معلوم أن إسقاط الحق الشخصي في كثير من القضايا يحمي العديد من الحقوق، فيما اتخذ الأردن خلال السنوات القليلة الماضية خطوة تحسب له في مجال الحقوق عندما أقر قانون العقوبات البديلة عن السجن، والتي تتجه أغلبها لقضايا الحق الشخصي، مثل الجرائم الواقعة على الأموال كالسرقة أول مرة، والديون، والغش، وحوادث السير.
ولأن تطبيق العقوبات البديلة ما يزال حديث الولادة، إلا أنه وفي الجانب الآخر يساعد في إسقاط الحق الشخصي في تلك الجرائم في العديد من النواحي الحقوقية، من بينها انخفاض الاكتظاظ الذي تعاني منه السجون، ومنح مساحة أكبر لعدم تكرار الجريمة.
لكن وبالرغم من تلك الحماية الحقوقية والإنسانية التي يطرحها إسقاط الحق الشخصي، إلا أنه ووفق آراء مختصين تحدثوا لـ"الغد"، غير أنه يشكل "تهديداً" للنساء تحديدا، ذلك لأن قضايا العنف الأسري وبعض الجرائم الواقعة عليهن يشملها إسقاط الحق الشخصي.
ويقصد بإسقاط الحق الشخصي وفق القانون الأردني، أن يقوم المشتكي أو المتضرر أو المجني عليه/ في القضايا الجزائية بإسقاط الحق الشخصي عن المشتكى عليه، والحق الشخصي هنا هو عكس الحق العام، فالأخير لا يمكن التنازل عنه باعتباره "حقا للمجتمع بأكمله بالاقتصاص من مرتكب الجريمة، أما الحق الشخصي فهو الجزء من العقوبة الذي يعتبر ملكاً للمشتكي جبراً للضرر الذي لحق به".
وتنص المادة (52) من قانون العقوبات على: "إن صفح المجني عليه يسقط دعوى الحق العام والعقوبات المحكوم بها التي لم تكتسب الدرجة القطعية".
ومؤخراً، حكمت محكمة الجنايات الكبرى على شاب عشريني قام بهتك عرض فتاة عشرينية في محل تجاري بالأشغال المؤقتة والحبس لمدة أربعة أعوام، ونظراً لإسقاط الضحية حقها الشخصي، خفضت المحكمة العقوبة إلى عامين وثمانية أشهر.
وتعود قصة القضية، وفق محضر قرار المحكمة، عندما توجهت الضحية إلى أحد المحال التجارية القريبة من مكان سكنها وكانت وحدها، وهناك غافلها الجاني وأمسكها بقوة وقام بحضنها من الأمام وقبلها من فمها رغماً عنها، ومن ثم كشف عورتها ليمد يده إلى مؤخرتها وظهرها.
وعندما قامت الضحية بالصراخ، هددها الجاني بإبلاغ ذويها و"فضحها" في حال استمرت بالصراخ، الأمر الذي أخافها ما اضطرها إلى السكوت، وقام بإعادة أفعاله "هتك عرضها"، وحاولت الإفلات أكثر من مرة إلى أن نجحت في الهروب من المكان، والوصول إلى ذويها وإعلامهم بما حدث معها.
بعدها، توجهت الضحية برفقة أسرتها إلى إدارة حماية الأسرة وقدمت شكوى بحق المتهم، الذي ألقت الأجهزة الأمنية القبض عليه وأحالته إلى محكمة الجنايات الكبرى، وأسندت بدورها إليه جناية هتك العرض، وجناية التهديد، وحكم بالأشغال الشاقة أربعة أعوام.
ونظراً لإسقاط الضحية حقها الشخصي، خفضت المحكمة العقوبة على الجاني إلى السجن عامين وثمانية أشهر مع الأشغال المؤقتة.
وأوضح المحامي في القضايا الجنائية والجزائية صلاح جبر في حديثه لـ"الغد"، أن المقصود بإسقاط الحق الشخصي، أن يقوم المجني عليه في القضايا الجزائية بإسقاط حقه في معاقبة الجاني، على عكس الحق العام الذي لا يجوز إسقاط المجني عليه حقه باعتبار قضايا الحق العام حقا للمجتمع.
وأضاف جبر، أن قانون العقوبات في مادته 52 حدد القضايا التي يجوز فيها إسقاط الحق الشخصي، مثل قضايا الاحتيال، وبعض الجرائم المالية والإيذاء البسيط، التي قد تخفف عقوبتها وتصل إلى العقوبات غير السالبة للحرية، كالعقوبات المجتمعية، لافتاً في الوقت ذاته إلى أنه وبالرغم من الآثار الإيجابية التي يحققها إسقاط الحق الشخصي في بعض القضايا إلا أنها تصبح "كالسيف على رقبة المرأة في القضايا المتعلقة بالعنف الأسري والإيذاء الجسدي والتحرش الجنسي وغيرها من الجرائم الواقعة عليهن".
وأضاف: "المرأة هي الطرف الأضعف في المحاكم"، موضحاً أن "أغلب قضايا العنف الأسري الواقعة على المرأة وقضايا الإيذاء والتحرش وغيرها تنتهي بإسقاط المرأة حقها الشخصي على الجاني، ما يؤدي إلى تخفيف عقوبته، وهي تفعل ذلك بسبب الضغوط الاجتماعية والأسرية والعشائرية التي تتعرض لها، والتي تصل حد اضطرارها إلى تغيير أقوالها في المحكمة، ما قد يوقعها في جرم شهادة الزور".
واستشهد بقضيتين كان فيهما وكيل دفاع عن الضحية، ففي العام 2012 قام أب بقتل ابنته بداعي "الشرف"، وبسبب إسقاط عائلة الضحية "الورثة" حقهم الشخصي في القضية، تم تخفيف عقوبته من الإعدام إلى السجن عشر سنوات.
وفي العام 2014 قام شخص بقتل شقيقته أيضاً بداعي "الشرف" وتنازل ذوو الضحية "الورثة" عن حقهم الشخصي، وخفضت المحكمة عقوبته من الإعدام إلى السجن عشر سنوات.
ويرى جبر أنه "يجب عند تطبيق النصوص المخففة للعقوبة في قضايا إسقاط الحق الشخصي للعقوبات أن يراعى بأن المرأة هي الطرف الضعيف في تلك المعادلة"، داعياً إلى تعديل قانون العقوبات الأردني فيما يتعلق بالعقوبات المخففة في الجرائم الواقعة على النساء في حال تم اللجوء إلى إسقاط الحق الشخصي، والأخذ بعين الاعتبار الضغوطات المجتمعية والعشائرية والأسرية التي تتعرض لها المرأة الضحية، والتي تحرمها من حقها في إنصافها.
وتواصلت "الغد" مع المحامي والخبير الحقوقي في قضايا المرأة عاكف المعايطة للحديث معه عن خطورة إسقاط الحق الشخصي في الجرائم الواقعة على النساء، والذي بين بدوره أن هذه المخالفة الحقوقية طالما كانت وما تزال مطلباً ملحاً في الوسط الحقوقي الأردني.
واعتبر المعايطة أن شمول إسقاط الحق الشخصي في هذه الجرائم هو بحد ذاته "جريمة بحق حقوق الإنسان، فعندما يتم إسقاط ذلك الحق فإنه يعزز فكرة أن من أمن العقوبة جنى وتجبر"، ناهيك عن أن "الأسرة نفسها تساهم في ذلك التجبر، والتي تبرر ضغطها على الضحية لإسقاط حقها الشخصي على أخيها أو والدها مثلاً، كي لا تخسر فردين في العائلة، حتى لو كان فرد منها قد فارق الحياة، مثل جرائم العنف الأسري التي تؤدي إلى موت نساء".
ونوه المعايطة بأنه "ووفق مطالعات لعدد من القضايا، لا يحتسب الحق الشخصي في الجرائم ضد النساء عندما تؤثر على الرأي العام بسبب بشاعة الجريمة، أو وصولها إلى مرحلة (الترند)، وهنا فقط يتدخل القضاء الجزائي ويرفض إسقاط الحق الشخصي".
ويدلل على ذلك بقضية زوجة، حدثت في العام 2021، عندما قضت محكمة الجنايات الكبرى بالسجن المؤبد على زوجها، الذي فقأ عينيها، وتفاعل معها الأردنيون بقوة.
وكانت قضية تلك السيدة التي عرفت بـ"سيدة جرش"، قد أثارت الرأي العام الأردني نظراً لبشاعة الجريمة التي حدثت أمام أطفالها الثلاثة، والتي جاءت بعد سنوات من العنف الأسري الذي تعرضت له.
وبعد الجريمة، خرجت وقفات لمنظمات حقوقية ونسوية تحت شعار "طفح الكيل"، للمطالبة بتغليظ العقوبات في جرائم العنف الأسري والعنف الواقع على المرأة.
واللافت أن هناك ضغوطات مورست على والد الزوجة لإسقاط حق ابنته الشخصي، لكنه رفض ذلك وأصر أن يحصل زوجها على أقصى العقوبات، وعند سؤال "الغد" له عن سبب ذلك قال: "ما برضى أظلم ابنتي، يكفي أن نار حرقتي عليها لم تنطفئ رغم صدور عقوبة مشددة على الجاني".
ووصف من يسقطون حقهم الشخصي في قضايا العنف الأسري والجرائم الواقعة على النساء بأنهم "جبناء، ولا يغارون على كرامة بناتهم، وهذا فعل ليس برجولي، بل ضعيف وناقص".
والخطورة في إسقاط الحق الشخصي على الجرائم الواقعة على النساء، وفق المديرة التنفيذية لحملة "تقاطعات" النسوية بنان أبو زين الدين أنه لا يكمن فقط عند حدّ القانون، بل يشمل أيضاً الضغوطات التي تمارس على الضحية من قبل عائلتها حتى تتنازل عن حقها في معاقبة الجاني.
وتقول أبو زين إن أغلب الحالات التي تذهب فيه الضحية لإسقاط حقها الشخصي في جريمة وقعت عليها سواء كانت اغتصابا، أو هتك عرض، أو عنفا أسريا، أو تحرشا وغيرها من الجرائم، تكون نابعة من حرية ذاتية منها، بل نابعة من ضغط عائلتها عليها، الأمر الذي يضيف على الجريمة التي وقعت عليها جريمة أخرى.
وتضيف: "لا مساومة أمام المطالبة بإلغاء إسقاط الحق الشخصي، ومن المعيب أن يشمل العفو العام هذا النوع من القضايا؛ لأن هذا تكريس فكرة أن لا إنصاف لحق النساء، يفتح المجال لتصبح نسب العنف والجرائم الواقعة على النساء مرتفعة، مثل العام الماضي الذي شهد 49 جريمة بحق النساء، وهذا دليل قاطع على فكرة تكريس غياب الإنصاف".
وتقول: "العفو عن مجرمي النساء بداعي العفو العام يعني أننا شركاء في هذا النوع من الجرائم، وقوانين الأحوال الشخصية تنظر إلى النساء، بنظرة تمييزية من ناحية الولاية، فمثلاً القوانين المتعلقة بالطلاق والإرث تنصب الرجل بأنه صاحب الولاية المطلقة على النساء، وكأنها ليست جزءا من إنشاء هذا الإرث أو العائلة، والمنظومة القانونية تتعامل مع النساء على أنهن درجة ثانية أو ثالثة، وهذا نتاج تكريس ولاية الأمر، والدور التبعي المنوط بالرجل في حق النساء".
(الغد)