كتبها: عبدالله محمد الغويري
أخبار اليوم - نتحدث اليوم عن سيرة معلم ومرب فاضل، كان له أثر عظيم على المئات من الطلبة في قضاء بيرين، وصاحب فضل كبير في اجتياز العديد منهم للثانوية العامة (التوجيهي)، إنه الأستاذ علي محمد عيسى عِرمان الخلايلة (أبو منير) - رحمه الله، صاحب الابتسامة.. والخُلُق.. ودماثة الطبع.. رفيق صلاة الفجر في المسجد.. واصِل الرحم.. وبار الوالدين.
الأستاذ (علي الخلايلة) من مواليد عام ١٩٦٢م، أنهى تعليمه الجامعي عام ١٩٨٦م، وحصل على بكالوريوس في الرياضيات من الجامعة الأردنية، كما أنه التحق بخدمة العَلم الإلزامية لمدة عامين، إلى أنْ تُعُيِّن في وزارة التربية والتعليم - حيث عمل مدرساً في محافظة الطفيلة لفترة بسيطة من الزمن، ثم تنقَّل بين مدارس مناطق (بيرين، صروت، الكمشة) - التابعة لمحافظة الزرقاء.
كنتُ في العام الدراسي ١٩٩٦/١٩٩٥م - في الصف الرابع - في مدرسة بيرين الثانوية للبنين، وكان الأستاذ (علي الخلايلة) هو مُعلمنا لمادة الرياضيات، أتذكر جيداً كم كان كثير الشرح.. غزيراً في طرح الأمثلة.. حتى إنه كان يُبدل اصبع طبشور واحد على الأقل في الحصة الواحدة، في تلك المرحلة بالذات تعلمنا منه أشياء كثيرة في مادة الرياضيات - ولكنَّ أهم تلك الأشياء هي (القِسمة الطويلة) التي استمرت تُعرض على السبورة لِعشرات الحصص.
كان الأستاذ (علي) حازماً مع الطلبة، وشديداً في ضبطهم في أثناء الحصص، ولا يُلام في ذلك - لأنَّ هذا الأسلوب هو ما تقتضيهِ طريقة تدريس الرياضيات - والتي يكون معظمها كِتابة على السبورة أو حل للتمارين والأمثلة، مكثَ الأستاذ (علي الخلايلة) في مدرسة بيرين الثانوية للبنين فترة من الزمن، ثم انتقل بعدها إلى (دولة البحرين)، ثم رجع إلى الأردن عام ٢٠٠٦م - وعاد إلى منزلهِ في بلدة بيرين - قرية صابر - حي العَرامين - واستكمل بعدها التدريس الحكومي مجددا في مدارس قضاء بيرين.
بالتزامنِ مع دوامة في المدارس، عمل (أبو منير) فترة طويلة في (التدريس الخصوصي) لمادة الرياضيات، حيث تشرفت به الكثير من المنازل في قضاء بيرين - والتي كان يزورها لتدريس أبنائها، بالإضافة إلى الذين كانوا يأتونه إلى منزله، وكان ذلك (التدريس الخصوصي) يُشكل ضغطاً كبيراً على كاهلهِ - بل ويحول بينه وبين وقت راحتهِ أو وقت عائلتهِ - ولكن كان ذلك أحد أساليب الكِفاح والصبر لسد حاجات الأسرة ومتطلبات الحياة.
تقاعد الأستاذ علي الخلايلة في عام ٢٠١٩م، وكان في تلك الفترة مصاباً ببعض أوجاع الديسك والضغط، بالإضافة إلى (الربو المزمن) من تأثير الطبشور والغبار. تميز الأستاذ (علي) بخصال حميدة: كالتواضع.. وحب الخير.. وحُسن التعامل.. والمواظبة على الصلاة.. وتحمّل من يتأخر عن دفع رسوم تدريس الخصوصي، ويراعي الظروف المادية للكثير منهم، وأحياناً يسامحهم بجزء كبير من المبلغ.
ومن بين تلك الخِصال أنهُ كان باراً بوالديهِ - بل إنه كان يترك المدرسة وقت (الفُرصة) ليشتري الخبر الساخن لوالدهِ يومياً.. حتى نال شرف تقبيل قدم والدهِ لحظة وفاته. وكان مُحبَّاً للخيرِ والإصلاح بين الناس.. ويبذلُ جُهداً في حل الخلافات بين الأزواج أو الأشخاص المتخاصمين، جميع كل تلك الخِصال الحميدة يشهد بها الذين عرفوهُ وعاشوا معه كعائلتهِ وأقاربهِ وزملائهِ في العمل.
أُصيب الأستاذ (علي الخلايلة) بفيروس كورونا.. ومكث حوالي عشرة أيام في المستشفى، ومن شدة حرصهِ على الصلاة أنه طلبَ من ولدهِ (منير) حجراً يحتفظُ به في المستشفى من أجل التيمم والمَسح عليها لكل صلاة، وكما روى بعض المرضى والعاملين في المستشفى أنه كان يردد الأذكار والشهادتين باستمرار - إلى أنْ انتقل إلى جوار ربه بتاريخ ٢٠٢١/٣/٢٩م - وكما أوصى بدفنه سريعاً باليوم نفسه - دُفِن بعد صلاة المغرب - في مقبرة قرية أم رمانة - حيث كانت الفترة الزمنية بين موتهِ وتغسيلهِ، وتكفينهِ ودفنهِ (ساعة و٣٥ دقيقة تماماً - كما روى بذلك ابنه منير).
في المقبرة كانت العتمة متراكمة من ظُلمة الليل وسواد الغيوم الملبدة في السماء ليصبح المشهد ملطخاً باللون الكحلي الغامق، تهافت على المقبرة الكثير من الناس، بالرغم من انتشار فيروس كورونا وقتئذ وبالرغم من احترازات التباعد بين الناس، كانت الدعوات من الذين حضروا الجنازة صاعدة بإصرار نحو السماء، بالرغم من الكمامات التي يرتديها الجميع، وكان صوت البكاء يرتفع وينخفض من الملاصقين للقبر وقت الدفن بنبرة خانقة ومتقطعة.
لم يكن الأستاذ (علي الخلايلة) يعلم أنَّ الموت لا يقبل القسمة على اثنين.. ولم يكن يعرف أنَّ المالانهاية ستصبح نهاية عند عتبة الموت.. لم يكن يعرف أنَّ ظل الفراق أكبر من ظل جيب تمام الزاوية.. وأنَّ اتساع فوهة الموت أوسع من فتحة الفرجار.. وأنَّ للموت زوايا لا تشملها المِنْقلة.. وله أضلاع متوازية ومتوارية أكثر من متوازي المستطيلات.. وأنّ الموت حاد وقائم ومنفرج أكثر من زوايا المثلث.. وأنَّ قُطره فظيع وموحش أكثر من قُطر أي دائرة.. لم يكن يعرف أنَّ النَّهايات والاتصال والتفاضل والتكامل والقطوع المخروطية والاحتِمالات (والقِسمة الطويلة) - كلها صارت بلا خانات.. وبلا منازل أمام هيبة الموت.
رحمك الله يا أبا منير، وجعل الله لك كل ما قدمت في ميزان حسناتك، كنتَ بالفعل الأستاذ القدير.. والحكيم.. والحنون.. والمربي.. والقدوة، ولو أردنا أنْ نكتب عنك كل شيء لصرنا بحاجة إلى عشرات المقالات والحَلَقات.. ستبقى في ذاكرة كل من درستهم وصار منهم الطبيب والمهندس والجُندي والمعلم والمُمرض وصاحب الحِرفة والمِهنة والأب والأم.
[بالنهاية أتقدمُ بجزيل الشكر والعِرفان إلى كل من ساهم في إيصال أي معلومة أو قصة أو موقف عن الأستاذ علي.. وأخص بالذكر ابنه المهندس منير.