الاستقواء بالتمويل والسفارات..
في العام 2017، في بدايات دورتي النقابية السابقة، طلب مسؤول في القسم السياسي بالسفارة الأميركية لقائي لمناقشة قانون الجرائم الإلكترونية، كان ردي سريعاً وحاسماً بأن رفضت استقباله وقلت: القانون شأن وطني داخلي أناقشه مع حكومة ومؤسسات بلدي وليس مع أي طرف خارجي..
هكذا، وببساطة، ودون طويل تفكير أقفلت الطريق (...).
مناسبة الحديث؛ واستحضار تلك الواقعة، وأنا اتابع اليوم النقاش الدائر حول نسخة قانون الجرائم الإلكترونية الحديثة، و"الهبة" الغربية للاعتراض عليه ونقده، ونشاط سفارات أجنبية بشأنه، وكذلك منظمات دولية، وجهات تمويلية.
ما علينا..
بدايةً، وللتذكير، نقابة الصحفيين كانت أول من اعترض على القانون، وخاضت لأجل موقفها سلسلة طويلة من اللقاءات والاتصالات، وقدمت مطالعة قانونية قوية ومطولة، وكان لذلك كله أثره في تعديل مواد جدلية أبرزها 15 و16 و17.
صحيح أن الأثر الذي تحقق جزئي، لكن سيستمر عملنا، بطرق عدة، لإخضاع القانون، مرة أخرى، للنقاش من أجل تجويد نصوصه وترشيد أحكامه، وهناك مؤشرات جدية ومهمة في هذا السياق.
فعلنا ذلك كله في سياقات وطنية خالصة دون ان نستقوي، أبداً، على بلدنا بسفارات ومنظمات تمويل لفرض وجهة نظرنا، ولن نفعل ذلك تحت أي ظرف وفي أي حال.
هذا شأن وطني، ولا يجوز لأي وطني منتمٍ معتد بوطنيته، فرداً كان أم منظمة أو مؤسسة مجتمع مدني، أن يلجأ إلى جهة خارجية أو سفارة يحرضها على بلده، ويستقوي بها لكسر هيبة دولته، ويحاول إخضاعها لإرادة خارجية.
أفهم جيداً، وأعي، ومن واقع الحال، أن بعض هذا الاستقواء هدفه حماية وتحقيق منافع مادية لفئة متكسبة لطالما تاجرت بملف الحريات بوصفه مصدر رزق لا بوصفه قضية مبدأ، خلافاً لفئة تعترض على القانون على أساس المبدأ، في سياق وطني خالص، وتتعامل معه كشأن داخلي ليس للخارج به أي صلة.
لا أريد أن أصنف الناس أو أفرزهم، لكن بمقدور كل منا أن يضع نفسه في المكان الذي يريده، وفي الطرف الذي يرغبه، وأن يختار لنفسه صنفه وصفته، ويتحمل نتيجة خياراته وانحيازاته، من دون إثارة الغبار للتعمية على الأسباب والدوافع الخفية، فنحن نرى ونسمع ونعي جيداً ولا ننخدع أو يغرر بنا.
نعم، قانون الجرائم الالكترونية يجب أن يوازن تماماً بين حماية المجتمع وحماية الحريات العامة والصحفية، وصيغته الحالية تحتاج مراجعة جدية وعميقة، وبالسرعة الكافية، لضمان توازن نصوصه وأحكامه.
يؤسس لذلك عبر نقاش وطني حقيقي تنخرط فيه، وبهدوء، كل القوى الوطنية والمؤسسات الرسمية، شرط ذلك أن يكون النقاش في الإطار الوطني الداخلي، بعيداً عن تجار الحريات ومموليهم، وعن السفارات.
أي يكون فقط من المؤمنين ببلدهم، ومن يحرصون على الاختلاف مع الرسميين إلى أقصى حدٍّ، وفي كل شأن من الشؤون العامة، لكن دون استقواء بالخارج، وأذرعه..
فالاعتراض والاختلاف في السياق الوطني الخالص مطلوب، وبشدة، وهو أساس الديمقراطية وأبرز روافعها، والمدخل لتصويب الاعتلال والاختلال في الأداء والسياسات العامة.
وهذا يتم في إطار وطني، وضمن شروطه ومعاييره الوطنية، ونتاج وعيه وثقافته وقيمه وأخلاقياته، دون أن ننسى أن المسار التاريخي لطالما كشف أن ازدواجية المعايير واختلالها وتناقضها عند الغرب مسألة واضحة غير ملتبسة.
لذلك لا يفترض أن تنطلي علينا شعارات الغرب وتنظيراته، فقد أثبت مراراً وتكراراً أن قيم الديمقراطية والحريات لديه قابلة للتجزئة، وان التغاضي أو الدفاع عنها تحكمه أهداف ودوافع سياسية مصلحية لا قيمية.
باختصار، من يمولك سيفرض عليك أجندته..