ينشغل الرأي العام بشكل ملفت بقرار الحكومة تخفيض عدد المقبولين في كلية الطب، هذا القرار أصاب الأهالي والطلاب بخيبة أمل كبيرة رافقها عدم يقين كبير، ورغم كل التأكيدات الحكومية بأن هذه التخصصات قد أُشبعت تماماً إلا أن ذوي الطلاب على قناعة تامة بأن الضمانة الوحيدة لمستقبل أبنائهم هي دراسة هذا التخصص حتى وإن كان مُشبعاً كما تقول الحكومة، أما الطلاب فلديهم قناعة راسخة بأن ساعات عنائهم الطويلة وجهدهم الهائل الذي مكنهم من الحصول على أعلى العلامات يستحق التتويج بتخصص ملائم لهم، وأن خيارهم هذا سيبقى خيارهم وإن كلفهم الذهاب إلى دول غير الأردن لتحقيقه، كل ذلك عزز القناعة لديهم بأن حالة الإرباك والتخبط والخطأ في بعض الأسئلة لم تكن سوى خطة مُعدة لإنقاص معدلاتهم.
يعلم أغلب الأردنيين أن سوق العمل الأردني صغير ولا يمكن أن يستوعب سوى عدد قليل من الخريجين، لذلك فإن قناعاتهم راسخة بأن الأردن يُعد خريجيه لأسواق المنطقة العربية، وهذا ما أكدته التجربة السابقة، فالأطباء الأردنيون موزعون بشكل كبير على دول المنطقة والعالم وهم يرفدون خزينة الدولة بمبالغ كبيرة من العملة الصعبة، لذلك فإن المواطن استسلم لكون الحكومة غير قادرة على اجتراح حلول لمشكلة البطالة وهي التي فشلت في اجتذاب رؤوس الأموال العربية والأجنبية كي تستثمر الفرصة الأردنية فقد كان الأردن ذات يوم مرشحاً لأن يكون مستشفى المنطقة العربية بمجملها، لكن قراراً حكومياً واحداً غيّر الوجهة إلى دول عديدة عندما قرر صنّاع السياسة في حينها أن الأمن أهم بكثير من الاقتصاد ولم نتدارك الأمر إلا بعد أن فاتنا قطار السياحة العلاجية إلى دول أخرى اكتشفت مبكراً أن الاقتصاد هو الضمانة الأهم للأمن.
أنا لا أحاجج في صحة القرار الحكومي من عدمه فهوى بدون شك غير مقبول من طرف الأهل والطلاب، لكن السؤال هل هذا القرار يرضي الجامعات وكليات الطب والتي أُنشئ بعضها حديثاً؟ وهي التي ابتعثت أعدادا مهمة من كوادرها استعداداً للعام الدراسي، ما هو موقفهم بعد أن فوجئوا بهذا التقليص الكبير لأعداد الطلبة؟ مما قد يكون سبباً في فشل مخططاتهم المستقبلية، بالذات مع غياب خطة حكومية لتعويض الجامعات عن هذه الخسارة الكبيرة بأعداد الطلبة، رغم أن غاية القرار هي تجويد أداء الكليات الطبية، وربما تقليص عدد الطلاب يصب في مصلحة هذه الغاية ولكن طريقة التخفيض الصادمة أربكت الجامعات بشكل هائل، ولا أحد يعلم لماذا تم تجاهل خطة وزارة التربية والتعليم الممتازة لتقليل عدد الطلبة بشكل متدرج، بواسطة فرز الطلبة قبل المرحلة الثانوية حسب معدلهم ومهاراتهم مما سيخفض بالضرورة أعداد الطلبة المندفعين نحو كليات الطب، لكن لا يدري أحد لماذا قررت الحكومة فجأةً التوجه للعلاج بالكي.
لا شك أن تكلفة هذا القرار لن تقتصر على الطلاب والأهالي والجامعات بل يتعداها إلى الأثر الاقتصادي مباشرة، فهؤلاء الطلاب الذين حرموا من دراسة الطب سيبحثون عن حلمهم في الخارج بأعداد كبيرة مما سيثقل كاهل الاقتصاد الوطني بمدفوعات إضافية من الدولارات والعملة الصعبة، وهذا عكس الرغبة الحكومية بتخفيض هذه المبالغ إلى 100 مليون دينار، فمع هذا القرار ربما يرتفع الرقم إلى مائة أخرى، رغم أنه ليس هناك متسع من الوقت كي يضع القرار الحكومة في مأزق وعودها بإيجاد عمل للتخصصات المستحدثة التي وعدت بها، فهي حينها ستكون طي النسيان كما غيرها من الحكومات، لا شك أن طريقة الحكومة في علاج أزمة اكتظاظ كليات الطب كانت صادمة وتركت غصة وحسرة في نفوس الطلبة وأهاليهم وربما الجامعات ولا شك أنها ستترك أثراً بالغاً على الاقتصاد الوطني في دولة تعتمد على تصدير الكفاءات للخارج واستيراد الدولار بالاستدانة وليس لديها مشاريع إستراتيجية تمكنها من فتح بوابة المستقبل بطريقة آمنة فالعلاج بالصدمة إن لم توفر له الأدوية المساندة قد يكون قاتلاً في بعض الأحيان.