الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
اخبار اليوم - الذكر عقب الصلوات بصورة جماعية من غير تشويش مشروع في الدين، لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ المَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ) [متفق عليه].
قال شيخ الإسلام النووي رحمه الله في [شرحه على صحيح مسلم 5/ 84]: "هذا دليل لما قاله بعض السلف أنه يستحب رفع الصوت بالتكبير والذكر عقب المكتوبة، وممن استحبه من المتأخرين ابن حزم الظاهري".
ونقل شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي رحمه الله في [الفتاوى الفقهية الكبرى 1/ 158] عن المُتولِّي – من علماء الشافعية - وغيرِهِ استحباب رفع الجماعة الصوت بالذكر دائماً؛ لظاهر حديث ابن عباس السابق.
وقال رحمه الله في [الفتاوى الحديثية/ ص55]: "وأوراد الصوفية التي يقرؤونها بعد الصلوات على حسب عاداتهم في سلوكهم لها أصل أصيل. فقد روى البيهقي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأن أذكر الله تعالى مع قوم بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس أحب إلي من الدنيا وما فيها، ولأن أذكر الله تعالى مع قوم بعد صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إلي من الدنيا وما فيها).
وروى أبو داود عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة).
وروى أحمد ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده). وإذا ثبت أن لما يعتاده الصوفية من اجتماعهم على الأذكار والأوراد -بعد الصبح وغيره- أصلاً صحيحاً من السنة وهو ما ذكرناه فلا اعتراض عليهم في ذلك".
كما نقل البهوتي رحمه الله في [كشاف القناع عن متن الإقناع 2/ 388] عن بعض علماء الحنابلة استحباب الجهر بالذكر بعد الصلاة.
أما التهليل عشر مرات عقب التسليم من الصلاة، فقد ورد بعد صلاتي الصبح والمغرب، وذلك في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ قَالَ فِي دُبُرِ صَلَاةِ الفَجْرِ وَهُوَ ثَانٍ رِجْلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ يَوْمَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي حِرْزٍ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَحُرِسَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَنْبَغِ لِذَنْبٍ أَنْ يُدْرِكَهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ إِلَّا الشِّرْكَ بِاللَّهِ) [رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب]. وفي بعض الروايات ذكر (صلاة المغرب).
وقد يُشْكِلُ على بعضهم ما ذهب إليه الشافعية من أن السنة في الأذكار عقب الصلوات -سواء التهليل والتكبير والتسبيح- أن تكون على وجه الإسرار، وليس الجهر، ولا يستحب الجهر بها إلا للإمام أحيانًا؛ كي يتعلم الناس هذه الأذكار، فلا بأس في الجهر حينئذ للتعليم، فإذا حصل التعليم أسرَّ بها كما هي السنة.
جاء في [شرح المقدمة الحضرمية/ ص245] من كتب الشافعية: "يُسِرُّ كل مُصَلٍّ بالذكر والدعاء، إلا الإمام المريد تعليم الحاضرين... فيجهر؛ أي: بكل منهما إلى أن يتعلموا فيُسر، وعليه حمل الشافعي وأصحابه أحاديث الجهر".
والجواب عن هذا الإشكال أن المساجد اليوم لا تخلو عادة من مصلٍّ جديد لم يتعلم أحكام الذِّكْر المشروع بعد الصلاة؛ فلا حرج في جهر الإمام بالذكر مطلقاً –بعد كل صلاة- لتعليم الناس.
وننبه إلى أن ما يُنقل عن ابن مسعود رضي الله عنه من النهي عن رفع الصوت بالذكر لم يصح عنه، قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله في [الفتاوى الفقهية الكبرى 1/ 177]: "وأما ما نقل عن ابن مسعود أنه رأى قوماً يهللون برفع الصوت في المسجد فقال: "ما أراكم إلا مبتدعين" حتى أخرجهم من المسجد، فلم يصح عنه بل لم يرد".
والحاصل أنه لا يُنكَر على من يجهر بالذِّكر، ولا على من يُسِرُّ به؛ لأن لكلٍّ منهما دليلَه وحجَّته. والله تعالى أعلم.