يقع عدد كبير من الأشخاص بسبب خطأ أو سورة غضب في براثن الجريمة، فتعاقبه التشريعات بالسجن لمدة قد تصل لسنوات، ودخوله السجن يعني انهيار أسرة وانقطاع دخل، بيد أن السياسة الجنائية الأردنية الحديثة كان لها رأي آخر بمنح المذنب الفرصة لإصلاح نفسه.
الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة العدل والتي حصلت عليها (بترا) تشير إلى أن نحو 5 آلاف شخص محكومين بجرائم ارتكبوها للمرة الأولى ولم تقع على الإنسان، نجوا من دخول السجن خلال السنوات الخمس الأخيرة بسبب السياسة الجنائية الأردنية الجديدة والتي استبدلت سلب حرية هؤلاء المحكومين بخدمة المجتمع لمدد تصل الى 200 ساعة، وبإشراف قضائي وحكومي وأمني دقيق، انتهاء لتحقيق هذه السياسة لأهدافها في إصلاح الإنسان.
وتعتبر الخدمة المجتمعية عقوبة بديلة عن سلب حرية المحكومين بالحبس، وتتمثل في استبدال عقوبة الحبس بعمل غير مدفوع الثمن لخدمة المجتمع لمدة تحددها المحكمة، بحيث لا تقل عن 40 ساعة ولا تزيد على 200 ساعة، وينفذ العمل خلال مدة لا تزيد على سنة تحت الرقابة في حالات الأحكام التي لا تزيد على سنة بحسب قانون العقوبات المعدل رقم 27 لسنة 2017، من المادة 25 مكرر.
وتهدف السياسة الجنائية الحديثة والمعاصرة إلى منح فرصة للمحكوم عليهم لأول مرة ممن لم يكرروا ارتكاب الجرائم بالمعنى القانوني لإصلاح أنفسهم وحماية لهم من الاختلاط بأصحاب السوابق الجرمية ومرتكبي الجرائم الخطيرة وحفاظا لأسرهم من انقطاع الدخل، وتخفيفا للاكتظاظ داخل مراكز الإصلاح والتأهيل، حيث قدرت كلفة النزيل الواحد بحوالي 750 دينارا شهريا.
في الورقة النقاشية الملكية السادسة التي حملت عنوان “سيادة القانون أساس الدولة المدنية”، كان جلالة الملك عبدالله الثاني حريصا على تطوير التشريعات بما يخدم قطاع العدالة ويدعم استقلاله، ويوفر بدائل لحماية المجتمع من عودة الأشخاص لارتكاب الجرائم، ومنح فرص إصلاح النفس وفق سياسة جنائية عادلة.
تقول الأرقام الصادرة عن وزارة العدل إن عدد الأحكام الصادرة بالعقوبات البديلة عن العقوبات السالبة للحرية خلال الأعوام الخمسة السابقة (بين عامي 2018 – 2022) كانت 7 أحكام خلال العام 2018، ارتفعت 17 ضعفا عام 2019 لتصل الى 124 حكما، كما ارتفعت بمعدل 1.3 ضعف عام 2020 لتصل الى 286 حكما، وفي عام 2021 ارتفع مؤشر الزيادة بنسبة 0.05 بالمئة الى 302 حكم، ليتضاعف الرقم حوالي 13 ضعفا وصولا الى 4166 حكما قضائيا بديلا عام 2020.
وتبين لـ (بترا) أن وزارة العدل ولتأمين أماكن لتطبيق بدائل العقوبات السالبة للحرية وقعت مذكرات تفاهم مع العديد من المؤسسات التي يتوفر لديها برامج لتنفيذ بدائل العقوبات، هي وزارات: العمل/مؤسسة التدريب المهني، الزراعة، التنمية الاجتماعية، الشباب، الأوقاف الشؤون والمقدسات الإسلامية، التربية والتعليم، الصحة، وأمانة عمان الكبرى، جامعة آل البيت، الحسين بن طلال، العلوم والتكنولوجيا، مديرية الامن العام، السياحة والآثار، والبيئة.
وكالة الأنباء الأردنية (بترا) تتبعت جهود السياسة الجنائية الأردنية المعاصرة في السنوات الخمس الأخيرة والتعديلات التي أجراها المشرع على القوانين، واستطلعت الأرقام الرسمية التي حملت دلالات كبيرة نحو إنسانية التعامل مع المحكومين، وحصلت على آراء مسؤولين ومختصين بقطاع العدالة، والذين أكدوا أن وقف سلب حرية المحكومين ببدائل مفيدة للمجتمع يدلل على أن الأردن يبحث عما يصلح الشأن لا أن يزيد الطين بلة.
الناطق الإعلامي باسم وزارة العدل نزار الخرابشة، قال لـ (بترا)، إن بدائل الإصلاح المجتمعي جاءت نتيجة لتوصيات اللجنة الملكية لتطوير القضاء والتي جاء تشكيلها بأمر ملكي، حيث أدخلت تعديلات على قانون العقوبات عام 2017 وتم اضافة المادة 25 مكرر والتي نصت على عدد من أنواع العقوبات المجتمعية، والمادة 54 مكرر ثانيا، والمتضمنة شروط تطبيق بدائل الإصلاح المجتمعي، وقانون أصول المحاكمات الجزائية والذي جاء فيه إن تطبيق العقوبات المجتمعية يكون من خلال مديرية مختصة في وزارة العدل.
وأضاف، من وجهة نظر القانون ونتيجة للأثر الإيجابي لتطبيق بدائل العقوبات السالبة للحرية، فقد جاءت التعديلات مرة أخرى على قانون العقوبات المعدل رقم 10 لسنة 2022 في اطار الاستراتيجية المتخذة على مستوى التشريعات والتي تسهم بتفعيل تطبيق العقوبات المجتمعية.
ولفت إلى أن هذه البدائل تضمنت (6) بنود، نص الأول على التوسع في تطبيق بدائل العقوبات لتشمل الجنح كافة، وشمول الأحكام القطعية بالتطبيق وتتمثل البدائل في الخدمة المجتمعية والمراقبة المجتمعية، والمراقبة الالكترونية وحظر ارتياد أماكن محددة، بالإضافة الى شمول الجنايات الواقعة على غير الأشخاص بتطبيق بدائل العقوبات عند الأخذ بالأسباب المخففة والحكم بمدة لا تتجاوز السنة.
ميسرة أعمال المركز الوطني لحقوق الإنسان الدكتورة ريم ابو دلبوح قالت إن المواثيق الدولية كفلت الحق في محاكمة عادلة من قبل قضاء مستقل وعادل، نزية، سريع، وفعال، وهو ما نص عليه الدستور الأردني ضمن استقلالية السلطة القضائية والذي أكدته المادة 27 من الدستور الأردني التي تنص على أن “السلطة القضائية مستقلة تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر جميع الأحكام وفق القانون بإسم الملك”.
وبينت ابو دلبوح أن عام 2017 شهد بداية تطبيق العقوبات البديلة بشكل رسمي كبديل للعقوبات السالبة للحرية، بهدف سيادة القانون والنهوض بقطاع العدالة الجنائية التي أثمرت عن تعديلات تشريعية على قانون العقوبات الأردني تمثلت في انتهاج العقوبات البديلة ضمن نظام وآليات محددة لتنفيذ العقوبات المجتمعية كبدائل للعقوبات السالبة للحرية.
وأشارت إلى أن المركز الوطني لحقوق الإنسان وفي إطار عضويته في اللجنة الفنية الخاصة بمواءمة التشريعات الوطنية مع الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والمشكلة بموجب قرار من رئيس الوزراء، ساهم في تعديل حزمة من التشريعات ذات الأثر المباشر على حق الأفراد في محاكمة عادلة.
وأضافت، إن مشاركة المركز في اللجنة المتخصصة في وزارة العدل لتعديل قانون العقوبات وقانون أصول المحاكمات الجزائية، أوصى بتعديل المادة 54 مكرر من قانون العقوبات للتخفيف من حدة القيود الواردة على صلاحية القضاء في اللجوء الى العقوبات البديلة من خلال توسيع نطاق التطبيق ليشمل الجنح برمتها.
وأكدت أن بدائل العقوبات تتلاقى مع محور المحاكمة العادلة، وأن تطبيق بدائل الحبس تتوافق والسياسة الإصلاحية الجنائية باتجاه تحقيق الردع العام والخاص وإستثماره في خدمة المجتمع بعيدا عن تقييد الحرية داخل المؤسسات العقابية حماية من العدوى الجرمية وتحقيق السياسة الوقائية من أختلاطهم بالموقوفين والمحكومين وحفظا للأمن الاجتماعي والاقتصادي.
وأضافت، إن عام 2022 شهد توسعا بتطبيق العقوبات البديلة حيث بلغ عدد المستفيدين من العقوبات البديلة حتى منتصف شهر آب 979 شخصا، مشيرة الى أن عدد المؤسسات الحكومية الشريكة في تنفيذ العقوبات البديلة وصل إلى 13 مؤسسة.
وبينت أن أبرز التحديات التي تواجه تطبيق منظومة العقوبات البديلة في محاكم المملكة، تتمثل بعدم شمول الحكم بالغرامة كعقوبة جزائية بهذه البدائل واستبدالها بعقوبة مجتمعية لعدم وجود نص قانوني يجيز للقاضي استبدال عقوبة الغرامة بعقوبة مجتمعية.
مستشارة الجندر والإدماج والعنف المبني على النوع الاجتماعي والمتخصصة في علم الجريمة الدكتورة خولة الحسن تقول، إن الفئة العمرية ما بين 18 سنة إلى 37 سنة هي الفئة الأكثر ارتكابا للجرائم حسب التقرير الإحصائي الجنائي لسنة 2021، ما سلط الضوء على واقع الشباب في المجتمع الاردني وأهمية الحاجة إلى وجود برامج تمكن الشباب وتستثمر طاقاتهم وتعزز مهاراتهم الحياتية بعيدا عن براثن الجريمة.
وأضافت، إن الجريمة لم تكن في يوم من الأيام منسوبة الى فئة معينة دون غيرها، إلا إن هناك بعض المؤشرات التي يمكن ان تتنبأ بوقوع أنماط معينة من السلوك الإجرامي لدى فئات معينة تختلف الاستجابة لديهم بناء على عدد من الدوافع و المحفزات والمثيرات والتي تتمثل بالضغوط سواء أكانت اجتماعية أو نفسية أو اقتصادية او شخصية.
وأوضحت أن السلوك الإجرامي هو سلوك مكتسب، ولرفاق السوء دور في انحراف الأقران نحو هذا السلوك كما هو الحال عند اختلاط السجناء في مراكز الإصلاح والتأهيل بسبب الاكتظاظ والأعداد الكبيرة للمحكومين والموقوفين.
وأشارت الى تواضع إمكانيات تصنيف السجناء بما يضمن عدم اختلاط المجرمين ممن امتهنوا الجريمة والمكررين وأصحاب القيود الجرمية مع المحكومين لأول مرة أو مرتكبي الجنح البسيطة.
وبحسب الدكتورة الحسن، فقد أصبحت الحاجة ملحة في جميع دول العالم للنظر جديا في الرقابة القضائية والإفراج المشروط وتطبيقات برامجها بسبب الاكتظاظ الهائل والمتزايد في السجون والتكلفة المالية المرتفعة للسجن، إضافة الى افتقار السجون لبرامج إعادة التأهيل والبرامج العلاجية وبرامج إعادة الاندماج والتكيف المجتمعي خاصة في ظل التقدم الهائل في مجال حقوق الإنسان وعلم الاجتماع وتطور علم العقوبات وأنظمة العدالة الجنائية.
وبموازاة هذا، تشير الحسن الى ارتفاع الأصوات المطالبة بإيجاد عقوبات بديلة عن العقوبة السالبة للحرية، خاصة للمحكومين والمدانين بارتكاب جرائم طفيفة أو جرائم حقوق مالية وجنح الأحداث، وذلك عن طريق استبدال الحكم بتنفيذ أنشطة معينة مثل الخدمة المجتمعية تعود بالنفع المجتمعي على الجاني والمجتمع.
اختصاصي أول في الطب النفسي الدكتور أحمد عبد الخالق يشير من جهته الى الأثر النفسي الواقع على مرتكبي الجرائم او المخالفات “لأول مرة”، موضحا أن هذا ما يشعر به الشخص الطبيعي من الندم وعدم الرجوع الى ارتكاب الجرم او المخالفة.
وأكد عبد الخالق أهمية خيار استبدال حجز الحرية بالخدمة المجتمعية، ما يعطي فرصه لعدم تكرار الجريمة أو المخالفة للأشخاص الطبيعيين الذين لا توجد لديهم نزعة جرمية، مشيرا الى أنه يترتب على المجتمع مسؤولية مساوية تجاه هؤلاء الأشخاص من خلال مساعدة القانون في تفعيل العقوبات البديلة عن عقوبة الحجز أو الحبس وإدماجهم في المجتمع.
وأوضح أن العقوبات البديلة تعتبر رادعا للأشخاص غير المكررين خاصة في المخالفات الخفيفة، في حين تكون عقوبة الحبس هي الأجدى بحق الأشخاص الذين لديهم “نزعات مضادة للمجتمع”، موضحا أن حجز الحرية يعتبر جزءا من العلاج النفسي للأفراد الذين يعانون مما يسمى بـ “اضطراب مضاد” للمجتمع بحيث تكون عقوبة الحبس هي الأنفع في تنفيذ حالاتهم العقابية.
بترا