كان في البداية كشفا عاديا، عظمة ساق متحجرة لنوع من أسلاف السلاحف المعاصرة اسمه 'بابوكيليز روزينا'، وُجدت جنوبي غرب ألمانيا في منطقة نائية. الحفرية نادرة بالفعل، وقد سعد الفريق البحثي بالحصول عليها، لأنها ساعدت في ملء الجدول الزمني التطوري للسلاحف الحديثة، لكن أحد أفراد الفريق لاحظ شيئا مثيرا للاهتمام: تشوُّه واضح أشبه ما يكون بنمو غير متساوٍ يمتد على طول العظمة.
دفع ذلك بالفريق(1) إلى عمل تحليل أشعة مقطعية دقيق للحفرية، وظهرت المفاجأة، لقد كان هذا التشوُّه نوعا من الورم الغرني العظمي، وهو واحد من أسوأ أنواع السرطان، يستهدف بشكل رئيسي الأطفال والشباب، وغالبا ما تنتقل الإصابة إلى الرئتين، ولكنها قد تنتشر أيضا إلى الدماغ أو الأعضاء أو العظام الأخرى. بوضوح، نحن نتحدَّث هنا عن قاتل متسلسل.
السرطان ببساطة أقدم من الإنسان نفسه، ظهر الإنسان العاقل قبل نحو 300 ألف سنة بحسب حفريات حصلنا عليها من جبل إيغود بالمغرب، قد تطول تلك المدة قليلا، لكننا نعرف أن عمر الجنس الإنساني كله هو نحو 2.3-2.8 مليون سنة، بينما عمر تلك الحفرية يبلغ نحو 240 مليون سنة، إنها أقدم من الديناصورات ذاتها!
يُسميه سيدهارتا موكرجي، وهو طبيب هندي أميركي وكاتب حاصل على جائزة بوليتزر، بإمبراطور المآسي، وهو كذلك فعلا. بين البشر، يُعَدُّ السرطان أحد الأسباب الأساسية للوفاة حول العالم، وحينما نتحدَّث عن احتمالات الإصابة بالسرطان، في الولايات المتحدة على سبيل المثال، وهي نموذج مدروس جيدا ومُعبِّر عن كل العالم تقريبا، فإن هناك فرصة(2) مقدارها 40% تقريبا أن يُصاب شخص ما بأحد أنواع السرطان خلال عمره كله! أعِد القراءة، فالنسبة هي حرفيا ما كُتب (تقريبا واحد من كل اثنين)، بل إن هناك فرصة مقدارها 20% أن يموت شخص ما بسبب السرطان، هذا احتمال يعني 1 من كل 5 أشخاص.
في عام 1971، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية الحرب الرسمية على السرطان بتوقيع الرئيس نيكسون، حدث ذلك في كل العالم على مدى العقود الفائتة، أصبح السرطان هدفا رئيسيا في نطاقات البحث العلمي الطبي، بنوعَيْه التطبيقي (أي المباشر الذي يبحث عن علاج) والأساسي (أي الذي يبحث في الطبيعة البيولوجية للسرطان)، عشرات المليارات من الدولارات ذهبت لهذا النطاق، والعديد من جوائز نوبل ذهبت لهؤلاء الذين سبروا أغوار هذا الإمبراطور القاتل، لكن على الرغم من ذلك، لم نتخلَّص منه بعد
ربما جال السؤال ببالك يوما ما؛ لِمَ لا نتخلَّص من السرطان وينتهي الأمر؟ تخلَّصنا من إصابات قاتلة مثل الطاعون، واجهنا فيروسات مُميتة مثل الحصبة وشلل الأطفال، والآن نُنظِّم حياة المصابين بأمراض ارتفاع ضغط الدم والسكري وحتى الإيدز بصورة ممتازة، لِمَ إذن نقضي كل هذا الوقت مع مرض بتلك الشراسة ولا نصل إلى علاج؟ هل يمكن أن تكون هناك مؤامرة ما؟!
حسنا، للإجابة عن هذا السؤال نحتاج إلى أن نبدأ من تعريف السرطان، فكونه رائجا بهذا الاسم 'السرطان' يوهم الناس أنه مرض واحد، وهو يعني أن تكتسب خلية بشرية ما القدرة على التنامي باستمرار دون توقُّف، ما يُسبِّب تورُّما في مكان ما بالجسم يتسبَّب بدوره في الإضرار المستمر بمحيطه من أجهزة الجسم، وهنا يبدأ دومينو المآسي في الظهور تباعا، لكن الواقع أن السرطان ليس مرضا واحدا بالمعنى المفهوم.
كما أسلفنا، فإن السرطان يبدأ من خلية ما، والجسم البشري يحتوي على نحو 200 نوع من الخلايا، ما يجعلنا نقف بمواجهة 200 نوع من السرطان، هذا يعني بالضبط أن السرطان ليس مرضا واحدا، بل 200 مرض مختلف (منها أكثر من 100 معروفة بالفعل)(3)، كلٌّ منها يحتاج إلى شكل مختلف من أشكال البحث العلمي والتشخيص والعلاج والتعامل الدوائي، والواقع أنك لو قرَّرت ترك النسبة المرعبة التي تحدَّثنا عنها قبل قليل جانبا وبدأت بالبحث عن مخاطر الإصابة بسرطان محدد لوجدت أن النسبة ضئيلة، وهي مثلا 3.86% بالنسبة لسرطان القولون، و0.69% بالنسبة لسرطان المخ، و0.8% بالنسبة لسرطان البلعوم، لكن الفزع الحقيقي يظهر حين تضع هذه النِّسَب الضئيلة مع بعضها.
أسباب السرطان متنوعة(4)، لكنها تنقسم في المجمل إلى قائمتين رئيسيتين، الأولى تضم الأسباب البيئية، نعرف مثلا الآن أن التدخين هو أحد مسببات السرطان الرئيسية، كذلك التعرُّض للأشعة فوق البنفسجية والأشعة المؤينة والمواد الكيميائية المسرطنة مثل الأسبستوس، ومكونات دخان التبغ، والأفلاتوكسين (ملوث غذائي)، والزرنيخ (ملوث لمياه الشرب)، في المقابل، تضم القائمة الثانية أسبابا وراثية.
لا نقصد هنا أن المرض هو مرض وراثي فقط (وهذا حقيقي في نحو 5% فقط من أسباب السرطان)، لكن نتحدَّث بعمق أكثر عن طبيعة المادة الوراثية، وهنا دعنا نتعلَّم قليلا عما تعنيه تلك المادة، تخيَّل أنها كتاب ضخم به تعليمات لبناء ملايين الأشياء موجود في أنوية كل خلايا جسمك، مثل تعليمات بناء الصفات التي ترثها عن أبيك وأمك مثل لون شعرك وطول عظامك وانحناء أنفك، وتعليمات بناء البروتينات الدقيقة في خلايا جسمك، التي تؤدي كل الوظائف بداية من تحصيل الغذاء واستخدامه إلى الإخراج، وكذلك تعليمات انقسام الخلايا، فخلايا الجسم تنقسم مع الزمن لإحلال الخلايا التي تموت.
الآن لنفترض أنك تعمل ناسخا في إحدى الشركات، ومطلوب منك أن تنسخ أحد أجزاء الموسوعة البريطانية من الورق إلى ملف 'وورد'، هذا ممكن بالطبع، لكن هناك احتمال كبير جدا (بل شبه مؤكد) أنك ستنسخ أحد الحروف بالخطأ (تسمى الطفرة)، ربما ستنقله 'T' بدلا من 'G'، أو تحذفه تماما أو تُضيف حرفا جديدا من عندك بالخطأ، هذا ما يحدث حينما تنقسم الخلايا، فربما ينتقل الحمض النووي بخطأ في أحد حروفه الكيميائية، وهذا يحدث يوميا ملايين المرات، لكن الغالبية العظمى من هذه الأخطاء تكون عادة غير مؤثرة، لكنها تصبح ذات أثر حينما تطلق قدرة الخلايا على النمو بدون آلية لإيقاف ذاتها.
من تلك الوجهة، فإن السرطان ليس إلا احتمال يزداد كلما طال عمرك، المسرطنات تُسرِّع حدوث تلك الطفرات، لكن احتمال أن تحدث من دون تدخُّل وارد، الأسوأ من ذلك أن تلك الطفرات تخلق خلايا ذات طبائع مختلفة، قبل قليل قلنا إن هناك 200 نوع من السرطان، لكن حتى داخل النوع نفسه من السرطان فإن هناك فرصا لتنوُّع هائل بسبب طرق لا حصر لها يمكن أن تحدث خلالها الإصابات السرطانية، لأن الطفرات قد تحدث بشكل مختلف في مريض عن مريض آخر، يعني ذلك أن كل حالة سرطان (كل شخص مريض) لها خصوصية مقارنة بغيرها، ولهذا السبب تحديدا فإن أدوية السرطان لا تنجح مع كل المرضى.
سبب آخر لعدم نجاح الأدوية بسهولة هو أنه حتى داخل الشخص نفسه، فإن الخلايا السرطانية نفسها لا تتشابه، لنفترض مثلا أن أحدهم أُصيب بسرطان الخصية، إذا حصلنا على خلايا هذا الورم وقرَّرنا دراسة حمضها النووي فسنجد أنها تختلف عن بعضها بعضا في جزء من تركيبها الجيني، لأنه مع نمو السرطان تحدث طفرات إضافية، ما يوفِّر سببا آخر لتعقيد فرص العلاج.
ولهذا السبب فإن السرطان في بعض الأحيان يُطوِّر قدرة على مقاومة(5) العلاجات المُستخدَمة، لأنه مع نمو الخلايا السرطانية وطفراتها المستمرة، فإن بعضها لا يستجيب للعلاج بحكم اختلافه عن جيرانه من الخلايا، تستمر هذه الخلايا في الانقسام بغض النظر عن استخدام الأدوية، وتصبح المُمثِّلة للورم كله في مرحلة ما، لذلك بات علاج السرطان حاليا عملا متكاملا، تشارك فيه عدة آليات وتتداخل معا بحيث تمنع فرص المقاومة.
الأسوأ من ذلك كله هو معلومة طالما تعرَّضنا لها منذ اللحظة الأولى التي عرفنا فيها عن السرطان في الكتب والمناهج الدراسية، وهي أن الخلايا السرطانية ببساطة خلايا بشرية عادية، لا تختلف كثيرا عن المحيط بها من الخلايا، حينما تُكتشف الإصابة للمرة الأولى عادة ما يكون عدد الخلايا السرطانية قد تخطى حاجز التريليون، وهنا يبدأ الأطباء باستخدام الأدوية، مثل العلاج الكيماوي.
في تلك النقطة دعنا نتأمل خرافة انتشرت قبل عدة سنوات في الوطن العربي، تقول إن هناك فيتامينا يُدعى 'B17' يمكنه أن يعالج السرطان. يقول مُروِّجو تلك الخرافة إن السرطان وهم صنعته شركات الأدوية لكي تدفع المرضى اليائسين إلى شراء الأدوية منهم، بينما السرطان الحقيقي هو مرض بسيط يمكن لمادة الأميجدالين(6) (ب17) علاجه، ويوجد هذا الفيتامين في عدد من البذور الشهيرة مثل الخوخ.
ما إن انتشرت تلك الأسطورة حتى سارع العديد من مرضى السرطان إلى ترك أدويتهم وبرامجهم العلاجية والبدء في ابتلاع أكبر قدر ممكن من البذور التي تحتوي على تلك المادة، لكن لم يتذكر أحد أن يخبرهم أن أحد منتجات هضم الأميجدالين في المعدة هو المانديلونايترايت الذي بدوره يتحوَّل بعد الهضم إلى عدة مواد كيميائية منها سيانيد الهيدروجين السام حينما يؤخذ بكميات كبيرة.
بيد أن لهذه الخرافة جذورا علمية، حيث حاول مجموعة من العلماء الروس، قبل نحو ثلاثة أرباع قرن، أن يعالجوا بعض حالات السرطان باستخدام هذه المادة، لكنها كانت تقتل الخلايا السرطانية بمعدلات قريبة من قتل الخلايا العادية، وبالتالي فإن كل ما تفعله هو قتل المريض مع الزمن، وليس علاجه، وإن كانت بالفعل تتخلَّص من السرطان.
يقودنا هذا إلى المقارنة بين ما يتطلَّبه علاج إصابة بكتيرية مثلا وعلاج السرطان. الخلايا البكتيرية تختلف في كثير من الأشياء عن الخلايا البشرية، لذا يمكن لك أن تُخلِّق مادة فعالة تستهدف إنزيما محددا أو بروتينا بعينه في جدار خلايا البكتيريا فتقتلها من دون أن تتعرَّض للخلايا البشرية التي لا تحتوي على هذه المكونات، إنه ما نفعله في حالة المبيدات الحشرية أو المواد التي تقتل الذباب أو الناموس بينما لا تضرنا. على مدى عقود عدة، حاول العلماء بدأب شديد توسيع النافذة التي تفصل بين الإضرار بالخلايا الطبيعية ونظيرتها السرطانية، ببطء ومثابرة، كونها بالأصل اختلافات تقبع فقط في المستوى الجيني، وتختلف من سرطان إلى آخر، لكنهم نجحوا في بعض المحاولات وفشلوا في أخرى.
بسبب كل هذا التعقيد، لا تزال الكثير من المشكلات المتعلقة بالسرطان غير مفهومة. في الكثير من السرطانات مثلا لا نعرف بعد لِمَ يُقرِّر السرطان 'الانبثاث' (Metastasis)(7) أو الهجرة من عضو إلى آخر، وحينما يحدث ذلك فإن فرص نجاة المريض تصبح ضعيفة، لا نعرف كيف تتطور بعض السرطانات، لا نعرف بشكل كامل كيف ينمو السرطان ويتمايز ويستخدم أدوات الجسم لتغذية ذاته، الكثير من الأسئلة لا تزال بلا إجابة.
لكن رغم ذلك، فإن الأمر ليس مظلما كما تتصوَّر، المشكلة أن وفاة نجم تلفزيوني أو مُفكِّر ما بالسرطان هو الخبر الذي عادة ما ينتشر في وسائل الإعلام، لكن إلى جانب هذه الحالات فإن ملايين آخرين أُنقذوا من السرطان، لقد تحسَّنت معدلات التعافي من السرطان بشكل ملحوظ خلال العقود القليلة الماضية، مجمل أنواع السرطان قد حصلت على معدل نجاة وصل إلى 67% من المشخَّصين بالمرض في كثير من الدول، وفي سرطانات مثل 'الثدي' و'البروستاتا' و'الغدة الدرقية' تخطَّت نِسَب التعافي حاجز 90% في بعض الدول المتقدِّمة.
لذلك فإن السرطان لم يعد حكما بالإعدام كما ظن الناس في السابق، فقط نحتاج إلى الصبر قليلا. يوما بعد يوم تظهر طرق جديدة للعلاج، البعض يستهدف المناعة، البعض الآخر يستهدف بيئة السرطان، البعض يستهدف الوقاية منه. لن يذهب السرطان بعيدا، لكننا سنتعلَّم كيف نتكيَّف معه، مثلما فعلنا خلال أكثر من ثلاثمئة ألف سنة مضت مع كل مشكلة حلَّت بنا.
الجزيرة نت
كان في البداية كشفا عاديا، عظمة ساق متحجرة لنوع من أسلاف السلاحف المعاصرة اسمه 'بابوكيليز روزينا'، وُجدت جنوبي غرب ألمانيا في منطقة نائية. الحفرية نادرة بالفعل، وقد سعد الفريق البحثي بالحصول عليها، لأنها ساعدت في ملء الجدول الزمني التطوري للسلاحف الحديثة، لكن أحد أفراد الفريق لاحظ شيئا مثيرا للاهتمام: تشوُّه واضح أشبه ما يكون بنمو غير متساوٍ يمتد على طول العظمة.
دفع ذلك بالفريق(1) إلى عمل تحليل أشعة مقطعية دقيق للحفرية، وظهرت المفاجأة، لقد كان هذا التشوُّه نوعا من الورم الغرني العظمي، وهو واحد من أسوأ أنواع السرطان، يستهدف بشكل رئيسي الأطفال والشباب، وغالبا ما تنتقل الإصابة إلى الرئتين، ولكنها قد تنتشر أيضا إلى الدماغ أو الأعضاء أو العظام الأخرى. بوضوح، نحن نتحدَّث هنا عن قاتل متسلسل.
السرطان ببساطة أقدم من الإنسان نفسه، ظهر الإنسان العاقل قبل نحو 300 ألف سنة بحسب حفريات حصلنا عليها من جبل إيغود بالمغرب، قد تطول تلك المدة قليلا، لكننا نعرف أن عمر الجنس الإنساني كله هو نحو 2.3-2.8 مليون سنة، بينما عمر تلك الحفرية يبلغ نحو 240 مليون سنة، إنها أقدم من الديناصورات ذاتها!
يُسميه سيدهارتا موكرجي، وهو طبيب هندي أميركي وكاتب حاصل على جائزة بوليتزر، بإمبراطور المآسي، وهو كذلك فعلا. بين البشر، يُعَدُّ السرطان أحد الأسباب الأساسية للوفاة حول العالم، وحينما نتحدَّث عن احتمالات الإصابة بالسرطان، في الولايات المتحدة على سبيل المثال، وهي نموذج مدروس جيدا ومُعبِّر عن كل العالم تقريبا، فإن هناك فرصة(2) مقدارها 40% تقريبا أن يُصاب شخص ما بأحد أنواع السرطان خلال عمره كله! أعِد القراءة، فالنسبة هي حرفيا ما كُتب (تقريبا واحد من كل اثنين)، بل إن هناك فرصة مقدارها 20% أن يموت شخص ما بسبب السرطان، هذا احتمال يعني 1 من كل 5 أشخاص.
في عام 1971، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية الحرب الرسمية على السرطان بتوقيع الرئيس نيكسون، حدث ذلك في كل العالم على مدى العقود الفائتة، أصبح السرطان هدفا رئيسيا في نطاقات البحث العلمي الطبي، بنوعَيْه التطبيقي (أي المباشر الذي يبحث عن علاج) والأساسي (أي الذي يبحث في الطبيعة البيولوجية للسرطان)، عشرات المليارات من الدولارات ذهبت لهذا النطاق، والعديد من جوائز نوبل ذهبت لهؤلاء الذين سبروا أغوار هذا الإمبراطور القاتل، لكن على الرغم من ذلك، لم نتخلَّص منه بعد
ربما جال السؤال ببالك يوما ما؛ لِمَ لا نتخلَّص من السرطان وينتهي الأمر؟ تخلَّصنا من إصابات قاتلة مثل الطاعون، واجهنا فيروسات مُميتة مثل الحصبة وشلل الأطفال، والآن نُنظِّم حياة المصابين بأمراض ارتفاع ضغط الدم والسكري وحتى الإيدز بصورة ممتازة، لِمَ إذن نقضي كل هذا الوقت مع مرض بتلك الشراسة ولا نصل إلى علاج؟ هل يمكن أن تكون هناك مؤامرة ما؟!
حسنا، للإجابة عن هذا السؤال نحتاج إلى أن نبدأ من تعريف السرطان، فكونه رائجا بهذا الاسم 'السرطان' يوهم الناس أنه مرض واحد، وهو يعني أن تكتسب خلية بشرية ما القدرة على التنامي باستمرار دون توقُّف، ما يُسبِّب تورُّما في مكان ما بالجسم يتسبَّب بدوره في الإضرار المستمر بمحيطه من أجهزة الجسم، وهنا يبدأ دومينو المآسي في الظهور تباعا، لكن الواقع أن السرطان ليس مرضا واحدا بالمعنى المفهوم.
كما أسلفنا، فإن السرطان يبدأ من خلية ما، والجسم البشري يحتوي على نحو 200 نوع من الخلايا، ما يجعلنا نقف بمواجهة 200 نوع من السرطان، هذا يعني بالضبط أن السرطان ليس مرضا واحدا، بل 200 مرض مختلف (منها أكثر من 100 معروفة بالفعل)(3)، كلٌّ منها يحتاج إلى شكل مختلف من أشكال البحث العلمي والتشخيص والعلاج والتعامل الدوائي، والواقع أنك لو قرَّرت ترك النسبة المرعبة التي تحدَّثنا عنها قبل قليل جانبا وبدأت بالبحث عن مخاطر الإصابة بسرطان محدد لوجدت أن النسبة ضئيلة، وهي مثلا 3.86% بالنسبة لسرطان القولون، و0.69% بالنسبة لسرطان المخ، و0.8% بالنسبة لسرطان البلعوم، لكن الفزع الحقيقي يظهر حين تضع هذه النِّسَب الضئيلة مع بعضها.
أسباب السرطان متنوعة(4)، لكنها تنقسم في المجمل إلى قائمتين رئيسيتين، الأولى تضم الأسباب البيئية، نعرف مثلا الآن أن التدخين هو أحد مسببات السرطان الرئيسية، كذلك التعرُّض للأشعة فوق البنفسجية والأشعة المؤينة والمواد الكيميائية المسرطنة مثل الأسبستوس، ومكونات دخان التبغ، والأفلاتوكسين (ملوث غذائي)، والزرنيخ (ملوث لمياه الشرب)، في المقابل، تضم القائمة الثانية أسبابا وراثية.
لا نقصد هنا أن المرض هو مرض وراثي فقط (وهذا حقيقي في نحو 5% فقط من أسباب السرطان)، لكن نتحدَّث بعمق أكثر عن طبيعة المادة الوراثية، وهنا دعنا نتعلَّم قليلا عما تعنيه تلك المادة، تخيَّل أنها كتاب ضخم به تعليمات لبناء ملايين الأشياء موجود في أنوية كل خلايا جسمك، مثل تعليمات بناء الصفات التي ترثها عن أبيك وأمك مثل لون شعرك وطول عظامك وانحناء أنفك، وتعليمات بناء البروتينات الدقيقة في خلايا جسمك، التي تؤدي كل الوظائف بداية من تحصيل الغذاء واستخدامه إلى الإخراج، وكذلك تعليمات انقسام الخلايا، فخلايا الجسم تنقسم مع الزمن لإحلال الخلايا التي تموت.
الآن لنفترض أنك تعمل ناسخا في إحدى الشركات، ومطلوب منك أن تنسخ أحد أجزاء الموسوعة البريطانية من الورق إلى ملف 'وورد'، هذا ممكن بالطبع، لكن هناك احتمال كبير جدا (بل شبه مؤكد) أنك ستنسخ أحد الحروف بالخطأ (تسمى الطفرة)، ربما ستنقله 'T' بدلا من 'G'، أو تحذفه تماما أو تُضيف حرفا جديدا من عندك بالخطأ، هذا ما يحدث حينما تنقسم الخلايا، فربما ينتقل الحمض النووي بخطأ في أحد حروفه الكيميائية، وهذا يحدث يوميا ملايين المرات، لكن الغالبية العظمى من هذه الأخطاء تكون عادة غير مؤثرة، لكنها تصبح ذات أثر حينما تطلق قدرة الخلايا على النمو بدون آلية لإيقاف ذاتها.
من تلك الوجهة، فإن السرطان ليس إلا احتمال يزداد كلما طال عمرك، المسرطنات تُسرِّع حدوث تلك الطفرات، لكن احتمال أن تحدث من دون تدخُّل وارد، الأسوأ من ذلك أن تلك الطفرات تخلق خلايا ذات طبائع مختلفة، قبل قليل قلنا إن هناك 200 نوع من السرطان، لكن حتى داخل النوع نفسه من السرطان فإن هناك فرصا لتنوُّع هائل بسبب طرق لا حصر لها يمكن أن تحدث خلالها الإصابات السرطانية، لأن الطفرات قد تحدث بشكل مختلف في مريض عن مريض آخر، يعني ذلك أن كل حالة سرطان (كل شخص مريض) لها خصوصية مقارنة بغيرها، ولهذا السبب تحديدا فإن أدوية السرطان لا تنجح مع كل المرضى.
سبب آخر لعدم نجاح الأدوية بسهولة هو أنه حتى داخل الشخص نفسه، فإن الخلايا السرطانية نفسها لا تتشابه، لنفترض مثلا أن أحدهم أُصيب بسرطان الخصية، إذا حصلنا على خلايا هذا الورم وقرَّرنا دراسة حمضها النووي فسنجد أنها تختلف عن بعضها بعضا في جزء من تركيبها الجيني، لأنه مع نمو السرطان تحدث طفرات إضافية، ما يوفِّر سببا آخر لتعقيد فرص العلاج.
ولهذا السبب فإن السرطان في بعض الأحيان يُطوِّر قدرة على مقاومة(5) العلاجات المُستخدَمة، لأنه مع نمو الخلايا السرطانية وطفراتها المستمرة، فإن بعضها لا يستجيب للعلاج بحكم اختلافه عن جيرانه من الخلايا، تستمر هذه الخلايا في الانقسام بغض النظر عن استخدام الأدوية، وتصبح المُمثِّلة للورم كله في مرحلة ما، لذلك بات علاج السرطان حاليا عملا متكاملا، تشارك فيه عدة آليات وتتداخل معا بحيث تمنع فرص المقاومة.
الأسوأ من ذلك كله هو معلومة طالما تعرَّضنا لها منذ اللحظة الأولى التي عرفنا فيها عن السرطان في الكتب والمناهج الدراسية، وهي أن الخلايا السرطانية ببساطة خلايا بشرية عادية، لا تختلف كثيرا عن المحيط بها من الخلايا، حينما تُكتشف الإصابة للمرة الأولى عادة ما يكون عدد الخلايا السرطانية قد تخطى حاجز التريليون، وهنا يبدأ الأطباء باستخدام الأدوية، مثل العلاج الكيماوي.
في تلك النقطة دعنا نتأمل خرافة انتشرت قبل عدة سنوات في الوطن العربي، تقول إن هناك فيتامينا يُدعى 'B17' يمكنه أن يعالج السرطان. يقول مُروِّجو تلك الخرافة إن السرطان وهم صنعته شركات الأدوية لكي تدفع المرضى اليائسين إلى شراء الأدوية منهم، بينما السرطان الحقيقي هو مرض بسيط يمكن لمادة الأميجدالين(6) (ب17) علاجه، ويوجد هذا الفيتامين في عدد من البذور الشهيرة مثل الخوخ.
ما إن انتشرت تلك الأسطورة حتى سارع العديد من مرضى السرطان إلى ترك أدويتهم وبرامجهم العلاجية والبدء في ابتلاع أكبر قدر ممكن من البذور التي تحتوي على تلك المادة، لكن لم يتذكر أحد أن يخبرهم أن أحد منتجات هضم الأميجدالين في المعدة هو المانديلونايترايت الذي بدوره يتحوَّل بعد الهضم إلى عدة مواد كيميائية منها سيانيد الهيدروجين السام حينما يؤخذ بكميات كبيرة.
بيد أن لهذه الخرافة جذورا علمية، حيث حاول مجموعة من العلماء الروس، قبل نحو ثلاثة أرباع قرن، أن يعالجوا بعض حالات السرطان باستخدام هذه المادة، لكنها كانت تقتل الخلايا السرطانية بمعدلات قريبة من قتل الخلايا العادية، وبالتالي فإن كل ما تفعله هو قتل المريض مع الزمن، وليس علاجه، وإن كانت بالفعل تتخلَّص من السرطان.
يقودنا هذا إلى المقارنة بين ما يتطلَّبه علاج إصابة بكتيرية مثلا وعلاج السرطان. الخلايا البكتيرية تختلف في كثير من الأشياء عن الخلايا البشرية، لذا يمكن لك أن تُخلِّق مادة فعالة تستهدف إنزيما محددا أو بروتينا بعينه في جدار خلايا البكتيريا فتقتلها من دون أن تتعرَّض للخلايا البشرية التي لا تحتوي على هذه المكونات، إنه ما نفعله في حالة المبيدات الحشرية أو المواد التي تقتل الذباب أو الناموس بينما لا تضرنا. على مدى عقود عدة، حاول العلماء بدأب شديد توسيع النافذة التي تفصل بين الإضرار بالخلايا الطبيعية ونظيرتها السرطانية، ببطء ومثابرة، كونها بالأصل اختلافات تقبع فقط في المستوى الجيني، وتختلف من سرطان إلى آخر، لكنهم نجحوا في بعض المحاولات وفشلوا في أخرى.
بسبب كل هذا التعقيد، لا تزال الكثير من المشكلات المتعلقة بالسرطان غير مفهومة. في الكثير من السرطانات مثلا لا نعرف بعد لِمَ يُقرِّر السرطان 'الانبثاث' (Metastasis)(7) أو الهجرة من عضو إلى آخر، وحينما يحدث ذلك فإن فرص نجاة المريض تصبح ضعيفة، لا نعرف كيف تتطور بعض السرطانات، لا نعرف بشكل كامل كيف ينمو السرطان ويتمايز ويستخدم أدوات الجسم لتغذية ذاته، الكثير من الأسئلة لا تزال بلا إجابة.
لكن رغم ذلك، فإن الأمر ليس مظلما كما تتصوَّر، المشكلة أن وفاة نجم تلفزيوني أو مُفكِّر ما بالسرطان هو الخبر الذي عادة ما ينتشر في وسائل الإعلام، لكن إلى جانب هذه الحالات فإن ملايين آخرين أُنقذوا من السرطان، لقد تحسَّنت معدلات التعافي من السرطان بشكل ملحوظ خلال العقود القليلة الماضية، مجمل أنواع السرطان قد حصلت على معدل نجاة وصل إلى 67% من المشخَّصين بالمرض في كثير من الدول، وفي سرطانات مثل 'الثدي' و'البروستاتا' و'الغدة الدرقية' تخطَّت نِسَب التعافي حاجز 90% في بعض الدول المتقدِّمة.
لذلك فإن السرطان لم يعد حكما بالإعدام كما ظن الناس في السابق، فقط نحتاج إلى الصبر قليلا. يوما بعد يوم تظهر طرق جديدة للعلاج، البعض يستهدف المناعة، البعض الآخر يستهدف بيئة السرطان، البعض يستهدف الوقاية منه. لن يذهب السرطان بعيدا، لكننا سنتعلَّم كيف نتكيَّف معه، مثلما فعلنا خلال أكثر من ثلاثمئة ألف سنة مضت مع كل مشكلة حلَّت بنا.
الجزيرة نت
كان في البداية كشفا عاديا، عظمة ساق متحجرة لنوع من أسلاف السلاحف المعاصرة اسمه 'بابوكيليز روزينا'، وُجدت جنوبي غرب ألمانيا في منطقة نائية. الحفرية نادرة بالفعل، وقد سعد الفريق البحثي بالحصول عليها، لأنها ساعدت في ملء الجدول الزمني التطوري للسلاحف الحديثة، لكن أحد أفراد الفريق لاحظ شيئا مثيرا للاهتمام: تشوُّه واضح أشبه ما يكون بنمو غير متساوٍ يمتد على طول العظمة.
دفع ذلك بالفريق(1) إلى عمل تحليل أشعة مقطعية دقيق للحفرية، وظهرت المفاجأة، لقد كان هذا التشوُّه نوعا من الورم الغرني العظمي، وهو واحد من أسوأ أنواع السرطان، يستهدف بشكل رئيسي الأطفال والشباب، وغالبا ما تنتقل الإصابة إلى الرئتين، ولكنها قد تنتشر أيضا إلى الدماغ أو الأعضاء أو العظام الأخرى. بوضوح، نحن نتحدَّث هنا عن قاتل متسلسل.
السرطان ببساطة أقدم من الإنسان نفسه، ظهر الإنسان العاقل قبل نحو 300 ألف سنة بحسب حفريات حصلنا عليها من جبل إيغود بالمغرب، قد تطول تلك المدة قليلا، لكننا نعرف أن عمر الجنس الإنساني كله هو نحو 2.3-2.8 مليون سنة، بينما عمر تلك الحفرية يبلغ نحو 240 مليون سنة، إنها أقدم من الديناصورات ذاتها!
يُسميه سيدهارتا موكرجي، وهو طبيب هندي أميركي وكاتب حاصل على جائزة بوليتزر، بإمبراطور المآسي، وهو كذلك فعلا. بين البشر، يُعَدُّ السرطان أحد الأسباب الأساسية للوفاة حول العالم، وحينما نتحدَّث عن احتمالات الإصابة بالسرطان، في الولايات المتحدة على سبيل المثال، وهي نموذج مدروس جيدا ومُعبِّر عن كل العالم تقريبا، فإن هناك فرصة(2) مقدارها 40% تقريبا أن يُصاب شخص ما بأحد أنواع السرطان خلال عمره كله! أعِد القراءة، فالنسبة هي حرفيا ما كُتب (تقريبا واحد من كل اثنين)، بل إن هناك فرصة مقدارها 20% أن يموت شخص ما بسبب السرطان، هذا احتمال يعني 1 من كل 5 أشخاص.
في عام 1971، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية الحرب الرسمية على السرطان بتوقيع الرئيس نيكسون، حدث ذلك في كل العالم على مدى العقود الفائتة، أصبح السرطان هدفا رئيسيا في نطاقات البحث العلمي الطبي، بنوعَيْه التطبيقي (أي المباشر الذي يبحث عن علاج) والأساسي (أي الذي يبحث في الطبيعة البيولوجية للسرطان)، عشرات المليارات من الدولارات ذهبت لهذا النطاق، والعديد من جوائز نوبل ذهبت لهؤلاء الذين سبروا أغوار هذا الإمبراطور القاتل، لكن على الرغم من ذلك، لم نتخلَّص منه بعد
ربما جال السؤال ببالك يوما ما؛ لِمَ لا نتخلَّص من السرطان وينتهي الأمر؟ تخلَّصنا من إصابات قاتلة مثل الطاعون، واجهنا فيروسات مُميتة مثل الحصبة وشلل الأطفال، والآن نُنظِّم حياة المصابين بأمراض ارتفاع ضغط الدم والسكري وحتى الإيدز بصورة ممتازة، لِمَ إذن نقضي كل هذا الوقت مع مرض بتلك الشراسة ولا نصل إلى علاج؟ هل يمكن أن تكون هناك مؤامرة ما؟!
حسنا، للإجابة عن هذا السؤال نحتاج إلى أن نبدأ من تعريف السرطان، فكونه رائجا بهذا الاسم 'السرطان' يوهم الناس أنه مرض واحد، وهو يعني أن تكتسب خلية بشرية ما القدرة على التنامي باستمرار دون توقُّف، ما يُسبِّب تورُّما في مكان ما بالجسم يتسبَّب بدوره في الإضرار المستمر بمحيطه من أجهزة الجسم، وهنا يبدأ دومينو المآسي في الظهور تباعا، لكن الواقع أن السرطان ليس مرضا واحدا بالمعنى المفهوم.
كما أسلفنا، فإن السرطان يبدأ من خلية ما، والجسم البشري يحتوي على نحو 200 نوع من الخلايا، ما يجعلنا نقف بمواجهة 200 نوع من السرطان، هذا يعني بالضبط أن السرطان ليس مرضا واحدا، بل 200 مرض مختلف (منها أكثر من 100 معروفة بالفعل)(3)، كلٌّ منها يحتاج إلى شكل مختلف من أشكال البحث العلمي والتشخيص والعلاج والتعامل الدوائي، والواقع أنك لو قرَّرت ترك النسبة المرعبة التي تحدَّثنا عنها قبل قليل جانبا وبدأت بالبحث عن مخاطر الإصابة بسرطان محدد لوجدت أن النسبة ضئيلة، وهي مثلا 3.86% بالنسبة لسرطان القولون، و0.69% بالنسبة لسرطان المخ، و0.8% بالنسبة لسرطان البلعوم، لكن الفزع الحقيقي يظهر حين تضع هذه النِّسَب الضئيلة مع بعضها.
أسباب السرطان متنوعة(4)، لكنها تنقسم في المجمل إلى قائمتين رئيسيتين، الأولى تضم الأسباب البيئية، نعرف مثلا الآن أن التدخين هو أحد مسببات السرطان الرئيسية، كذلك التعرُّض للأشعة فوق البنفسجية والأشعة المؤينة والمواد الكيميائية المسرطنة مثل الأسبستوس، ومكونات دخان التبغ، والأفلاتوكسين (ملوث غذائي)، والزرنيخ (ملوث لمياه الشرب)، في المقابل، تضم القائمة الثانية أسبابا وراثية.
لا نقصد هنا أن المرض هو مرض وراثي فقط (وهذا حقيقي في نحو 5% فقط من أسباب السرطان)، لكن نتحدَّث بعمق أكثر عن طبيعة المادة الوراثية، وهنا دعنا نتعلَّم قليلا عما تعنيه تلك المادة، تخيَّل أنها كتاب ضخم به تعليمات لبناء ملايين الأشياء موجود في أنوية كل خلايا جسمك، مثل تعليمات بناء الصفات التي ترثها عن أبيك وأمك مثل لون شعرك وطول عظامك وانحناء أنفك، وتعليمات بناء البروتينات الدقيقة في خلايا جسمك، التي تؤدي كل الوظائف بداية من تحصيل الغذاء واستخدامه إلى الإخراج، وكذلك تعليمات انقسام الخلايا، فخلايا الجسم تنقسم مع الزمن لإحلال الخلايا التي تموت.
الآن لنفترض أنك تعمل ناسخا في إحدى الشركات، ومطلوب منك أن تنسخ أحد أجزاء الموسوعة البريطانية من الورق إلى ملف 'وورد'، هذا ممكن بالطبع، لكن هناك احتمال كبير جدا (بل شبه مؤكد) أنك ستنسخ أحد الحروف بالخطأ (تسمى الطفرة)، ربما ستنقله 'T' بدلا من 'G'، أو تحذفه تماما أو تُضيف حرفا جديدا من عندك بالخطأ، هذا ما يحدث حينما تنقسم الخلايا، فربما ينتقل الحمض النووي بخطأ في أحد حروفه الكيميائية، وهذا يحدث يوميا ملايين المرات، لكن الغالبية العظمى من هذه الأخطاء تكون عادة غير مؤثرة، لكنها تصبح ذات أثر حينما تطلق قدرة الخلايا على النمو بدون آلية لإيقاف ذاتها.
من تلك الوجهة، فإن السرطان ليس إلا احتمال يزداد كلما طال عمرك، المسرطنات تُسرِّع حدوث تلك الطفرات، لكن احتمال أن تحدث من دون تدخُّل وارد، الأسوأ من ذلك أن تلك الطفرات تخلق خلايا ذات طبائع مختلفة، قبل قليل قلنا إن هناك 200 نوع من السرطان، لكن حتى داخل النوع نفسه من السرطان فإن هناك فرصا لتنوُّع هائل بسبب طرق لا حصر لها يمكن أن تحدث خلالها الإصابات السرطانية، لأن الطفرات قد تحدث بشكل مختلف في مريض عن مريض آخر، يعني ذلك أن كل حالة سرطان (كل شخص مريض) لها خصوصية مقارنة بغيرها، ولهذا السبب تحديدا فإن أدوية السرطان لا تنجح مع كل المرضى.
سبب آخر لعدم نجاح الأدوية بسهولة هو أنه حتى داخل الشخص نفسه، فإن الخلايا السرطانية نفسها لا تتشابه، لنفترض مثلا أن أحدهم أُصيب بسرطان الخصية، إذا حصلنا على خلايا هذا الورم وقرَّرنا دراسة حمضها النووي فسنجد أنها تختلف عن بعضها بعضا في جزء من تركيبها الجيني، لأنه مع نمو السرطان تحدث طفرات إضافية، ما يوفِّر سببا آخر لتعقيد فرص العلاج.
ولهذا السبب فإن السرطان في بعض الأحيان يُطوِّر قدرة على مقاومة(5) العلاجات المُستخدَمة، لأنه مع نمو الخلايا السرطانية وطفراتها المستمرة، فإن بعضها لا يستجيب للعلاج بحكم اختلافه عن جيرانه من الخلايا، تستمر هذه الخلايا في الانقسام بغض النظر عن استخدام الأدوية، وتصبح المُمثِّلة للورم كله في مرحلة ما، لذلك بات علاج السرطان حاليا عملا متكاملا، تشارك فيه عدة آليات وتتداخل معا بحيث تمنع فرص المقاومة.
الأسوأ من ذلك كله هو معلومة طالما تعرَّضنا لها منذ اللحظة الأولى التي عرفنا فيها عن السرطان في الكتب والمناهج الدراسية، وهي أن الخلايا السرطانية ببساطة خلايا بشرية عادية، لا تختلف كثيرا عن المحيط بها من الخلايا، حينما تُكتشف الإصابة للمرة الأولى عادة ما يكون عدد الخلايا السرطانية قد تخطى حاجز التريليون، وهنا يبدأ الأطباء باستخدام الأدوية، مثل العلاج الكيماوي.
في تلك النقطة دعنا نتأمل خرافة انتشرت قبل عدة سنوات في الوطن العربي، تقول إن هناك فيتامينا يُدعى 'B17' يمكنه أن يعالج السرطان. يقول مُروِّجو تلك الخرافة إن السرطان وهم صنعته شركات الأدوية لكي تدفع المرضى اليائسين إلى شراء الأدوية منهم، بينما السرطان الحقيقي هو مرض بسيط يمكن لمادة الأميجدالين(6) (ب17) علاجه، ويوجد هذا الفيتامين في عدد من البذور الشهيرة مثل الخوخ.
ما إن انتشرت تلك الأسطورة حتى سارع العديد من مرضى السرطان إلى ترك أدويتهم وبرامجهم العلاجية والبدء في ابتلاع أكبر قدر ممكن من البذور التي تحتوي على تلك المادة، لكن لم يتذكر أحد أن يخبرهم أن أحد منتجات هضم الأميجدالين في المعدة هو المانديلونايترايت الذي بدوره يتحوَّل بعد الهضم إلى عدة مواد كيميائية منها سيانيد الهيدروجين السام حينما يؤخذ بكميات كبيرة.
بيد أن لهذه الخرافة جذورا علمية، حيث حاول مجموعة من العلماء الروس، قبل نحو ثلاثة أرباع قرن، أن يعالجوا بعض حالات السرطان باستخدام هذه المادة، لكنها كانت تقتل الخلايا السرطانية بمعدلات قريبة من قتل الخلايا العادية، وبالتالي فإن كل ما تفعله هو قتل المريض مع الزمن، وليس علاجه، وإن كانت بالفعل تتخلَّص من السرطان.
يقودنا هذا إلى المقارنة بين ما يتطلَّبه علاج إصابة بكتيرية مثلا وعلاج السرطان. الخلايا البكتيرية تختلف في كثير من الأشياء عن الخلايا البشرية، لذا يمكن لك أن تُخلِّق مادة فعالة تستهدف إنزيما محددا أو بروتينا بعينه في جدار خلايا البكتيريا فتقتلها من دون أن تتعرَّض للخلايا البشرية التي لا تحتوي على هذه المكونات، إنه ما نفعله في حالة المبيدات الحشرية أو المواد التي تقتل الذباب أو الناموس بينما لا تضرنا. على مدى عقود عدة، حاول العلماء بدأب شديد توسيع النافذة التي تفصل بين الإضرار بالخلايا الطبيعية ونظيرتها السرطانية، ببطء ومثابرة، كونها بالأصل اختلافات تقبع فقط في المستوى الجيني، وتختلف من سرطان إلى آخر، لكنهم نجحوا في بعض المحاولات وفشلوا في أخرى.
بسبب كل هذا التعقيد، لا تزال الكثير من المشكلات المتعلقة بالسرطان غير مفهومة. في الكثير من السرطانات مثلا لا نعرف بعد لِمَ يُقرِّر السرطان 'الانبثاث' (Metastasis)(7) أو الهجرة من عضو إلى آخر، وحينما يحدث ذلك فإن فرص نجاة المريض تصبح ضعيفة، لا نعرف كيف تتطور بعض السرطانات، لا نعرف بشكل كامل كيف ينمو السرطان ويتمايز ويستخدم أدوات الجسم لتغذية ذاته، الكثير من الأسئلة لا تزال بلا إجابة.
لكن رغم ذلك، فإن الأمر ليس مظلما كما تتصوَّر، المشكلة أن وفاة نجم تلفزيوني أو مُفكِّر ما بالسرطان هو الخبر الذي عادة ما ينتشر في وسائل الإعلام، لكن إلى جانب هذه الحالات فإن ملايين آخرين أُنقذوا من السرطان، لقد تحسَّنت معدلات التعافي من السرطان بشكل ملحوظ خلال العقود القليلة الماضية، مجمل أنواع السرطان قد حصلت على معدل نجاة وصل إلى 67% من المشخَّصين بالمرض في كثير من الدول، وفي سرطانات مثل 'الثدي' و'البروستاتا' و'الغدة الدرقية' تخطَّت نِسَب التعافي حاجز 90% في بعض الدول المتقدِّمة.
لذلك فإن السرطان لم يعد حكما بالإعدام كما ظن الناس في السابق، فقط نحتاج إلى الصبر قليلا. يوما بعد يوم تظهر طرق جديدة للعلاج، البعض يستهدف المناعة، البعض الآخر يستهدف بيئة السرطان، البعض يستهدف الوقاية منه. لن يذهب السرطان بعيدا، لكننا سنتعلَّم كيف نتكيَّف معه، مثلما فعلنا خلال أكثر من ثلاثمئة ألف سنة مضت مع كل مشكلة حلَّت بنا.
الجزيرة نت
التعليقات