نورالدين نديم
مجاراة التطوّر في أنماط التعليم بما يحقق الأهداف المرجوّة بأسهل وأسرع الطرق دون الإخلال بجودة التعليم، أصبح مطلباً مُلحّاً في ظل حالة الانفجار التكنلوجي المتضاخم، دون إغفال أهمية ملازمة أي نمط بتحقيق أكبر قدر من التفاعلية والتشاركية الضامنة لتناقل المعرفة وتبادل التجارب.
ومن هذه الأنماط التعليميّة ما عرف بالتعلم التشاركي عن بعد، وهو أسلوب تعلم أكثر مرونة، لا يكتفي بجمع الطلبة من ذات البيئة الاجتماعية والثقافية في غرفة صفيّة مغلقة ومحدودة المساحة، بل ينقلهم بذات الوقت إلى الفضاء الإلكتروني الذي يجمعهم مع طلبة آخرين من أماكن مختلفة وبيئات إجتماعية وثقافية متنوعة، في غرفة صفيّة افتراضية تمثل بيئة تعليميّة ديناميكية إجتماعية تدمج معارفهم وتيسر تبادل الثقافات بينهم، في حصّة تفاعليّة، ترتبط إيجاباً بغيرها من الغرف ذات المواضيع المختلفة.
كلنا يعلم ما فرضته علينا أزمة "كورونا" مما اصطلح عليه بالتعلم عن بعد من خلال منصّات إلكترونيّة، لم تحقق المطلوب منها، وإلا لما كنّا اليوم نناقش مشكلة "الفاقد التعليمي"، وفي ذلك الوقت ظنّ المعظم أن التعليم عن بعد حالة مستجدة، غير مجدية، ولولا ظرف الجائحة وضرورة الحجر والتباعد لما لجأنا إليها.
بينما على أرض الواقع كانت بعض الجامعات الأمريكية والأوروبيّة تمارس التعليم عن بعد قبل الجائحة بما يقارب الأربعين عاماً، فالأمر ليس مستجدّاً، وإنما سبقنا به الآخرون لاستشعارهم بأهميته، في توسيع قاعدة التعليم وتناقل المعرفة وتجاوز قيود الحدود وصعوبة التنقل، وأعباء الالتزامات الحياتية.
ورغم معرفتنا بهذه التقنية، إلا أننا لم نكن مستعدين لاستخدامها، خاصّة بعد إغراق أنفسنا في بحر الاهتمام بضبط النفقات والتوفير، من خلال تقليل أعداد العاملين في الميدان وزيادة الأعباء عليهم، ودمج المدارس وزيادة أعداد الطلاب داخل الغرف الصفية، مما أدى إلى مواجهتنا للكثير من المصاعب في عملية التعليم عن بعد، التي فوجئنا بحاجتنا لها، لا لأنها تحقق الأهداف التعليمية بيسر وسهولة وبطريقة ماتعة للطالب، وإنما لأنها ضرورة فرضتها الظروف الطارئة.
وللأسف فقد كشفت الجائحة عدم جاهزيتنا للتعامل مع هذا النمط من التعليم، لا في الكوادر البشرية، ولا في المحتوى والأدوات التقنية المتاحة.
ولست هنا بصدد تقييم تجربتنا في التعلم عن بعد وقت الجائحة، ولا إظهار عيوبها، وإنما أريد أن أقرع الجرس لحاجتنا في المرحلة القادمة إلى دمج عملية التعلم الوجاهي داخل أسوار المدرسة بالتعلم التشاركي عن بعد، وليس التعلم عن بعد بصورته النمطية التقليدية التي شاهدناه في فترة الجائحة، ولم تحقق أهدافها، لخلوّها من التفاعل والتشارك والمرونة والديناميكية الاجتماعية.
فالتعلم التشاركي لا يكتفي بشرح مصور للدرس، ولا بمرفقات من الأنشطة والواجبات، ولا إرسال واستقبل الواجبات عبر البريد الإلكتروني.
بل يتعدّى ذلك إلى دمج المعرفة بين المعلم والمتعلم، والمتعلم مع زميله المتعلم، بتفاعل وتشارك وسط ارتباطات إيجابية بين الغرف الصفيّة الموضوعية الافتراضية، من خلال التعلم عن بعد.
فالتعلم عن بعد الذي مارسناه خلال وقت الجائحة، ولا زالت تمارسه بعض المؤسسات التعليمية، يفتقر إلى الفاعلية والتشاركية التي تسمح للطالب بإنشاء روابط وعلاقات تعاونية مع زملائه تمكنه من بناء تعلم ومعرفة تشاركي يحظى فيه بفرصة النقاش والحوار، ويمارس مع مجموعات التعلم عملية البحث والابتكار، من خلال التجربة وتناقل الخبرات وتبادل المعارف.
الطالب اليوم متقدم على مؤسسته التعليمية، ويجد فيها حجراً على إبداعه، بل يجد في نمط التعلم الذي يمارس داخل الغرفة الصفية بأنه مملاً ولا يلبي إحتياجاته وتطلعاته.
في الوقت الذي أثبتت فيه إحدى الإحصائيات التي صدرت عام ٢٠٢٠م، أن قيمة سوق التعلم عبر الأجهزة المحمولة قد بلغت 37.6 مليار دولار وأن حجم استخدام الهواتف النقالة لدى الطلاب في اتساع، نجد أننا لازلنا نراوح مكاننا في زيادة مقررات المنهاج، وحذف وحدة مكتوبة في مقرر وإضافتها إلى مقرر آخر، وسط جدلية لا تفضي إلى فائدة تمكن الطالب من التعامل مع أحداث الحياة اليومية المعاشة.
إن تجربتنا خلال جائحة كورونا علمتنا الكثير، ورغم الأرقام المذهلة لحالات الدخول إلى منصة "مدرستي" التي أشرفت عليها وزارة التربية والتعليم، إلا أن هذا لا يعكس حجم التفاعل المعرفي المهاري و المسلكي الاجتماعي عند الطلبة.
وعليه فإننا مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى أن نولي موضوع التعلم التشاركي الإلكتروني أهمية وأولوية قصوى، لما له أثر كبير في إيجاد بيئة تعليمية ماتعة للطلبة، وحتى نلحق بركب التطور في تناقل المعرفة وتبادل الخبرات والتجارب قبل فوات الأوان.