أخبار اليوم - أسقطت أمريكا يوم السبت الماضي 38 ألف وجبة طعام على غزة، أي أقلّ من حمولة شاحنة طعام واحدة، في تكثيف هائل لقدرة هذه الإمبراطورية على تحويل هذا العالم إلى مسرح عبثيّ كبير.
صحيح أنّ الأردن ثم مصر والإمارات وفرنسا قد سبقت الولايات المتحدة إلى إسقاط المساعدات جوّا على الغزيين الجائعين، لكن الإمبراطورية وحدها التي جعلت الموقف مشهدا من المسرح العبثي، حتى الكيان الإسرائيلي الذي يستهدف الغزيين بالإبادة الجماعية لم يجعل الأمر بهذا القدر من العبثية وجيشه يقول إنّه أنهى عملية مشتركة مع الدول الأربع المذكورة لإنزال المساعدات على غزة، أو وهو يزعم أنّه وزّع مساعدات رمضانية على سكان مدينة حمد في غزة، ولا مصر أمكنها صبغ الحرب بالعبثية؛ والمساعدات تتكدس داخل حدودها ثمّ يشارك طيرانها في إسقاط المساعدات.. لا بدّ من إمبراطورية إذن!
التغييرات الجذرية على معنى العيش في هذا العالم تتفرّد بها الإمبراطورية، هي وحدها القادرة على تشييد مسرح بهذا الحجم الكوني فيه سماوات وطائرات ضخمة ومئات آلاف الجوعى من البشر ومئات آلاف المساكن المدمّرة؛ بحيث تتعانق فيه آلاف القذائف مع آلاف الوجبات الغذائية، وربما في اندفاعة عبثية أخرى تلقي الطائرات الأمريكية يوما ما الورود على الغزيين كي تصطبغ بدخان القنابل الأمريكية التي قتلت الغزيين للتوّ!
لا تستفرد الإمبراطورية بخشبة المسرح، ولكنها تنفرد في منح المسرح حقيقته العبثية، وكأيّ عمل درامي لا بدّ من كومبارس. في بعض الأحوال، وربما في كلّها، الجمهور جزء أصيل من الكومبارس. بهذا الاعتبار تتضح ملامح الصورة العبثية الأولى، حينما تملك الإمبراطورية القدرة على تحويل سماوات العالم وأراضيه إلى "كادر" سينمائي لطائراتها، ولكنها أعجز من أن تُدخل مساعداتها برّا إلى غزّة، أو تصغر إلى درجة أيّ دولة من توابعها تشاركها العجز نفسه وتتفوق عليها في حجم المساعدات!
لكن هذه الصورة وحدها تبقى مُضلّلة، لأنّ القضية ليست عجزا بقدر ما هي تطابق مع الإرادة الإسرائيلية، هنا تصبح المساعدات الأمريكية كتلك الإسرائيلية المزعومة، والفرق فقط في كون "إسرائيل" هي آلة القتل المباشرة، لكن كان لا بدّ من ثقل الإمبراطورية ليتحوّل الموقف إلى حالة عالمية من العبث السادي!
لا يحتاج المرء في هذه الحالة إلى البحث عن نوع المساعدات العسكرية الأمريكية وحجمها لـ"إسرائيل"، لأنّ المفارقة وحدها كافية للكشف عن الحقيقة العبثية التي تقترفها أمريكا بعظام الغزيين المسحوقة بالقنابل أو جلودهم المسحوقة بالجوع، فوجبة طعام واحدة لن تكفي جائعا واحدا يحتاج للغذاء المتدفق يوميّا كأيّ إنسان في هذا العالم، ولكن قنبلة أمريكية طُنّية واحدة من تلك التي وهبتها لـ"إسرائيل" قتلت بالتأكيد مئات الفلسطينيين دفعة واحدة! ليس مهمّا إذن عدد القنابل مقابل عدد حبات الأرز في الوجبات الأمريكية الساقطة على الغزّيين!
هذه القنابل الأمريكية كلّها إذا أضيف إليها سواها من المعدات، واحتسبت إلى جانبها المليارات المقدمة لـ"إسرائيل" والتبني الكامل للدعاية الإسرائيلية، ومنع الإمبراطورية بثقلها وقف الحرب، دون الحاجة لتذكر الدعم الاستخباراتي، أو الاعتداد بما قيل عن تدخل عسكري مباشر.. ذلك كله يعني أنّ أمريكا هي التي اقترفت هذه الكارثة الإنسانية من مئات آلاف النازحين، وعشرات آلاف القتلى والجرحى، ومئات آلاف الجوعى. أمريكا هي التي حوّلت غزّة إلى صحراء محروقة صارت المساكن فيها ندوبا مسودّة بحطامها على سطحها.
أمريكا هذه التي فعلت ذلك كلّه تعجز عن فرض تدفق المساعدات برّا إلى المسرح الذي شيدته بنفسها! ثمّ يجد العالم نفسه متسائلا: لماذا تلقي الولايات المتحدة جوّا المساعدات على الذين قتلتهم وجوعتهم وشردتهم ودمّرت حياتهم؟! بدون هذه الأسئلة التي تنصرف بالناس عن الوعي بالحقيقة العبثية، لا تكتمل تلك الحقيقة، إذ لا بدّ من تحويل العالم كلّه وفي مقدّمته ضحايا أمريكا إلى جمهور (كومبارس) يطرح الأسئلة التي لا إجابة لها، أو لا أهمية أصلا لاقتراح إجابات لها.
كلّ إجابة، ومهما بدت منطقية، تُمعن في الاصطفاف العبثي في قلب الحقيقة العبثية، لأنّ وجود المنطق في قلب العبث، هو سخرية عبثية كاملة!
ساري عرابي - عربي21