سهم محمد العبادي
يقال سابقا «الطولة كشافة» أي كلما طال الأمر اتضحت أركانه وأدق تفاصيله وأخبث ما فيه.
والحرب على غزة كانت كاشفة للمواقف كلها، وأردنيا كشفت الحرب الكثير من الأمور التي لا بد من الوقوف عندها.
منذ اليوم الأول للحرب تناسى الغالبية مواقف الأردن تجاه فلسطين، وتناسوا دماء الشهداء والمصابين والمقاتلين والأسرى الأردنيين في حروبنا مع العدو، في وقت اختفت فيه الأمة العربية والإسلامية باستثناء مصر وسوريا والعراق ولبنان، ومن لديه غير ذلك، فليفصح عن تاريخه.
مواقف الأردن التي يجسدها الملك في كافة المحافل الدولية منذ تسلمه أمانة المسؤولية لسلطاته الدستورية، وهو يحمل ملف فلسطين وأهلها ومقدساتها في حله وترحاله مدافعا ومحاربا لهم وعنهم، وحذر مما وصلت إليه المنطقة آلاف المرات.
ومنذ بدء العدوان على غزة كان الأردن العظيم بقيادته وشعبه ومؤسساته رأس الرمح العربي المدافع عن فلسطين، فالجولات الملكية بين عواصم العالم استطاعت تغيير وجهات نظر الغرب عما حدث في غزة، وأروقة الأمم المتحدة وعواصم العالم تشهد للحراك الأردني الذي قاده وزير خارجيتنا.
شعبيا كان التلاحم في أروع صوره ولم ولن يتخلى الشعب عن عقيدتهم في الدفاع عن فلسطين، وجاءت أشكال الدعم المعنوي والمالي والإغاثي من الشعب، وأذكر هنا ابن عشيرة الخريسات في السلط الذي تبرع بكافة نفقات زفافه لصالح الأهل في غزة، وأبناء حي الطفايلة وتبرعاتهم الإغاثية والطبية، وأبناء عيرا ويرقا الذين أوصلوا تبرعاتهم إلى غزة وإطعام الأشقاء هناك، وهذا حال الأردنيين جميعهم، من باب الواجب ونخوة الأخ لأخيه.
إعلاميا أصبح الإعلام الأردني إعلاما بديلا للإعلام الفلسطيني، ولم يتوقف منذ اليوم الأول في نقل مجريات الأحداث وبمختلف اللغات إلى العالم كله، في وقت لم تعد تذكر غزة في إعلام باقي العرب والدول الإسلامية.
أما النقابات والقطاعات الاقتصادية فكانت وما زالت في الميدان تقدم الإمكانيات كلها، ولم يجارهم نظراؤهم في مختلف الدول.
بعد ذلك كله يخرج علينا من يطعن في مواقفنا ويشكك بها، والقضية ليست حديثاً على مواقع التواصل الاجتماعي، بل عمل ممنهج ضمن سياسات دول من خلال المليشيات التابعة لها أو الحليفة لهذا العمل المليشياوي، وكذلك إعلام هذه الدول الرسمي والخاص، الذي لم يقتصر عمله على فبركة الأخبار، بل إنتاج مواد فيلمية وتركيب الصور ومقاطع الفيديو، وكلها موجهة للأردن والتشكيك بموقفه.
فمن قصة خروج طائرات للكيان من عمان وتزويد العدو بالسلاح، إلى قضية الممرات البرية والخضار والفواكه، حتى وصل الأمر إلى التشكيك بالانزالات والمستشفيات الميدانية والمساعدات، وكل شيء أردني حتى صلاة الغائب.
هذا الهجوم لم ولن يتوقف، ولكن لماذا نخجل من الرد على هؤلاء؟ ومنهم من يعيش على أرض الأردن، فالبعض حتى اللحظة غير مقتنع بأن الأردن دولة مستقلة وذات سيادة، لها تاريخ منذ آلاف السنين، مر بها حضارات، وتضم آلاف الشهداء من الصحابة والتابعين وأبناء الوطن الأبرار، ويعتبرون الأردن بأنه خلق لقضايا الأمة، وأن ليس لديه قضية أو مشروع أردني، وهم أول الطاعنين بمواقف الدولة، ويتحالفون مع الخارج، وهنا لا أرى إلا أنهم يعتبرون الأردن «شقة مفروشة».
لقد نشأ هذا الوطن عروبيا وإسلاميا، نصيرا لقضايا الأمة، دفع الرجال والمال في سبيلها، وحوربنا لأجلها، فقضايا الأمة عقيدة في وجداننا، ولكن ألا يستحق وطننا أن نكون له ونعمل لأجله؟
حتى أمس أصيب أحد جنودنا خلال اشتباك مع إرهابيين ومهربين، وهي اشتباكات دائمة، أفلا يمثل هذا الأمر قضية أردنية مركزية؟ أم أن أمن الأردن أقل درجة عن غيره؟
لم يبق على الحكومة الأردنية في الرد على الاتهامات والتشكيك بمواقف الأردن إلا أن يظهر معالي وزير الأوقاف على شاشة التلفزيون الأردني ويقسم على كتاب الله نافيا الاتهامات، أو أن يذهب وزير الاتصال الحكومي إلى «البشعة»، فأين نحن من الدفاع عن وطننا ودولتنا ومواقفنا؟ وكيف نسمح بالتطاول على الأردن ومواقفه ونصمت؟ ولماذا يقزم بعض أصحاب الأقلام مواقف الدول مع الأردن إلى مواقف شخصية تجمعه مع أفراد في هذا القطر أو ذاك.
لقد أثبت الآباء والأجداد حضورهم في قضايا الوطن والأمة، ولم يسبقهم أحد، لكنهم بالوقت نفسه لم يسمحوا لأحد أن يتطاول على الأردن، واستذكر هنا موقف الشهيد وصفي التل مع الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم حينما شتم الأخير الأمة العربية بأوطانها وقادتها، فصمت الجميع وضرب وصفي التل الطاولة بيده، ورد على عبدالكريم قاسم، ولم يسمح له بتوجيه الإساءة للأردن، وغادر بغداد بعدها بلا عودة.
فالأردن العظيم ليس مساحة أرض نعيش عليها، بل هو كل شيء نعيش له ولأجله ومن أحبه نحبه، ومن يكرهه ليس له ود لدينا، ومواقفنا مشرفة وعظيمة، ولن نسمح لأحد بالإساءة إلينا مهما بلغ الثمن والمواقف، فعندما يتعلق الأمر بالأردن فلا مجاملة ولا حياد.
حفظ الله الأردن العظيم وأهله وقيادته وجيشه.