أخبار اليوم - ليلة تحت الردم، اختنقت فيها برائحة الصواريخ ونزفت جراحها إلى حد كاد يقضي على طفولتها، نادت بصوتها الباكي: 'بابا.. ماما..'، لم يجب أحد، اصطدمت نظراتها بشهيدة ظنت أنها 'تشبه والدتها'، فأغمضت عينيها لئلا ترى أمها أو من تشبهها قد فارقت الحياة.
صرخت مها العرعير (ستة أعوام) لما التبس عليها الأمر: 'ماما، بديش ياكي تستشهدي'، لكن تلك الشهيدة كانت أمها التي غير القصف ملامحها لدرجة أن طفلتها لم تتعرف عليها.
وحدها، عاشت تلك الليلة الطويلة جريحة تصارع الأنقاض التي تجثم على جسدها النحيل، لا أحد يسمع أنينها ولا يخلصها من خوفها أو يداوي جراحها الغائرة، ولا أحد يطمئن قلبها الذي يغلي كبركان.
ظلت الأسئلة تخنقها عن مصير أبيها رشاد العرعير وأمها وإخوتها الأطفال: مرح ومنير و'حمود'، ومن سينتشلها من مصيبة حلت بها دون رحمة، لكن الصوت الوحيد الذي وصلها هو صوت طلقات طائرات 'الكواد كابتر' الإسرائيلية وقذائف المدفعية، ونباح كلب اقترب منها لينهش جثامين الشهداء.
كانت مها قبل حرب الإبادة الجماعية التي شنها الاحتلال في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 تقطن مع أسرتها في حي الشجاعية شرق غزة، وأجبرها العدوان المكثف على النزوح قسرا إلى منطقة أخرى في الحي بحثا عن أمان مفقود.
لكن هذا الأمان الذي يستحقوه لم يجدوا له أثرا في الحي، والحديث هنا للؤي العرعير عم مها، ووجدوا أنفسهم مجبرين على النزوح ثانية إلى حي الدرج، ثم إلى منطقة غرب غزة، ومكثوا قليلا في مدرسة أحمد شوقي، والقاسم المشترك بين محطات التشرد هذه هو انهمار القذائف والأحزمة النارية والصواريخ دون توقف.
مثقلا بفاجعة تجاوزت حدود العقل، يتنهد لؤي، قائلا لصحيفة 'فلسطين': قصدوا حي تل الهوا، ظنا منهم أنهم سيجدون ضالتهم في مراكز الإيواء بالمدارس، لكنها أيضا كانت في دائرة النيران الإسرائيلية التي طالت المدنيين بصغارهم وكبارهم ونسائهم دون تمييز.
ومن محطة النزوح قبل الأخيرة في منطقة الصناعة بغزة، أجبرهم العدوان واقتراب دبابات الاحتلال منهم إلى الانتقال لبيت أحد أصدقائهم في منطقة السرايا.
مها ذات العينين الخضراوين كحدائق شاسعة ووجه يكسوه لون قمح فلسطين، تحملت في سن مبكرة مشاق حرب إبادة فرضها محتل لا يعرف إلى الإنسانية سبيلا، وتشردت مع أسرتها وجدها وجدتها لأمها وخالاتها وأخوالها، وتركت قسرا غرفتها وألعابها ودفء بيتها.
لم يلتقطوا أنفاسهم، حتى باغتتهم غارة إسرائيلية بعد خمس ساعات من وصولهم إلى البيت في 29 يناير/كانون الثاني 2024، وقطعت لحظات من اللهو انتزعتها مها وإخوتها الأطفال باللعب على أرجوحة صادفتهم بالمنزل.
هكذا هي حرب الإبادة أكلت كل ما في طريقها كنيران مجنونة لا تبقي أحدا أو شيئا. يقول العشريني لؤي: 'البيت مدني وكل من فيه مدنيون ولا علاقة لهم بأي تنظيم أو جهة، لكن الاحتلال لا يعرف صغيرا أو كبيرا'.
وتبدد الأمان المنشود في بيت صديق العائلة، لتواجه مها نقطة تحول في حياتها تفوق قدراتها وسنها، ووجدت نفسها حبيسة الردم والإصابة والخوف والمطر.
ومن جراء الغارة استشهدت أسرة مها وجداها ومعظم أخوالها وخالاتها.
ومنذ بدء حرب الإبادة، استشهد 48,264 غزيا وأصيب 111,688 آخرون.
تدير مها رأسها يمنة ويسرة كأنها تحاول الهرب من واقع سوداوي يأسرها، وتتقطع كلماتها ونبرة صوتها.
تستجمع خيوط الأحداث التي تتمنى لو كان بإمكانها حذفها من حياتها واستعادة أسرتها، ذاكرة أنها كانت في منزل نزحت إليه بسبب قصف الاحتلال الإسرائيلي.
عن الليلة 'الظلماء' التي وقعت فيها المجزرة، تقول: 'كنا نلعب بالمرجيحة، فجأة صار ضو أحمر، وبابا وماما وخواتي استشهدوا..'.
ببراءة تروي الطفلة تفاصيل الفاجعة: 'لما اجى الصاروخ ولعت الدار نار، وكل ما أقوم أوقع، والسقف بينقط نار، وملقتش مخدة عملت حجر مخدة'.
'قصة مأساوية'
'تخيل طفلة عمرها ست سنوات ترى أباها وأمها وإخوتها ومعظم خالاتها وأخوالها وجديها يموتون أمامها، وتصرخ في ندائهم تحت الأنقاض، ويباغتها كلب بالاقتراب منها وهي خائفة من أن يأكلها لتبدأ محاولات الزحف من المكان للاختباء ثم ينهمر عليها المطر.. إنها قصة مأساوية للغاية'، هكذا يصفها لؤي.
حوصرت الطفلة بين 'نيران متعددة': القصف والإصابة والمطر الشديد والكلب الذي حضر لينهش جثامين الشهداء ورأته يقترب منها، كانت مرعوبة جدا.
استمرت المأساة حتى السادسة صباحا عندما تمكنت فرق الدفاع المدني من الوصول إلى المكان وانتشال مها بسرعة خاطفة، كما يوضح لؤي، في ظل التهديد الذي يمثله الاحتلال الإسرائيلي.
وصلت الطفلة المصابة بجروح بالغة إلى مستشفى الشفاء الأكبر في مدينة غزة والذي استهدفه الاحتلال في خضم حرب الإبادة الجماعية بالحرق والتدمير وإعدام وإصابة واعتقال الطواقم الطبية والمرضى.
نقلها أعمامها إلى المستشفى الأهلي العربي 'المعمداني'، الذي طاله القصف أيضا، لمحاولة علاجها، وهي 'في حالة صعبة جدا'، يقول لؤي.
أصيبت مها بحروق في الوجه والرقبة والشعر والظهر، وخلل في العين وكسر وحرق باليد اليمنى وكسر بالقدم وتلف بالأعصاب وركب الأطباء لها 'البلاتين' في اليد اليسرى.
لكنه يوضح أن الإصابة الأبلغ كانت في 'روحها' أكثر من جسدها، فهي تعاني من مأزق حقيقي يحاول أعمامها وجدها لأبيها أن ينتشلوها من تداعياته التي أصابتها بصدمة كبيرة.
يتوغل الحزن في صوت لؤي واصفا حال ابنة أخيه الشهيد: 'وضعها يصعب على أي إنسان يشاهد طفلة أتت إلى هذه الحياة لتعيش حياة مليئة بالسعادة والفرح في كنف أسرتها وتلعب معهم فيتحول الحلم إلى صدمة كبيرة كادت تفقدها عقلها'.
ولا تزال مها تردد أحاديث ومواقف دارت بينها وبين أمها التي طلبت منها خلال الحرب ألا تخرج إلى الشارع إلا بعد إبلاغها، حرصا عليها، ويذرف قلبها دمعا على فقد أبيها الذي اعتادت على الجلوس في حضنه وأهداها يوما 'حلق ذهب'.
تقول مها: 'كنت أحلم زي باقي أطفال العالم بحياة حلوة.. وتحولت حياتي لمأساة.. اليهود سرقوا عيلتي'.
ولشدة تأثرها بالفاجعة وثقت الطفلة في حساب باسمها 'Maha alareer' في 'إنستغرام' صورا من محطات مأساتها.
فقدت الطفلة بيتها وأسرتها، وتعيش الآن في بيت مستأجر مع جدها وأعمامها، في انتظار تمكنها من السفر للعلاج في الخارج عبر معبر رفح الذي استولت عليه قوات الاحتلال في مايو/أيار، قبل أن يعاد فتحه أخيرا لأعداد محدودة من المصابين والمرضى، بموجب اتفاق وقف حرب الإبادة وتبادل الأسرى.
لكن الطفلة الملتحقة حاليا بإحدى النقاط التعليمية في غزة، تتمسك بحلمها بمواصلة تعليمها الذي أولته أمها حرصا كبيرا حتى تصبح 'أميرة' في المستقبل، وأمنيتها الوحيدة التي تراودها ليلا نهارا وتشعل فؤادها هي رؤية أبيها وأمها وإخوتها.
المصدر / فلسطين أون لاين
أخبار اليوم - ليلة تحت الردم، اختنقت فيها برائحة الصواريخ ونزفت جراحها إلى حد كاد يقضي على طفولتها، نادت بصوتها الباكي: 'بابا.. ماما..'، لم يجب أحد، اصطدمت نظراتها بشهيدة ظنت أنها 'تشبه والدتها'، فأغمضت عينيها لئلا ترى أمها أو من تشبهها قد فارقت الحياة.
صرخت مها العرعير (ستة أعوام) لما التبس عليها الأمر: 'ماما، بديش ياكي تستشهدي'، لكن تلك الشهيدة كانت أمها التي غير القصف ملامحها لدرجة أن طفلتها لم تتعرف عليها.
وحدها، عاشت تلك الليلة الطويلة جريحة تصارع الأنقاض التي تجثم على جسدها النحيل، لا أحد يسمع أنينها ولا يخلصها من خوفها أو يداوي جراحها الغائرة، ولا أحد يطمئن قلبها الذي يغلي كبركان.
ظلت الأسئلة تخنقها عن مصير أبيها رشاد العرعير وأمها وإخوتها الأطفال: مرح ومنير و'حمود'، ومن سينتشلها من مصيبة حلت بها دون رحمة، لكن الصوت الوحيد الذي وصلها هو صوت طلقات طائرات 'الكواد كابتر' الإسرائيلية وقذائف المدفعية، ونباح كلب اقترب منها لينهش جثامين الشهداء.
كانت مها قبل حرب الإبادة الجماعية التي شنها الاحتلال في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 تقطن مع أسرتها في حي الشجاعية شرق غزة، وأجبرها العدوان المكثف على النزوح قسرا إلى منطقة أخرى في الحي بحثا عن أمان مفقود.
لكن هذا الأمان الذي يستحقوه لم يجدوا له أثرا في الحي، والحديث هنا للؤي العرعير عم مها، ووجدوا أنفسهم مجبرين على النزوح ثانية إلى حي الدرج، ثم إلى منطقة غرب غزة، ومكثوا قليلا في مدرسة أحمد شوقي، والقاسم المشترك بين محطات التشرد هذه هو انهمار القذائف والأحزمة النارية والصواريخ دون توقف.
مثقلا بفاجعة تجاوزت حدود العقل، يتنهد لؤي، قائلا لصحيفة 'فلسطين': قصدوا حي تل الهوا، ظنا منهم أنهم سيجدون ضالتهم في مراكز الإيواء بالمدارس، لكنها أيضا كانت في دائرة النيران الإسرائيلية التي طالت المدنيين بصغارهم وكبارهم ونسائهم دون تمييز.
ومن محطة النزوح قبل الأخيرة في منطقة الصناعة بغزة، أجبرهم العدوان واقتراب دبابات الاحتلال منهم إلى الانتقال لبيت أحد أصدقائهم في منطقة السرايا.
مها ذات العينين الخضراوين كحدائق شاسعة ووجه يكسوه لون قمح فلسطين، تحملت في سن مبكرة مشاق حرب إبادة فرضها محتل لا يعرف إلى الإنسانية سبيلا، وتشردت مع أسرتها وجدها وجدتها لأمها وخالاتها وأخوالها، وتركت قسرا غرفتها وألعابها ودفء بيتها.
لم يلتقطوا أنفاسهم، حتى باغتتهم غارة إسرائيلية بعد خمس ساعات من وصولهم إلى البيت في 29 يناير/كانون الثاني 2024، وقطعت لحظات من اللهو انتزعتها مها وإخوتها الأطفال باللعب على أرجوحة صادفتهم بالمنزل.
هكذا هي حرب الإبادة أكلت كل ما في طريقها كنيران مجنونة لا تبقي أحدا أو شيئا. يقول العشريني لؤي: 'البيت مدني وكل من فيه مدنيون ولا علاقة لهم بأي تنظيم أو جهة، لكن الاحتلال لا يعرف صغيرا أو كبيرا'.
وتبدد الأمان المنشود في بيت صديق العائلة، لتواجه مها نقطة تحول في حياتها تفوق قدراتها وسنها، ووجدت نفسها حبيسة الردم والإصابة والخوف والمطر.
ومن جراء الغارة استشهدت أسرة مها وجداها ومعظم أخوالها وخالاتها.
ومنذ بدء حرب الإبادة، استشهد 48,264 غزيا وأصيب 111,688 آخرون.
تدير مها رأسها يمنة ويسرة كأنها تحاول الهرب من واقع سوداوي يأسرها، وتتقطع كلماتها ونبرة صوتها.
تستجمع خيوط الأحداث التي تتمنى لو كان بإمكانها حذفها من حياتها واستعادة أسرتها، ذاكرة أنها كانت في منزل نزحت إليه بسبب قصف الاحتلال الإسرائيلي.
عن الليلة 'الظلماء' التي وقعت فيها المجزرة، تقول: 'كنا نلعب بالمرجيحة، فجأة صار ضو أحمر، وبابا وماما وخواتي استشهدوا..'.
ببراءة تروي الطفلة تفاصيل الفاجعة: 'لما اجى الصاروخ ولعت الدار نار، وكل ما أقوم أوقع، والسقف بينقط نار، وملقتش مخدة عملت حجر مخدة'.
'قصة مأساوية'
'تخيل طفلة عمرها ست سنوات ترى أباها وأمها وإخوتها ومعظم خالاتها وأخوالها وجديها يموتون أمامها، وتصرخ في ندائهم تحت الأنقاض، ويباغتها كلب بالاقتراب منها وهي خائفة من أن يأكلها لتبدأ محاولات الزحف من المكان للاختباء ثم ينهمر عليها المطر.. إنها قصة مأساوية للغاية'، هكذا يصفها لؤي.
حوصرت الطفلة بين 'نيران متعددة': القصف والإصابة والمطر الشديد والكلب الذي حضر لينهش جثامين الشهداء ورأته يقترب منها، كانت مرعوبة جدا.
استمرت المأساة حتى السادسة صباحا عندما تمكنت فرق الدفاع المدني من الوصول إلى المكان وانتشال مها بسرعة خاطفة، كما يوضح لؤي، في ظل التهديد الذي يمثله الاحتلال الإسرائيلي.
وصلت الطفلة المصابة بجروح بالغة إلى مستشفى الشفاء الأكبر في مدينة غزة والذي استهدفه الاحتلال في خضم حرب الإبادة الجماعية بالحرق والتدمير وإعدام وإصابة واعتقال الطواقم الطبية والمرضى.
نقلها أعمامها إلى المستشفى الأهلي العربي 'المعمداني'، الذي طاله القصف أيضا، لمحاولة علاجها، وهي 'في حالة صعبة جدا'، يقول لؤي.
أصيبت مها بحروق في الوجه والرقبة والشعر والظهر، وخلل في العين وكسر وحرق باليد اليمنى وكسر بالقدم وتلف بالأعصاب وركب الأطباء لها 'البلاتين' في اليد اليسرى.
لكنه يوضح أن الإصابة الأبلغ كانت في 'روحها' أكثر من جسدها، فهي تعاني من مأزق حقيقي يحاول أعمامها وجدها لأبيها أن ينتشلوها من تداعياته التي أصابتها بصدمة كبيرة.
يتوغل الحزن في صوت لؤي واصفا حال ابنة أخيه الشهيد: 'وضعها يصعب على أي إنسان يشاهد طفلة أتت إلى هذه الحياة لتعيش حياة مليئة بالسعادة والفرح في كنف أسرتها وتلعب معهم فيتحول الحلم إلى صدمة كبيرة كادت تفقدها عقلها'.
ولا تزال مها تردد أحاديث ومواقف دارت بينها وبين أمها التي طلبت منها خلال الحرب ألا تخرج إلى الشارع إلا بعد إبلاغها، حرصا عليها، ويذرف قلبها دمعا على فقد أبيها الذي اعتادت على الجلوس في حضنه وأهداها يوما 'حلق ذهب'.
تقول مها: 'كنت أحلم زي باقي أطفال العالم بحياة حلوة.. وتحولت حياتي لمأساة.. اليهود سرقوا عيلتي'.
ولشدة تأثرها بالفاجعة وثقت الطفلة في حساب باسمها 'Maha alareer' في 'إنستغرام' صورا من محطات مأساتها.
فقدت الطفلة بيتها وأسرتها، وتعيش الآن في بيت مستأجر مع جدها وأعمامها، في انتظار تمكنها من السفر للعلاج في الخارج عبر معبر رفح الذي استولت عليه قوات الاحتلال في مايو/أيار، قبل أن يعاد فتحه أخيرا لأعداد محدودة من المصابين والمرضى، بموجب اتفاق وقف حرب الإبادة وتبادل الأسرى.
لكن الطفلة الملتحقة حاليا بإحدى النقاط التعليمية في غزة، تتمسك بحلمها بمواصلة تعليمها الذي أولته أمها حرصا كبيرا حتى تصبح 'أميرة' في المستقبل، وأمنيتها الوحيدة التي تراودها ليلا نهارا وتشعل فؤادها هي رؤية أبيها وأمها وإخوتها.
المصدر / فلسطين أون لاين
أخبار اليوم - ليلة تحت الردم، اختنقت فيها برائحة الصواريخ ونزفت جراحها إلى حد كاد يقضي على طفولتها، نادت بصوتها الباكي: 'بابا.. ماما..'، لم يجب أحد، اصطدمت نظراتها بشهيدة ظنت أنها 'تشبه والدتها'، فأغمضت عينيها لئلا ترى أمها أو من تشبهها قد فارقت الحياة.
صرخت مها العرعير (ستة أعوام) لما التبس عليها الأمر: 'ماما، بديش ياكي تستشهدي'، لكن تلك الشهيدة كانت أمها التي غير القصف ملامحها لدرجة أن طفلتها لم تتعرف عليها.
وحدها، عاشت تلك الليلة الطويلة جريحة تصارع الأنقاض التي تجثم على جسدها النحيل، لا أحد يسمع أنينها ولا يخلصها من خوفها أو يداوي جراحها الغائرة، ولا أحد يطمئن قلبها الذي يغلي كبركان.
ظلت الأسئلة تخنقها عن مصير أبيها رشاد العرعير وأمها وإخوتها الأطفال: مرح ومنير و'حمود'، ومن سينتشلها من مصيبة حلت بها دون رحمة، لكن الصوت الوحيد الذي وصلها هو صوت طلقات طائرات 'الكواد كابتر' الإسرائيلية وقذائف المدفعية، ونباح كلب اقترب منها لينهش جثامين الشهداء.
كانت مها قبل حرب الإبادة الجماعية التي شنها الاحتلال في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 تقطن مع أسرتها في حي الشجاعية شرق غزة، وأجبرها العدوان المكثف على النزوح قسرا إلى منطقة أخرى في الحي بحثا عن أمان مفقود.
لكن هذا الأمان الذي يستحقوه لم يجدوا له أثرا في الحي، والحديث هنا للؤي العرعير عم مها، ووجدوا أنفسهم مجبرين على النزوح ثانية إلى حي الدرج، ثم إلى منطقة غرب غزة، ومكثوا قليلا في مدرسة أحمد شوقي، والقاسم المشترك بين محطات التشرد هذه هو انهمار القذائف والأحزمة النارية والصواريخ دون توقف.
مثقلا بفاجعة تجاوزت حدود العقل، يتنهد لؤي، قائلا لصحيفة 'فلسطين': قصدوا حي تل الهوا، ظنا منهم أنهم سيجدون ضالتهم في مراكز الإيواء بالمدارس، لكنها أيضا كانت في دائرة النيران الإسرائيلية التي طالت المدنيين بصغارهم وكبارهم ونسائهم دون تمييز.
ومن محطة النزوح قبل الأخيرة في منطقة الصناعة بغزة، أجبرهم العدوان واقتراب دبابات الاحتلال منهم إلى الانتقال لبيت أحد أصدقائهم في منطقة السرايا.
مها ذات العينين الخضراوين كحدائق شاسعة ووجه يكسوه لون قمح فلسطين، تحملت في سن مبكرة مشاق حرب إبادة فرضها محتل لا يعرف إلى الإنسانية سبيلا، وتشردت مع أسرتها وجدها وجدتها لأمها وخالاتها وأخوالها، وتركت قسرا غرفتها وألعابها ودفء بيتها.
لم يلتقطوا أنفاسهم، حتى باغتتهم غارة إسرائيلية بعد خمس ساعات من وصولهم إلى البيت في 29 يناير/كانون الثاني 2024، وقطعت لحظات من اللهو انتزعتها مها وإخوتها الأطفال باللعب على أرجوحة صادفتهم بالمنزل.
هكذا هي حرب الإبادة أكلت كل ما في طريقها كنيران مجنونة لا تبقي أحدا أو شيئا. يقول العشريني لؤي: 'البيت مدني وكل من فيه مدنيون ولا علاقة لهم بأي تنظيم أو جهة، لكن الاحتلال لا يعرف صغيرا أو كبيرا'.
وتبدد الأمان المنشود في بيت صديق العائلة، لتواجه مها نقطة تحول في حياتها تفوق قدراتها وسنها، ووجدت نفسها حبيسة الردم والإصابة والخوف والمطر.
ومن جراء الغارة استشهدت أسرة مها وجداها ومعظم أخوالها وخالاتها.
ومنذ بدء حرب الإبادة، استشهد 48,264 غزيا وأصيب 111,688 آخرون.
تدير مها رأسها يمنة ويسرة كأنها تحاول الهرب من واقع سوداوي يأسرها، وتتقطع كلماتها ونبرة صوتها.
تستجمع خيوط الأحداث التي تتمنى لو كان بإمكانها حذفها من حياتها واستعادة أسرتها، ذاكرة أنها كانت في منزل نزحت إليه بسبب قصف الاحتلال الإسرائيلي.
عن الليلة 'الظلماء' التي وقعت فيها المجزرة، تقول: 'كنا نلعب بالمرجيحة، فجأة صار ضو أحمر، وبابا وماما وخواتي استشهدوا..'.
ببراءة تروي الطفلة تفاصيل الفاجعة: 'لما اجى الصاروخ ولعت الدار نار، وكل ما أقوم أوقع، والسقف بينقط نار، وملقتش مخدة عملت حجر مخدة'.
'قصة مأساوية'
'تخيل طفلة عمرها ست سنوات ترى أباها وأمها وإخوتها ومعظم خالاتها وأخوالها وجديها يموتون أمامها، وتصرخ في ندائهم تحت الأنقاض، ويباغتها كلب بالاقتراب منها وهي خائفة من أن يأكلها لتبدأ محاولات الزحف من المكان للاختباء ثم ينهمر عليها المطر.. إنها قصة مأساوية للغاية'، هكذا يصفها لؤي.
حوصرت الطفلة بين 'نيران متعددة': القصف والإصابة والمطر الشديد والكلب الذي حضر لينهش جثامين الشهداء ورأته يقترب منها، كانت مرعوبة جدا.
استمرت المأساة حتى السادسة صباحا عندما تمكنت فرق الدفاع المدني من الوصول إلى المكان وانتشال مها بسرعة خاطفة، كما يوضح لؤي، في ظل التهديد الذي يمثله الاحتلال الإسرائيلي.
وصلت الطفلة المصابة بجروح بالغة إلى مستشفى الشفاء الأكبر في مدينة غزة والذي استهدفه الاحتلال في خضم حرب الإبادة الجماعية بالحرق والتدمير وإعدام وإصابة واعتقال الطواقم الطبية والمرضى.
نقلها أعمامها إلى المستشفى الأهلي العربي 'المعمداني'، الذي طاله القصف أيضا، لمحاولة علاجها، وهي 'في حالة صعبة جدا'، يقول لؤي.
أصيبت مها بحروق في الوجه والرقبة والشعر والظهر، وخلل في العين وكسر وحرق باليد اليمنى وكسر بالقدم وتلف بالأعصاب وركب الأطباء لها 'البلاتين' في اليد اليسرى.
لكنه يوضح أن الإصابة الأبلغ كانت في 'روحها' أكثر من جسدها، فهي تعاني من مأزق حقيقي يحاول أعمامها وجدها لأبيها أن ينتشلوها من تداعياته التي أصابتها بصدمة كبيرة.
يتوغل الحزن في صوت لؤي واصفا حال ابنة أخيه الشهيد: 'وضعها يصعب على أي إنسان يشاهد طفلة أتت إلى هذه الحياة لتعيش حياة مليئة بالسعادة والفرح في كنف أسرتها وتلعب معهم فيتحول الحلم إلى صدمة كبيرة كادت تفقدها عقلها'.
ولا تزال مها تردد أحاديث ومواقف دارت بينها وبين أمها التي طلبت منها خلال الحرب ألا تخرج إلى الشارع إلا بعد إبلاغها، حرصا عليها، ويذرف قلبها دمعا على فقد أبيها الذي اعتادت على الجلوس في حضنه وأهداها يوما 'حلق ذهب'.
تقول مها: 'كنت أحلم زي باقي أطفال العالم بحياة حلوة.. وتحولت حياتي لمأساة.. اليهود سرقوا عيلتي'.
ولشدة تأثرها بالفاجعة وثقت الطفلة في حساب باسمها 'Maha alareer' في 'إنستغرام' صورا من محطات مأساتها.
فقدت الطفلة بيتها وأسرتها، وتعيش الآن في بيت مستأجر مع جدها وأعمامها، في انتظار تمكنها من السفر للعلاج في الخارج عبر معبر رفح الذي استولت عليه قوات الاحتلال في مايو/أيار، قبل أن يعاد فتحه أخيرا لأعداد محدودة من المصابين والمرضى، بموجب اتفاق وقف حرب الإبادة وتبادل الأسرى.
لكن الطفلة الملتحقة حاليا بإحدى النقاط التعليمية في غزة، تتمسك بحلمها بمواصلة تعليمها الذي أولته أمها حرصا كبيرا حتى تصبح 'أميرة' في المستقبل، وأمنيتها الوحيدة التي تراودها ليلا نهارا وتشعل فؤادها هي رؤية أبيها وأمها وإخوتها.
المصدر / فلسطين أون لاين
التعليقات