كتب عبدالله التل قائد معركة القدس
في صحيفة الاقصى عام ١٩٧٣:
معركة القدس وذكرى الخامس عشر من ايار
يعتبر الكثيرون هذه الذكرى مشؤومه، وهي في الواقع مجيدة ذلك لان الجيش العربي قد لبى فيها نداء الواجب وزحف لانقاذ شعب فلسطين ومقدسات فلسطين ضاربا عرض الحائط بمقررات الجامعه العربية، التي كان من بينها تجنب الدخول للقدس نظرا للصفه الدوليه التي اصبغت عليها، وانخدعت بها الجامعه العربيه ما ادى الى ان يحتل اليهود اكثر المناطق الاستراتيجيه خارج اسوار القدس القديمه ومنها
معسكر اللمبي ومعسكر العلمين ودير ابو طور والنبي داوود والمستشفى الايطالي والمسكوبيه والنوتردام والمسفاره وباب العامود وسعد وسعيد والشيخ جراح
ما ان غادر اخر جندي بريطاني القدس مساء 14/5/1948 حتى شرع اليهود خرقا للهدنه في احتلال ما بأيدي العرب من مناطق خصصت لهم للدفاع عنها وعن القدس القديمه ومن الخامس عشر من ايار حتى السابع عشر منه ساءت الحاله في الجانب العربي لدرجه اصبح معها جميع سكان القدس العربيه مهددين بالاباده لان اليهود اخذوا يهاجمون الابواب الرئيسيه للقدس القديمه وهي باب العمود وباب الخليل والباب الجديد وباب النبي داوود محاولين اقتحام المدينه القديمه التي احتشد فيها اكثر من 60 الف عربي وفي كل ليله من تلك الليالي الثلاث كان العرب في القدس يتوقعون دخول اليهود من احد الابواب للفتك بهم وتدمير المقدسات العالميه للمسجد الاقصى ومسجد الصخره وكنيسه القيامه بيد ان بطوله قوات الانقاذ والجيش المقدس وشرطه القدس بقياده المجاهد الكبير احمد حلمي باشا وخالد الحسيني وكامل عريقات وفاضل عبد الله قد حال دون دخول اليهود من احد الابواب وحين ساءت الحاله ونقصت الذخيره ودبت الفوضى نتيجه هجمات اليهود المتواصله هرعت الوفود العربيه من القدس الى عمان للاستنجاد بالملك عبد الله وشرحت لجلالته خطوره الحاله وفي كل مره كان جلالته يظهر اهتمامه واضطرابه ويعد بارسال النجدات
بدء الزحف على القدس وانقاذ الموقف
كان اخر الوفود التي وصلت الى عمان وفدا برئاسه الدكتور عزت الطنوس وقد مر بقيادتي في اريحا ومكث عندي حتى الساعه 2:00 من صباح 17/5 ثم اخذت بعين الاعتبار الحاله الذي صار عليه المناضلون من الجهاد المقدس وقوات الانقاذ والخطوره الدائمه على الابواب الرئيسيه ووضع الحي اليهودي داخل القدس القديمه وكونه خنجرا في قلب المدينه ثم وزعت السرايا الثلاث على المواقع المهمه التي يهددها اليهود كما يلي:
1: اتصلت بالمجاهد الكبير احمد حلمي باشا وبالرئيس فاضل عبد الله قائد قوات الانقاذ وبالقائد خالد الحسيني قائد الجهاد المقدس ثم اتفقنا على توحيد القياده وتسليمه مسؤوليه الدفاع عن القدس فنقلت قيادتي الى الروضه داخل السور ومع الملازم عبد الكريم الدباس
2: وحدت قياده السريتين الامن الاولى والسادسه وجعلت عليهما الرئيس محمود موسى معه الضباط الرئيس درخام الفالح والملازم الاول حسين مفلح والملازم فريد القطب والملازم نواف الجبر والملازم مصطفى ابراهيم والملازم حسن محمد والملازم رستم يحيى وارسلت فئتين بقياده الملازم نواف الجبر الى باب النبي داوود الذي كان يعتبر اخطر الابواب فهو الطريق الرئيسي بين القدس الجديده والحي اليهودي في القدس القديمه وابقيت السريتين في الطور
3: ارسلت السريه الثامنه بقياده الرئيس عبد الرزاق عبد الله ومعه الملازم هذلول سائر والملازم جدعان مجيد والملازم تركي العبد الله لتكون مسؤوله عن الباب الجديد وباب الخليل
4: وزعت السريه المسانده التي شكلناها بسرعه عجيبه من فئتها ثلاث بوصه وفئه مدافع عيار 6 رطل مدفعي هاوزر ٧ر٣ بوصة وفئة مدرعات في مواقع مهمه براس العامود وجبل الطور وعهدت بقيادتها للملازم الاول غالب الخيمان ومعه الملازم محمد العرموطي
5: ومنذ اليوم الاول لدخول المدينه انضوت تحت قيادتي كل من: أ. الرئيس فاضل عبد الله ومعه فوج الحسين من جيش الانقاذ وسريه الاخوان المسلمين من سوريا بقياده الشيخ مصطفى السباعي ومعه الاستاذ عمر الاميري والسيد سعيد رمضان
ب. القائد خالد الحسيني ومعه فوج من الجهاد المقدس واذكر من ضباطه كامل عريقات وبهجت ابو غريبه وحافظ بركات وقاسم الريماوي وداؤود الحسيني وفوز القطب ومحمد نمر عوده وابو خليل جنحه ومحمد النجار وصلاح الحاجمير ورؤوف الدرويش وسعيد بريكات وعبد الحليم الجولاني
ج. القائد منير ابو فاضل ومعه قوه الشرطه ومن ضباطه ابراهيم جرجوره وجميل العمل وسليمان عازر ومحمد داوود وصادق نظيف وهاشم نجم
سير المعركة
لم ياتي ظهر يوم الثلاثاء 18/5/1948 حتى كانت السريه المسانده قد استعدت للعمل من مواقعها في راس العامود وحين اعطيتها الاوامر بدات مدافع الهاون تلقي قنابلها على الحي اليهودي في فترات متقطعه للتخريب والازعاج ثم بدات المدرعات تطلق مدافعها من عيار رطلين فتصيب اهدافها المعينه ثم بدات المدرعات تطلق مدافع وتصيب اصابات مباشره اما مدافع سته ارطال والهاوزر فقد عينت لها اهداف اخرى خارج السور ومنها مراكز اليهود في النبي داوود والحي الثوري، وقد تغير موقف العرب تغييرا كليا فاصبح في تعد لليأس القاتل وكانهم في احتفال وصاروا يطربون لاصوات القنابل وازيز الرصاص الذي تنشره الرشاشات من راس العامود على الحي اليهودي ودبت فيهم الحياه من جديد وارتفعت معنوياتهم الى السماء بعد ان اطمئنوا الى ان الابواب الرئيسيه قد سدت في وجه القوات اليهوديه المستميته في محاولات مستمره لاقتحامها من اجل انقاذ يهود القدس القديمه، ولقد اتممنا تحصين الابواب ومحاصره الحي اليهودي في القدس القديمه ثم تفرغنا لمعارك الابواب وبخاصه باب النبي داوود والباب الجديد وهي اخطر المراكز لان اليهود في مواقعهم المقابله لم يكن ليفصلهم عنا اكثر من 50 متر، ولقد رد جنود الكتيبه السادسه جميع هجمات اليهود على ابواب القدس القديمه واخفقت كل محاولات اليهود لاعاده الاتصال بيهود القدس القديمه، وكانت الحرب فريده من نوعها من حيث عدتها التي تغذيها عقيدتان متباينتان اليهوديه وما جاءت به من تعاليم اجراميه تحث على القسوه والوحشيه والغدر والحقد والغرور والعنصريه والانانيه والفجوع والاسلام وما جاء به من تعاليم تحث على التسامح والانسانيه والمحبه ومكارم الاخلاق
وكان اليهود وما زالوا متمسكين بعقيدتهم وكان جنود الجيش العربي وما زالوا متمسكين بعقيدتهم مما جعل الحرب حاميه طوال ايام معركه القدس
بعد تامين ابواب القدس القديمه والانتصار في معركتها تحولنا الى الحي اليهودي ومعلوم انه منذ نشوب الاضطرابات في فلسطين منذ اواخر سنه 1947 اخذ يهود القدس القديمه يستعدون في جميع النواحي وجعلوا من كل بيت لا بل من كل نافذه استحكاما ولغموا مداخل الحي جميعا في نقاط عديده ثم حفر الخنادق والممرات التي تفتح جميع البيوت الحي على بعضها ليسهل على المحاربين التستر والانتقال من بيت لاخر دون التعرض للرصاص والقنابل وقد جعلوا دفاعهم بالعمق حتى لا يكاد مهاجم يتغلب على خط دفاعي حتى يصطدم بخط دفاع اخر وهكذا مما يزيد في صعوبه التقدم ويكثر من خسائر المهاجم
وفيما يتعلق بالمؤن فقد جمعوا منها الشيء الكثير واقتصدوا في استهلاكهم اليوم اما اوامر السلطات اليهوديه فقد كانت تقتضي ان يدافع اليهود عن الحي حتى النهايه وحرمت عليهم الاستسلام او النزوح عن الحي فكان لابد نتيجه لوضع الحي اليهودي من تدمير المنازل اليهوديه التي اتخذت ابراجا تمهيدا لتقدم المشاه في عمليات التطهير والاحتلال.
وقد عملت الى هذه بخطه لاني قدرت باني ساخسر نصف قوتي اذا اردت احتلال الحي في عمليه حربيه واحده وحين بدات عمليات التهجير المنظم دب الرعب بقلوب سكان الحي اليهودي الذي زاد عددهم على 1600 اغلبهم من الهجانه وعصابه الارجون وعصابه شتر واخذت على هدمها بعد ان رفض رفض اليهود الانصياع الى الانذار الذي وجهته اليهم بالنزوح عنها وكان الوسيط بيننا مندوب الصليب الاحمر الدكتور ليز.
كان جلاله الملك عبد الله قلقا على مصير القدس القديمه ومقدسات المسلمين والمسيحيين وكان لا ينام الليل بدليل انه كان دائما الاتصال بي في اي ساعه من نهار او ليل وفي كل مره كان يشجعني ويدعو لي بالتوفيق واذكر جيدا مساء 27/5/1948 حينما اخبرت جلالته عن نسفنا للقدس الاقداس بعد تعنت اليهود اذ قال ( اريدك يا عبد الله ان تدعوني لصلاه الجمعه غدا في القدس) ، وفهمت ما يقصده جلالته فاصدرت اوامري بتشديد الضغط على اليهود في تلك الليله وتوقعت ان الحي لابد وان يستسلم غدا الجمعه في 28/5/1948 وقد صح ما توقعته يد اني لم ادع جلالته في ذلك اليوم نفسه لاني خفت ان يمسه سوء والمعركه في شدتها.
وبعد التسليم ببضعه ايام زار جلالته القدس ورفع الراس منتصرا اما تفاصيل عمليه التسليم فيضيق المجال عن سردها ويكفي ان انوه بالشهامه والفروسيه التي ابداها جنود الكتيبه السادسه تجاه العدو المنهزم فقد حافظنا على ارواحهم واموالهم واسهم الجنود بنقل المرضى والشيوخ الى القدس الجديده بواسطه الصليب الاحمر وجمعنا اسلحة المحاربين واخذناهم اسرى وكان عددهم 340 اسيرا ولقد كان لمعاملتنا الكريمه لسكان الحي اليهودي اثر بالغ في الخليق اليهودي التوراتي التنمودي فاثرت معاملتنا بهم ولم يعودوا يفتكون بالعرب على الطريقه المجرم مناحيم بيجن قائد عصابه الارجل الذي يفتخر بانه يطبق تعاليم التوراه والتلمود وادهش مسلك جنودنا الاجانب الذين شهدوا عمليه التسليم فنوهوا بذلك في صحفهم وكتبهم حتى ان اليهود انفسهم لم ينكروا ما لمسوه من شهامه وفروسيه من قواتنا المنتصره
ملاحظات عامة عن المعركة
١. كانت تلك المعركه اهم معركه خاضتها الجيوش العربيه في حرب فلسطين لانها اتت بنصر تاريخي فقد كانت سببا في بقاء القدس القديمه وما جاورها من الاحياء في يد العرب حتى حرب حزيران 1967
٢. قتل في تلك المعركه ما يزيد عن 300 يهودي من المحاربين وبينهم 136 من عصابه الارجون وجرح 80 وجدناهم في المستشفى وكانت جراحهم نصف خطيره
٣. اخذنا من اليهود 340 اسيرا وهو العدد المماثل تقريبا لما اخذناه من مجموعه مستعمرات كفار عصيون وبهذا يكون جميع الاسرى اليهود لدى الجيش العربي وهم المجموعة الوحيده لدى الجيوش العربيه قد اخذوا في معركتين هما كفار عصيون والقدس القديمه من اليهود ولم يبقى بها يهودي
٤. طهرت القدس المقدسه من اليهود ولم يبقى بها يهودي واحد وذلك لاول مره منذ اكثر من 1000 عام
٥. رفعت تلك المعركه معنويات العرب في كافه اقطارهم واذلت اليهود وهزت كبريائهم وادخلت الرهبه والرعب فيهم لانهم توقعوا لمئه الف يهودي في القدس الجديده المصير الذي لقاه اخوانهم في القدس القديمه
ما يجب ان نذكره في هذه الذكرى
نذكر بالعز والافتخار شهدائنا الابطال الذين بذلوا ارواحهم ودمائهم في سبيل فلسطين نذكر حقيقه ثابته تؤكد تضحيات شعبنا في الاردن من اجل فلسطين منذ عهد الاماره الاول الى يومنا هذا في الوقت الذي لا يجيد فيه غيرنا الا الكلام والتطبيل والتزمير
نذكر ببطولات الجيش العربي في قطاعات اخرى غير القدس وبخاصه باب الواد الذي كان ثبات الكتيبه الرابعه هي مفتاح الانتصار في معركه القدس
نذكر بصدق وامانه ان بلدنا رغم انه صغير في مساحته وسكانه الا انه كبير في امكانياته التي تتطلبها معركتنا مع الاعداء وانه لابد ان يكون قطب الرحى في معركه استرداد الوطن المغتصب
نتذكر التقدير والاجلال المواقف الشجاعه والحكمه وبعد النظر التي تحلى بها المغفور له الملك عبد الله طوال ايام المعركه والتي كانت العامل الرئيسي في انتصار كتائب الجيش العربي.. صور قديمة تحكي الاردن