سهم محمد العبادي
الإعلام الأردني منذ نشأته يعتبر في طليعة المشهد الإعلامي العربي، وكان له التأثير الكبير سواء على النطاق المحلي، أو على مستوى العالم.
منذ تأسيس أول صحيفة في الأردن "الحق يعلو" في معان عام 1920، وصدر منها ستة أعداد فقط، ومع دخول أول مطبعة عام 1923 اشتراها الملك المؤسس -رحمه الله-، وطبعت فيها أولى الصحف مثل الشرق العربي والشريعة وجزيرة العرب وغيرها، وتناوب على رئاسة تحريرها عدد من الكتاب أمثال محمد الأنسي، عبداللطيف شاكر، محمد نوري السمان، محمد الشريقي وغيرهم، ومنعت من الطبع صحيفة الأنباء التي كان يرأس تحريرها مصطفى وهبي التل عام 1928.
مرت الصحافة في الأردن بمراحل متعددة، جعلت منها أكثر وسائل الإعلام العربية تأثيرا، وساهم الصحفيون الأردنيون في تأسيس معظم وسائل الإعلام العربية، بل وحتى العالمية.
إذن لنتفق أن الإعلام الأردني له تاريخ مجيد سواء على مستوى الوسائل الإعلامية أو حتى العاملين بها.
ما بعد حقبة الستينات، تواصل تطور الإعلام الأردني، وبرز العديد من الكتاب والصحفيين الذين كان لهم إسهامات في حمل الهم المحلي والعربي، وكان لهم قبول في الشارع الأردني والعربي، ويحملون دولتهم كروافع لها، ويتبنون وجهة نظرها في الصراعات الكبرى، وإن اختلفوا محليا، فتعظيم مصلحة الدولة العليا مقدمة على كل شيء.
كنا في قريتنا لدينا عدة مصادر إعلامية، فبحكم عمل أستاذي وعمي الصحفي حامد العبادي في الصحافة والإعلام منذ بداية السبعينيات، نحصل على صحف الدستور، الرأي، صوت الشعب، الأردن وأخبار الأسبوع، وكانت الصحيفة تجوب القرية كاملة، أثرت في شخصيتنا، وفي عملية الإثراء المعرفي، فكنا نعلم رجالات الصحافة، وكيف يحملون هموم الوطن والمواطن ما بين مفردات كتاباتهم، يشار لهم بالبنان أنهم رجال الدولة، نعم رجال الدولة وليس متنفعين أو متكسبين؛ مما "يصفطونه" من حروف تباع وتشترى، وتتحول الكتابة إلى "فاتورة" موجبة الدفع من قبل الجهة أو الفرد الذي دُوفِع عنه.
أنا من الجيل الذي عايش الكثير منهم، قرأت لهم، وتمنيت لو أكون يوما ما كأحدهم، حاملا للهم الوطني وهم الأمة وشعوبها، أذكر على سبيل المثال قامات كبيرة تعي الدولة أنهم رجالها ورجال هذا الوطن لم يكونوا يوما إلا للوطن والأمة، عاشوا كراما ورحلوا عظاما، ومنهم مازال منارة لنا حتى اليوم بيننا. إبراهيم سكجها، جمعة حماد، محمود الشريف، كامل الشريف، ملحم التل، حسن التل، عرفات حجازي، فخري أباظة، محمود الكايد. راكان المجالي، عبدالحفيظ محمد، طارق مصاروة، جورج حداد، نزار الرافعي، محمد الخطيب، نصوح المجالي، خالد محادين، طاهر العدوان، سليمان خيرالله، عاكف حجازي، عبدالحليم عربيات، فهد الفانك وغيرهم من أعلام وطني وإعلامه.
أذكر على سبيل المثال كيف كانت تفتح أبواب الدولة والحكومة للصحفيين بحكم أنهم شركاء في حمل الهم الوطني وقدرتهم بالتأثير في الرأي العام، لكنهم كانوا يكتبون ما هم مقتنعون به، وليس ما تم "تزريقه" لهم، وكان لهم المكانة والاحترام، وإن اختلفت الحكومة معهم.
لكن بالمقابل لم يسمح يوما بالتطاول على مواقف الدولة والاعتداء على مصالحها العليا، على سبيل المثال في حكومة الشهيد وصفي التل اُسْتُدْعِي كاتبين يتبنيان وجهة نظر دولتين غربية وعربية، وكان لهم دور في التشكيك بمواقف الدولة الأردنية، فأحضرهما وصفي إلى مكتبه، وقال لهم بحسب شاهد العيان (ما زال على قيد الحياة) من يريد أن يكتب عن تلك الدولة ويتبنى وجهة نظرها العدائية للأردن، فليذهب ويكتب من على أرضها، أما أن تكون في الأردن، وتسيء إليه فهذا لا أسمح به، وكان بيد وصفي قلم رصاص، فكسره وقال بأعلى صوت إما أن تكونوا للأردن. وأما "أقلع عيونكم" إذا أسأتم إليه، وغادر الكاتبان الرئاسة، ولم تكتب أقلامهما الإساءة بعدها.
كل ما سبق قيل عندما كانت الدولة تتبنى صحافتها وكتابها ممن قيل فيهم رجال الدولة، وليس أصحاب "دكاكين" أو باعة المكياج وفنون الطهي والنكات و "الميني جوب" و "أهل التفاهة ممن دخلوا على الإعلام بحصان طروادة".
في وقت تبنت فيه دول أخرى إعلامها وصحافتها جعلت منها دولا عظمى، وصاحبة كلمة وموقف في المنطقة والعالم، والمطلع اليوم يجد أن الكلمة في الأردن قُتِلَت والأقلام موءودة، ليصبح عدد المتابعين و"الفانز" هو من يحدد القيمة، مهما كان المحتوى هابطا وسلبيا، فالمهم عدد المتابعين، وأخشى ما أخشى أن يُسْتَعَان بصفحات ال (.....) لإيصال الرسائل التي بكل تأكيد لن تصل.
وبهذا الحال سنقف يوما ما على ناصية الوطن ونترحم على إعلامه، ونرثيه كما أرثيه الآن.
عظم الله أجركم