أن يتحكم بقرار وقف إطلاق النار الأمر الذي يثبت، وبدون أدنى شك بأن معركة الكرامة كانت معركة الجيش العربي منذ اللحظة الأولى، حيث كانت قيادته العُليا تديرها وتتابع مجرياتها لحظة بلحظة، وإن عدم قبول جلالة الملك لوقف إطلاق النار دليل على امتلاك الأمر والسيطرة على مجرياته وعند ربط هذه الفقرة مع السابقة مقولة أن الجيش العربي دخل المعركة بخمس ساعات يؤكد كذبة المقولة، وينقضها من أساسها، إذ كيف تطلب إسرائيل وقف إطلاق النار، وهي حتى ذلك الحين لم تلاق الجيش العربي الذي خططت معركتها على أساس تقييم قدراتها المقابلة لها، وكيف يمكن لبلد لم تشترك قواته حتى ذلك الوقت المزعوم في المعركة أن يطلب وقف إطلاق النار لولا أن كان في معمعتها منذ انطلاق شرارتها الأولى، ويعلم تمام العلم كيف تسير المعركة لحظة بلحظة، وكيف أن قواته تسيطر عليها بحزم، وأن قيادته العليا كانت ترى النصر المؤزر قريبا، ويحتاج إلى صبر ساعة خاصة عندما أجهضت هذه القيادة وفوتت الفرصة على العدو لرفضها بوقف إطلاق النار، حيث أنها كانت ترى بثاقب بصيرتها وحنكتها ما يخطط له الإسرائيليون في محاولة منهم لوقف القتال دون الوصول لنتائج حتمية التي يرونها رأي اليقين أن النصر في هذه المعركة قد فاتهم، وأنه أصبح دون أدنى شك بيد الجيش العربي.
وعلى المدى الأبعد فإن ثاقب بصيرة القيادة يؤكد منذ البداية أن موضوع السيادة كان محسوماً على الأرض الأردنية، إذ لا يمكن لإسرائيل أن تطلب وقف إطلاق النار إلا من جهة مقابلة ذات سيادة ولها قرار سيادي وسياسي على أرض الواقع، ما ينفي بكل تأكيد ما ذهب إليه البعض في محاولة منهم لتجيير تلك المعركة، وغمط دور الجيش العربي فيها، فقد ذكر أحد قادة العدو قائلاً (لقد أصيبت جميع دبابتي على الأرض الأردنية ما عدا اثنتين).
ز) الإنزال الإسرائيلي في بلدة الكرامة.
إن عملية الإنزال التي قامت بها القوات الإسرائيلية شرقي بلدة الكرامة كانت الغاية منها تخفيف الضغط على قواتها التي عبرت شرقي النهر، بالإضافة لتدمير بلدة الكرامة خاصةً عندما لم تتمكن من زج أية قوات جديدة عبر الجسور، نظراً لتدميرها من قبل سلاح المدفعية الملكي، ما يدل بشكل قاطع على أن الخطط الدفاعية التي خاضت قوات الجيش العربي معركتها الدفاعية من خلالها كانت مُحكمة، وساهم في نجاحها الإسناد المدفعي الكثيف والدقيق إلى جانب صمود الجنود في المواقع الدفاعية وعمقها.
نتائج المعركة
أ. كانت معركة الكرامة نقطة تحول في تاريخ الأمة العربية الحديث، وفي تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، حيث طلب العدو، ولأول مرة، وقف إطلاق النار، وامتنع العدو بعد معركة الكرامة عن خوض أية معركة بالقوات الأرضية، واقتصرت معاركه على القصف الجوي والمدفعي، واستخدام القوات المحمولة جواً وهبوطها في الأماكن النائية والمعزولة، وتدمير بعض الجسور.
ب. على الصعيد السياسي، خسرت إسرائيل خسارة كبيرة، ووصمت بالعدوان، وتحول قسم كبير من الرأي العام إلى الصالح العربي، وظهرت موجات من التذمر في أوساط إسرائيل الداخلية الرسمية والشعبية.
ج. على الصعيد الاقتصادي، قُدرت خسائر إسرائيل بالملايين، حيث استخدمت أسلحة تعادل فرقة من الدروع والمدفعية والمشاة، وعدداً هائلاً من الطلعات الجوية والتي كلفت نفقات باهظة حالت دون تحقيق أي أهداف تذكر.
د. على الصعيد النفسي فشل العدو في تحقيق هدفه بتحطيم إرادة الجيش والشعب الأردني، بل جاءت النتيجة عكسية أن ارتفعت الروح المعنوية لدى الجيش الأردني والشعب في الأردن، وفشل العدو في المحافظة على معنويات قواته التي تعودت أن ترى نفسها دائماً منتصرة، وبذلك تحطمت أسطورة الجيش الذي لا يقهر.
ه. (خسائر الطرفين)
قواتنا الباسلة:
88 شهيداً، و108 جرحى، تدمير 13 دبابة و39 آلية مختلفة.
قوات العدو:
250 قتيلاً، و450 جريحاً، تدمير 88 آلية مختلفة، شملت 47 دبابة، و18 ناقلة، و24 سيارة مسلحة، و19 سيارة شحن، وإسقاط 7 طائرات مقاتلة.
تحليل الجوانب المهمة في معركة الكرامة
بغية الوقوف على الحقيقة لا بد لأي محلل عسكري لسير معركة الكرامة من أن يُحكِم المنطق العسكري أثناء التحليل، حيث أن تلك المعركة التي خاضها الجيش العربي لم تكن عملية محدودة ضد هجوم منفرد قامت دورية بغارة مسلحة على هدف محدد، بل كانت معركة واسعة استمرت لفترة من الزمن على رقعة من الأرض شاركت فيها كافة الأسلحة، ولكي نقف على حقيقة تلك المعركة فلا بد من إخضاع الجوانب المهمة التالية في تلك المعركة للتحليل.
أ) طبيعة المعركة:
إن معركة الكرامة تعتبر من المعارك العسكرية المخطط لها بدقة، نظراً لتوقيت العملية وطبيعة ونوع الأسلحة المستخدمة فيها , حيث شاركت بها من الجانبين أسلحة المناورة وعلى اختلاف أنواعها إلى جانب سلاح الجو لعبت خلالها كافة الأسلحة الأردنية، وعلى رأسها سلاح المدفعية الملكي أدواراً فاعلة طيلة المعركة، وبالنظر لتوقيت المعركة نجد أن لتوقيت الهجوم (ساعة الصفر ) دلالة أكيدة على أن الأهداف التي خُطِطَّ للاستيلاء عليها هي أهداف حاسمة للمهاجم، وتحتاج القوات المنفذة لفترة من الوقت للعمل قبل الوصول إليها واحتلالها (وهذا يؤكد وبشدة مقولة أن هدف معركة الكرامة هو فقط تدمير قواعد الفدائيين الفلسطينيين في الأغوار) من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن طبيعة الأسلحة المشاركة في تلك المعركة من الجانب الإسرائيلي (جميع أسلحة المناورة المسندة بأسلحة الإسناد والمدعومة بسلاح الجو) تؤكد أن المخطط لتلك المعركة كان قد بنى خططه على معلومات استخبارية وأمنية اتضح من خلال تقديمها حجم القوات الأردنية المقابلة وتسليحها وطبيعة دفاعها، الأمر الذي حدد لذلك المخطط زج هذا الحجم الهائل من القوات بغية تحقيق عنصر المفاجأة، وإدامة الاستحواذ على عنصر المبادأة أو المبادرة، لتأسيس جسر يسمح باستيعاب باقي القوات المخصصة للهجوم بغية الوصول إلى الأهداف النهائية المبتغاة.
ويؤكد حقيقة لا مُراء فيها وهي أنه لا يمكن للأفراد (مسلحين بأسلحة خفيفة من الوقوف أمام هذا المد الإسرائيلي والجيش المُنظم والمُسلح بمختلف أنواع الأسلحة) إذا إن زخم الهجوم ما كان ليكُسر لولا أن القوة المقابلة كانت كبيرة ومُنظمة، وتعمل من مواقع دفاعية مُنظمة ومُخططة وفقاً لأسلوب الدفاع الثابت، حيث أن القوات التي عبرت النهر جرى التماس معها منذ البداية واستدراجها إلى ما بين الخطوط الدفاعية الأردنية على جبهة المعركة حتى جرى امتصاص زخم هجومها في عمق المواقع الدفاعية التي تعبر جهة الموقع الدفاعي الرئيس، حيث خاضت مما هو متاح لها معركة كبيرة في ذلك اليوم.
ب) اتساع جبهة المعركة:
لم تكن معركة الكرامة محدودة تهدف لتحقيق هدف مرحلي كما أشيع، بل كانت معركة امتدت جبهاتها من جسر الأمير محمد شمالاً إلى جسر الأمير عبدالله جنوباً في الاغوار الوسطى، وفي الجنوب كان هناك هجوم تضليلي على منطقة الغور الصافي وغور المزرعة.
ومن خلال دراسة جبهة المعركة نجد أن الهجوم الإسرائيلي قد خُطِطَ له على أكثر من مقترب، ما يُؤكد مدى الحاجة لهذه المقتربات لاستيعاب القوات المهاجمة وبشكل يسمح بإيصال أكبر حجم من تلك القوات على اختلاف أنواعها وتسليحها وطبيعتها إلى الضفة الشرقية بغية إحداث المفاجأة والاستحواذ على زمام المبادرة، بالإضافة إلى ضرورة إحداث خرق ناجح في أكثر من اتجاه يتم البناء عليه لاحقاً ودعمه بغية الوصول إلى الهدف النهائي، ومن ناحية أخرى فإن جبهة المعركة تؤكد أن تعدد المقتربات كانت الغاية منه تشتيت الجهد الدفاعي لمواقع الجيش العربي المرابطة في المواقع الدفاعية، حيث كانت قوات منظمة أقامت دفاعها على سلسلة من الخطوط الدفاعية بدءًا من النهر وحتى عمق المنطقة الدفاعية، الأمر الذي لن يجعل اختراقها سهلاً أمام المهاجم وكما كان يتصور، لا سيما أن المعركة قد جاءت مباشرة بعد حرب عام 1967.
ج) أهداف المعركة:
لم تكن الأهداف النهائية للمعركة التي خطط لها الإسرائيليون كما يشاع (تدمير قواعد العمل الفدائي في غور الأردن) حيث أن معركة الكرامة كانت ذات أهداف إسرائيلية استراتيجية وحاسمة تهدف إلى احتلال سلسلة الجبال الشرقية بغية فرض سياسة الأمر الواقع، وهذا يؤكده حجم القوات التي تم حشدها لهذه العملية، حيث وصلت إلى ما يربو على ثلاث فرق عسكرية عَبَر جزء منها شرقي النهر، وكانت بقية القوات تحتشد في عمق المنطقة العسكرية الوسطى وتنتظر دورها في العبور نحو أهدافها، حيث أن خريطة خطة الهجوم كانت تبين الأهداف النهائية بوضوح، وإن المحلل العسكري عندما يرى تلك الأهداف يستطيع أن يخمن ويقدر حجم القوات اللازمة لتنفيذ الهجوم عليها، الأمر الذي يؤكده حجم القوات التي تم حشدها فعلياً في تلك المعركة، بالإضافة إلى ما تناقلته وكالات الأنباء آنذاك من أن وزير الدفاع الإسرائيلي موشي دايان أوعز للعديد من الصحفيين للاستعداد لحضور مؤتمره الصحفي الذي سيعقده في عصر ذلك اليوم في بقعة ما من المنطقة، وما كان لهذا الهوس أن يقهر لولا وقفة الجيش العربي في وجه تلك القوات المهاجمة حيث قاتل كجيش منظم ومدرب ومسلح مستخدماً ما هو متاح له بأفضل السبل.
أهداف المعركة
أ) أهداف نفسية:
1.القضاء على قوات الجيش العربي الأردني قبل أن يتمكن من إعادة التنظيم بشكل جيد بعد حرب حزيران.
2. تحطيم الروح المعنوية في صفوف الجيش وزعزعة الجبهة الداخلية في الأردن.
ب. أهداف اقتصادية تتمثل في ضرب الوضع الاقتصادي في وادي الأردن الذي يشكل المورد الزراعي الرئيس للمملكة ليصبح أرضاً غير منتجة.
ج) أهداف تعبوية:
1. احتلال المرتفعات الشرقية لغور الأردن باعتبارها منطقة تعبوية مسيطرة، وليس تعبوية فقط، وإنما استراتيجية باعتبار المنطقة الممتدة بعد مشارف السلط وحتى الحدود الأردنية الشرقية مناطق مكشوفة إلى حدٍ كبير.
2. تثبيت القوات الأردنية المتمركزة في مواقعها الدفاعية المختلفة بواسطة القصف الجوي، وضرب المقاومين العرب في بلدة الكرامة.
د) أهداف سياسة:
1. احتلال المزيد من الأراضي الأردنية والمساومة عليها.
2.فرض شروطها السياسية على الأردن.
موقف الطرفين
أ. القوات الأردنية، فرقة المشاة الأولى وتدافع عن المنطقة الوسطى والجنوبية ابتداءً من سيل الزرقاء، وحتى العقبة جنوباً، وكانت موزعة كالتالي:
(1) لواء حطين، ويحتل مواقعه الدفاعية على مقترب ناعور.
(2) لواء الأميرة عالية، ويحتل مواقع دفاعية على مقترب وادي شعيب.
(3) لواء القادسية، ويحتل مواقع دفاعية على مقترب العارضة.
(4) يساند لواء الأمير الحسن بن طلال المدرع/ 60 فرقة المشاة الأولى حيث كانت كتائبه موزعة على الألوية الآنفة الذكر وكتيبة الاحتياط.
(5) تساند الفرقة ثلاث كتائب مدفعية ميدان وسرية مدفعية.
(6) تساند الفرقة كتيبة هندسة ميدان.
(7) كانت القوات الأردنية مهيأة نفسياً، وجرى إنذارها واتخاذ كافة الاحتياطات، وقامت باحتلال المواقع الدفاعية والتنسيق بشكل جيد وجرى تفقد الوحدات وإكمال النقص.
ب. قوات العدو، وتتألف مما يلي:
(1) قوات رأس الجسر.
أ. اللواء المدرع /7
ب. اللواء المدرع/60
ج. لواء المشاة الآلي/ 80
د. سرية مظليين من لواء المظليين/ 35
ه. خمس كتائب مدفعية ميدان ومدفعية ثقيلة.
و. أربعة أسراب طائرات مقاتلة (ميراج، مستير).
ز. عدد من طائرات الهليكوبتر القادرة على نقل كتيبتي مظليين.
(2) قوات الهجوم الرئيس، وتتألف من فرقة مدرعة وفرقة مشاة آلية، وكانت منطقة الحشد لهما في (أريحا) بانتظار نجاح عملية رأس الجسر.
خطة الطرفين
أ) خطة دفاع القوات الأردنية:
كانت الخطة بأن تدافع فرقة المشاة الأولى عن المنطقة المسؤولية بثلاثة ألوية مشاة وكتيبتي دبابات كما يلي:
1) لواء حطين، يدافع على مقترب جسر الملك عبدالله ناعور- عمان- على مرتفعات الكفرين.
2) لواء عالية، يدافع على المرتفعات المسيطرة على وادي شعيب /السلط.
3) لواء القادسية، يدافع على المرتفعات المسيطرة على مثلث العارضة.
4) كتيبة الدبابات موزعة بمعدل سرية على كل مقترب.
5) كتيبة دبابات احتياط.
6) إخراج حجابات بحجم كتيبة مشاة وسرية دبابات.
7) تساند هذه الخطة ثلاث كتائب مدفعية ميدان لتدمير قوات العدو ومنعها من احتلال مرتفعات ناعور والسلط.
ب) خطة العدو:
اعتمدت إسرائيل بعد حرب حزيران عام 67 في توزيع قواتها على طول الواجهة على مبدأ احتلال النقاط الحصينة والمنظمة بعمق ومراقبة أمامية بتمرير المعلومات إيقاع الخسائر في أية قوات مهاجمة وتأخيرها، وتحتل القوات الرئيسة مواقع خلفية تزجها في الوقت والمكان المناسبين، أما في معركة الكرامة فكانت خطتها كما يلي:
1. الحركة من منطقة الحشد إلى منطقة التجمع في أريحا.
2. قام العدو بتقسيم قواته المكونة من فرقة مدرعة بمعدل مجموعة قتال على كل مقترب، والاحتفاظ ببقية القوات كاحتياط لتعزيز النجاح على أي مقترب.
3. البدء بالهجوم الساعة (0530) يوم 21 آذار 1968 على ثلاثة مقتربات رئيسة ومقترب رابع تضليلي لتأسيس موطئ قدم شرقي النهر ولغاية طريق الشونة الشمالية والبحر الميت، يسبقها إنزال مظليين في بلدة الكرامة.
4. تطوير الهجوم باتجاه الأهداف المخططة، وذلك لاحتلال مرتفعات السلط وناعور أو أحدها باستغلال النجاح الذي يتوفر على أي من المقتربين.
5. إسناد قوات العدو بنيران خمس كتائب مدفعية وأربعة أسراب طائرات مقاتلة.
محاور القتال:
حشَّد العدو لمعركة الكرامة أفضل قواته تدريباً وخبرة قتالية فقد استخدم لواء المدرع/7، وهو الذي سبق أن نفذ عملية الإغارة على قرية السموع عام 1966م واللواء المدرع/60، ولواء المظليين/35، ولواء المشاة/80، وعشرين طائرة هليكوبتر لنقل المظليين، وخمس كتائب مدفعية (155ملم و105 ملم)، بالإضافة إلى قواته التي كانت في تماس مع قواتنا على امتداد خط وقف إطلاق النار، وسلاحه الجوي الذي كان يسيطر سيطرة تامة على سماء وأرض المعركة، بالإضافة إلى قوة الهجوم التي استخدمها في غور الصافي، وهي كتيبة دبابات وكتيبة مشاة آلية وسريتي مظليين وكتيبة مدفعية، حُشدت هذه القوات جميعها في منطقة أريحا، ودفع بقوات رأس الجسر إلى مناطق قريبة من مواقع العبور الرئيسة الثلاثة، حيث كان تقربه ليلاً.
بدأ العدو قصف المركز على مواقع الإنذار والحماية، ثم قام بهجومه الكبير على الجسور الثلاثة في وقت واحد، حيث كان يسلك الطريق التي تمر فوق هذه الجسور وتؤدي إلى الضفة الشرقية، وهي طريق جسر داميا (الأمير محمد) وتؤدي إلى المثلث المصري، ثم يتفرع منها مثلث العارضة- السلط- عمان وطريق أريحا ثم جسر الملك حسين- الشونة الجنوبية وادي شعيب- السلط – عمان ثم جسر الأمير عبدالله (سويمه، ناعور) عمان.
وفي فجر يوم 21 اذار 1968 زمجرت المدافع، ودنت أقدام المعتدين من ماء النهر المقدس عندها انطلقت الأصوات على الأثير عبر الأجهزة اللاسلكية تعلن بدء الهجوم الصهيوني عبر النهر على الجيش الأردني الصامد المرابط.
القتال على محور جسر الأمير محمد
اندفعت القوات العاملة على هذا الجسر تحت ستار كثيف من نيران المدفعية والدبابات والرشاشات المتوسطة، فتصدت لها قوات الحجاب الموجودة شرق الجسر مباشرة ودارت معركة عنيفة تمكنت قواتنا خلالها من تدمير عدد من الدبابات للعدو وإجباره على التوقف.
عندها حاول العدو إقامة جسرين إضافيين إلا أن كثافة القصف المدفعي على مواقع العبور، ثم كرر اندفاعه ثانية، وتحت ستر نيران الجو والمدفعية إلا أنه فشل أيضاً، وعند الظهيرة صدرت إليه الأوامر بالانسحاب والتراجع غرب النهر تاركاً العديد من الخسائر بالأرواح والمعدات.
القتال على محور جسر الملك حسين.
لقد كان هجوم العدو الرئيس موجهاً نحو الشونة الجنوبية، وكانت قواته الرئيسة المخصصة للهجوم مركزة على هذا المحور الذي يمكن التحول منه إلى بلدة الكرامة والرامة والكفرين جنوباً، واستخدام العدو في هذه المعركة لواءين (لواء دروع ولواء آلي) مسندين تساندهما المدفعية والطائرات.
وفي صباح يوم الخميس 21 آذار دفع العدو بفئة دبابات نحو عبور الجسر، واشتبكت مع قوات الحجاب القريبة من الجسر إلا أن قناصي الدروع تمكنوا من تدمير تلك الفئة بعدها قام العدو بقصف شديد ومركز على المواقع، ودفع بكتيبة دبابات وسرية محمولة، وتعرضت تلك القوة إلى قصف مدفعي مستمر ساهم في الحد من اندفاعه، إلا أن العدو دفع بمجموعات أخرى من دروعه ومشاته، بعد قتال مرير استطاعت هذه القوة التغلب على قوات الحجاب ثم تجاوزتها، ووصلت إلى مشارف بلدة الكرامة من الجهة الجنوبية والغربية مدمرة جميع الأبنية في أماكن تقدمها.
واستطاع العدو إنزال الموجه الأولى من المظليين شرقي الكرامة لكن هذه الموجه تكبدت خسائر كبيرة في الأرواح وإفشالها، ما دفع العدو إلى إنزال موجه أخرى، تمكنت هذه الأخيرة من الوصول إلى بلدة الكرامة، وبدأت بعمليات تدمير لبنايات البلدة، واشتبكت مع بعض الجنود والسكان والمقاومة في قتال داخل المباني، وفي هذه الأثناء استمر العدو بمحاولات الهجوم على بلدة الشونة الجنوبية، وكانت قواتنا تتصدى له في كل مرة، وتوقع به المزيد من الخسائر، وعندما اشتدت ضراوة المعركة طلب العدو ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وقف إطلاق النار، ولكن جلالة القائد الأعلى للقوات المسلحة الحسين بن طلال -طيب الله ثراه- أمر باستمرار القتال حتى خروج أخر جندي إسرائيلي من ساحة المعركة، وحاول العدو الانسحاب إلا أن قواتنا تدخلت في عملية الانسحاب، وحولته إلى انسحاب غير منظم فترك العدو عدداً من آلياته وقتلاه في أرض المعركة.
القتال على محور جسر الأمير عبدالله حاول العدو القيام بعملية عبور من هذا المحور باتجاه ناعور- عمان، وحشد لهذا الواجب قوات مدرعه إلا أنه فشل ومنذ البداية على هذا المحور، ولم تتمكن قواته من عبور النهر بعد أن دمرت معظم معدات التجسير التي حاول العدو استخدامها في عملية العبور.
وفي محاولة بائسة من العدو لمعالجة الموقف فصل مجموعة قتال من قواته العاملة على مقترب وادي شعيب ودفعها إلى مثلث الرامة خلف قوة الحجاب العاملة شرق الجسر لتحاصرها، إلا أنها وقعت في الحصار، وتعرضت إلى قصف شديد أدى إلى تدمير عدد كبير من آلياتها.
وانتهى القتال على هذا المقترب بانسحاب فوضوي لقوات العدو، وكان لمقاومة قواتنا بالمدفعية ونيران الدبابات وأسلحة مقاومة الدروع الأثر الأكبر في إيقاف تقدم العدو وبالتالي دحره خائباً خاسراً.
محور غور الصافي.
حاول العدو جاهداً تشتيت جهد القوات الأردنية ما أمكن، وإرهاب سكان المنطقة، وتدمير منشآتها مما حدا به إلى الهجوم على مقترب غور الصافي برتل من دباباته ومشاته الآلية، مُمهداً لذلك بحملة إعلانية نفسية مستخدماً المناشير التي كان يُلقيها على السكان يدعوهم فيها إلى الاستسلام وعدم المقاومة، كما قام بعمليات قصف جوي مكثف على قواتنا إلا أن كل ذلك قوبل بالمقاومة العنيفة، وبالتالي أُجبِرَ على الانسحاب، وهكذا فقد فشل العدو تماماً في هذه المعركة دون أن يحقق أيا من أهدافه على جميع المقتربات، وخرج من هذه المعركة خاسراً مادياً ومعنوياً خسارة لم يكن يتوقعها أبداً.
لقد صدرت الأوامر الإسرائيلية بالانسحاب حوالي الساعة (1500 ) بعد أن رفض جلالة الملك الحسين القائد الأعلى للقوات المسلحة آنذاك وقف إطلاق النار، والذي كان يشرف بنفسه على المعركة ويقودها، ويبعث روح الحماس بين جنوده وقواته، وكان بتصميمه وإرادته القوية مثلاً رائعاً تعلم منه الجميع كيف تكون الإرادة الحرة القوية فوق كل اعتبار.
لقد استغرقت عملية الانسحاب تسع ساعات نظراً للصعوبة التي عانى منها الإسرائيليون في التراجع بسبب القصف المركز من جانب قواتنا.
د) السيطرة على الجسور
لقد لعب سلاح الدروع والمدفعية الملكيين دوراً كبيراً في معركة الكرامة وعلى طول الجبهة، وخاصة في السيطرة على جسور العبور، وهذا يؤكد عدم مقدرة الجيش الإسرائيلي على دفع أي قوات جديدة لإسناد هجومه الذي بدأه وذلك نظراً لعدم قدرتهم على السيطرة على الجسور خلال ساعات المعركة وقد أدى ذلك إلى فقدان القوات الإسرائيلية المهاجمة لعنصر المفاجأة، وبالتالي المبادرة، وساهم بشكل كبير في تخفيف زخم الهجوم وعزل القوات المهاجمة شرقي النهر، وبشكل سهل للتعامل معها وتدميرها، وقد استمر دور سلاح المدفعية والدروع حاسماً طيلة المعركة من خلال حرمان الإسرائيليين من التجسير أو محاولة إعادة البناء على الجسور القديمة، وحتى نهاية المعركة، ما يؤكد أن الجيش العربي قد خاض معركة الكرامة وهو واثق من نفسه، وإن الجهد الذي قد بذل كان جهداً دفاعياً شرساً مخططاً بالتركيز على أهم نقاط القتال للقوات المهاجمة بغية كسر حدة زخمها وإبطاء سرعة هجومها.
ه) توقيت بدء معركة الجيش العربي
بدأ الجيش العربي قتاله بعد مرور خمس ساعات، وبالنظر إلى قصر مقتربات الهجوم، قاد بسرعة إلى أهداف حاسمة (مركز الثقل) فإن مدة خمس ساعات كافيةٌ لوصول تلك القوات إلى أهدافها خاصة في ظل حجم القوات التي تم دفعها وطبيعتها وسرعة وزخم هجومها، ومن ناحية أخرى فإن دور كافة الأسلحة الأردنية وخاصة المدفعية يجب أن تكون مغيبةٌ طيلة خمس ساعات ونصف، وهذا كاف لتمكين القوات الإسرائيلية من العبور وحسب المقتربات المخصصة لها حيث أنهم لا يحتاجون لبناء جسور أو أطواق، لأن بعض الجسور موجودة أصلاً إلا ما ينقض هذه المقولة من أساسها هو عدم مقدرة الإسرائيليين على دعم قواتهم شرقي النهر، وحاولوا جُزافاً إعادة البناء على الجسور السابقة، كما حاولوا بناء جسور حديدية بغية إدامة زخم الهجوم والمحافظة على زمام المبادأة، إلا أن القوات الأردنية ومنذ اللحظة الأولى للهجوم فوتت عليهم الفرصة وحرمتهم منها، وهذا دليل على أن القوات الإسرائيلية التي تكاملت شرق النهر كانت بحجم فرقة، وهي القوات التي عبرت من الساعة الأولى، وتم استدراجها في عمق المواقع الدفاعية، وكسر حدة هجومها وبعدها لم تتمكن القوات الإسرائيلية من زج أي قوات جديدة شرق النهر، الأمر الذي أربكها وزاد من حيرتها خاصة في ظل شراسة المواقع الدفاعية ومقاومته الشديدة التي واجهتهم، وقد استخدمت القوات المسلحة في قتالها مع القوات الإسرائيلية المهاجمة في الشونة كافة الأسلحة قصيرة المدى والسلاح الأبيض.
و) طلب وقف إطلاق النار.
لجأت إسرائيل لوقف إطلاق النار الساعة الحادية عشرة، وهذا دليل كبير على أن قوات الجيش العربي التي واجهتها في المواقع الدفاعية كانت بحجم التحدي، وكانت المعركة بالنسبة لهم معركة وجود على الصعيد العسكري، أما على الصعيد السياسي فقد أصر الأردن، وعلى لسان جلالة الملك الحسين -طيب الله ثراه- على عدم وقف إطلاق النار طالما هناك جندي إسرائيلي شرق النهر، وهذا يكفي لدرء الظلم الذي أطلقه الكثيرون على الأردن وقيادته وشعبه وجيشه وسعياً لتجيير تلك المعركة، إذ كيف يستطيع من لا يسيطر على المعركة، ويتحكم بكافة مجرياتها أن يتحكم بقرار وقف إطلاق النار الأمر الذي يثبت، وبدون أدنى شك بأن معركة الكرامة كانت معركة الجيش العربي منذ اللحظة الأولى، حيث كانت قيادته العُليا تديرها وتتابع مجرياتها لحظة بلحظة، وإن عدم قبول جلالة الملك لوقف إطلاق النار دليل على امتلاك الأمر والسيطرة على مجرياته وعند ربط هذه الفقرة مع السابقة مقولة أن الجيش العربي دخل المعركة بخمس ساعات يؤكد كذبة المقولة، وينقضها من أساسها، إذ كيف تطلب إسرائيل وقف إطلاق النار، وهي حتى ذلك الحين لم تلاق الجيش العربي الذي خططت معركتها على أساس تقييم قدراتها المقابلة لها، وكيف يمكن لبلد لم تشترك قواته حتى ذلك الوقت المزعوم في المعركة أن يطلب وقف إطلاق النار لولا أن كان في معمعتها منذ انطلاق شرارتها الأولى، ويعلم تمام العلم كيف تسير المعركة لحظة بلحظة، وكيف أن قواته تسيطر عليها بحزم، وأن قيادته العليا كانت ترى النصر المؤزر قريبا، ويحتاج إلى صبر ساعة خاصة عندما أجهضت هذه القيادة وفوتت الفرصة على العدو لرفضها بوقف إطلاق النار، حيث أنها كانت ترى بثاقب بصيرتها وحنكتها ما يخطط له الإسرائيليون في محاولة منهم لوقف القتال دون الوصول لنتائج حتمية التي يرونها رأي اليقين أن النصر في هذه المعركة قد فاتهم، وأنه أصبح دون أدنى شك بيد الجيش العربي.
وعلى المدى الأبعد فإن ثاقب بصيرة القيادة يؤكد منذ البداية أن موضوع السيادة كان محسوماً على الأرض الأردنية، إذ لا يمكن لإسرائيل أن تطلب وقف إطلاق النار إلا من جهة مقابلة ذات سيادة ولها قرار سيادي وسياسي على أرض الواقع، ما ينفي بكل تأكيد ما ذهب إليه البعض في محاولة منهم لتجيير تلك المعركة، وغمط دور الجيش العربي فيها، فقد ذكر أحد قادة العدو قائلاً (لقد أصيبت جميع دبابتي على الأرض الأردنية ما عدا اثنتين).
ز) الإنزال الإسرائيلي في بلدة الكرامة.
إن عملية الإنزال التي قامت بها القوات الإسرائيلية شرقي بلدة الكرامة كانت الغاية منها تخفيف الضغط على قواتها التي عبرت شرقي النهر، بالإضافة لتدمير بلدة الكرامة خاصةً عندما لم تتمكن من زج أية قوات جديدة عبر الجسور، نظراً لتدميرها من قبل سلاح المدفعية الملكي، ما يدل بشكل قاطع على أن الخطط الدفاعية التي خاضت قوات الجيش العربي معركتها الدفاعية من خلالها كانت مُحكمة، وساهم في نجاحها الإسناد المدفعي الكثيف والدقيق إلى جانب صمود الجنود في المواقع الدفاعية وعمقها.
نتائج المعركة
أ. كانت معركة الكرامة نقطة تحول في تاريخ الأمة العربية الحديث، وفي تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، حيث طلب العدو، ولأول مرة، وقف إطلاق النار، وامتنع العدو بعد معركة الكرامة عن خوض أية معركة بالقوات الأرضية، واقتصرت معاركه على القصف الجوي والمدفعي، واستخدام القوات المحمولة جواً وهبوطها في الأماكن النائية والمعزولة، وتدمير بعض الجسور.
ب. على الصعيد السياسي، خسرت إسرائيل خسارة كبيرة، ووصمت بالعدوان، وتحول قسم كبير من الرأي العام إلى الصالح العربي، وظهرت موجات من التذمر في أوساط إسرائيل الداخلية الرسمية والشعبية.
ج. على الصعيد الاقتصادي، قُدرت خسائر إسرائيل بالملايين، حيث استخدمت أسلحة تعادل فرقة من الدروع والمدفعية والمشاة، وعدداً هائلاً من الطلعات الجوية والتي كلفت نفقات باهظة حالت دون تحقيق أي أهداف تذكر.
د. على الصعيد النفسي فشل العدو في تحقيق هدفه بتحطيم إرادة الجيش والشعب الأردني، بل جاءت النتيجة عكسية أن ارتفعت الروح المعنوية لدى الجيش الأردني والشعب في الأردن، وفشل العدو في المحافظة على معنويات قواته التي تعودت أن ترى نفسها دائماً منتصرة، وبذلك تحطمت أسطورة الجيش الذي لا يقهر.
ه. (خسائر الطرفين)
قواتنا الباسلة:
88 شهيداً، و108 جرحى، تدمير 13 دبابة و39 آلية مختلفة.
قوات العدو:
250 قتيلاً، و450 جريحاً، تدمير 88 آلية مختلفة، شملت 47 دبابة، و18 ناقلة، و24 سيارة مسلحة، و19 سيارة شحن، وإسقاط 7 طائرات مقاتلة.