علينا أن نتحدث بصراحة هنا، لأن الأزمات تحيط بنا من كل الجهات، في فلسطين، والعراق، وسورية، ولبنان، وهذا يعني أن السوار العربي التاريخي الذي يحيط بنا تحت الخطر والنار.
هذا الظرف لا يستجلب مواعظ وارشادات نوزعها على رؤوس الناس، ومن واجب الأردنيين الوقوف إلى جانب فلسطين بكل الوسائل، فهي قضيتهم، لكن في الوقت ذاته هناك ملاحظات ليست عابرة بشأن الوضع الداخلي في الأردن يتوجب الوقوف عندها، بشكل عميق ومؤثر.
بيننا من يعتقد أن معاقبة الأردن، وحرقه، أو مد النيران إليه يعد فعلا وطنيا، وهذا أمر يتسم بالخفة السياسية، لأننا نرى أن كل دول المنطقة تحترق، وليس من المصلحة، ولا من الفهم العميق، ولا الانتماء الاعتقاد أن إشعال النار في الأردن بأي وسيلة كانت، أمرا وطنيا، وتقرأ تعليقات غاضبة تريد صب نار غضبها على الأردن، وكأنه من يقود الحرب ضد أهلنا في غزة، دون أن ننكر هنا أن أغلب ردود الفعل راشدة، ومحكومة لأخلاقيات الوطنية الأساسية.
لقد كنت اعتقد أن هذا "التيار الانتحاري" الذي يريد حرق كل شيء، لم يعد موجودا، لكن للأسف نراه موجودا وهو يظن أن إطلاق النار على القدم يعبر عن الغضب الوطني، وهناك تصرفات وتصريحات وأقوال كثيرة تؤشر إلى عدم الإدراك، خصوصا، ان القاعدة الأساسية هنا أن الأردن المتماسك والقوي، مفيد لفلسطين وأهل فلسطين أضعاف ما يمكن أن نراه إذا تم ايذاء الأردن، أو نقل المواجهة مع المؤسسات، تحت عناوين مختلفة، لا تدرك الكلفة النهائية لكل هذه الرعونة، ولا تعرف أن الوطنية لا تتجزأ أصلا، وأن جوهرها يعني صون الأردن وأهله وحياته وعدم تعريضه لأي خلخلة في المنطقة، في ظرف يتسم أصلا بالهشاشة البنيوية.
تأتي هذه الأجواء والمطالبات والإشارات، في ظل ما هو أخطر، أي التراجعات الاقتصادية، وتضرر أغلب القطاعات، والأخطار على تحصيلات الخزينة، من الضرائب، وانجماد مشاريع الأفراد بسبب التحوط من المستقبل، والمؤشرات المؤكدة على أن العام المقبل 2024 سيكون أصعب بكل المقاييس من عام 2023 خصوصا على الصعيد الاقتصادي، والمخاوف بشأن شراء الغاز وكلفته على الخزينة وملف الديون والفوائد، إضافة إلى سيناريو التهجير الذي تعتقد إسرائيل أن بإمكانها أن تفرضه على مصر أو الأردن، بما يعنيه ذلك من حسابات سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية، والمخاوف من توسع الحرب، والتورط في حرب إقليمية تأكل الأخضر واليابس، إضافة إلى حالة الانجماد النفسي، والكآبة، وتراجع معنويات الناس، وعدم قدرة الغالبية على ممارسة حياتها بشكل طبيعي، بل وتوقف كثير من العمليات التجارية، أو تراجعها وتعطل عمليات تحصيل الديون حتى على مستوى الأفراد، وبعض الجهات، في ظل مناخ معنوي غير قادر على توقع أحداث الغد، ولا توقع ماذا سيحدث في كل المنطقة، ووسط كل هذه المناخات يخرج عليك من يريد نقل المعركة هنا، أو مد النار إلى الداخل الأردني بوسائل كثيرة، وكأنه لا يكفي الأردن ما يمر فيه هذه الأيام من ظروف على مستويات يلمسها الجميع، وهي مستويات تتعمق، ولا يبدو أن أحدا لديه القدرة على الخروج منها حتى الآن.
لا نستثمر هذا الظرف لتسكين الداخل الأردني، وإثارة مخاوفه، بل لأن الظرف بطبيعته حساس جدا، ولا يحتمل ضربا على أعصاب البلد من الداخل تحت عناوين مختلفة، ولعل الأردن الذي يطالب ليل نهار بوقف الحرب، يدرك حجم المذبحة الإجرامية، ويستبصر أيضا كلفتها على كل فلسطين، وعلى الأردن أيضا، وهي ارتدادات لا نراها على أغلب الشعوب العربية والإسلامية بل تتكثف هنا، لاعتبارات مختلفة، بما يدعونا أن نعود ونكرر اننا نعبر ظرفا صعبا على صعيد المؤسسات والأفراد، وهذا يفرض التنبه جيدا لكل شيء، وأن تكون معركتنا الأساسية الوقوف إلى جانب فلسطين، مثلما هي معركتنا الإستراتيجية أن يبقى الأردن قويا وسط هذا الإقليم.
الذين يحبون فلسطين حقا، بالضرورة يحبون الأردن ويخشون عليه.