بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
تداعيات السقوط الكبير لعدد من كبار المصارف العالمية بدءاً ببنك سيليكون فالي، ثمَّ سيغنيتشر، وما تبعه من تهديدات لبنوك أوروبية مثل كريدي سويس، ودويتشه بنك، وما قد يتبع ذلك من انكشاف مصرفي لعدد من البنوك الأخرى حول العالم، بما في ذلك المنطقة العربية، والتي ترتبط بعلاقة مصرفية أو استثمارية مع تلك البنوك، جميع ذلك قد يُنبئ بأننا نُطل على مرحلة من التشوهات المالية العالمية، والقصور الزائد في عمل الحكومات حتى في الدول المتقدمة في الجوانب التشريعية والتنظيمية والرقابية، وذلك كله وصفة مركَّبة قد تجعل البعض يؤمن بإمكانية حدوث أزمة عالمية جديدة، تعيد إنعاش وإحياء أزمة المال والائتمان التي فاجأت العالم سنة 2008، بيد أنه أمرٌ مستبعدٌ من وجهة نظري.
وبالرغم ممّا يشهده العالم من إرهاصات تسودها حالة من الهلع، والخوف الشديد من تكرار المأساة العالمية، فإنَّ تلك الإرهاصات هي بمثابة هزة مالية مكانية، محصورة بمكان وموقع ومستوى انكشاف بعض المؤسَّسات المصرفية العالمية التي انكشفت عورات سوء الإدارة فيها، أكثر من أنها تعبّر عن هزة زلزالية مالية ارتجاجية عالمية. المؤسَّسات التي تشهد تحديات كبيرة اليوم في معظمها مؤسَّسات تشكو من سوء تقدير الإدارة التي سعت نحو توظيف الموارد المالية، وخاصة ودائع ومدخرات المتعاملين، في مشتقات مالية ذات الربح السريع والعوائد المرتفعة، ومن ثمَّ الحصول على حوافز كبيرة للإدارة ومجالس الإدارات، على حساب المخاطر الكبيرة التي تكتنف تلك المغامرات المالية.
ولكن سوء تقدير تلك الإدارات وحريتها في اتخاذ قرار الاستثمار لا يعني أن تُترَك تلك المؤسَّسات لتنهار وتختفي بفعل زلزالها المؤسَّسي، خاصة أنَّ الدرس القاسي الذي تعلَّمه العالم من انهيار مصرف ليمن برذرز في العام 2008 ما زال ماثلاً أمام أعين صنّاع القرار في الدول المتقدمة، فانهيار المصارف، مهما كان حجمها، هو بمثابة إنذار مبكر للدول بأنَّ الجهاز المصرفي يعاني من تشوهات، ما يعني أنَّ نظام التسويات المالية، المدفوعات والمقبوضات، محل تهديد، وهو ما يجعل صغار المتعاملين، قبل كبارهم، يشعرون بالرعب على ودائعهم ومدخراتهم وبالتالي تحصيل حقوقهم، من رواتب، ودفعات مالية، وتسويات آجلة، وهو أمرٌ كافٍ لوضع أيِّ اقتصاد على المحك، ومن ثمَّ بثُّ الهلع والهرولة إلى البنوك لسحب الودائع.
والملاحظ ظهور سلوكيات جديدة اليوم لدى من لديهم فوائض نقدية كبيرة في الجهاز المصرفي العالمي من كبار المودعين، عبر البحث عن الملاذات الآمنة بعيداً عن الجهاز المصرفي، وهو ما نتج عنه مضاربات آنية وقتية على الذهب، وحتى على العملات المُشفَّرة وعلى بعض سلع المضاربة في السوق العالمية. عدم الثقة بالنظام المصرفي يشكِّل تحدياً نوعياً كبيراً للحكومات حول العالم، فالجهاز المصرفي هو الوسيط الرئيس لتحريك الاقتصاد، وخلق الوظائف، وتحفيز التوسُّع الاستثماري القائم أو الجديد. فالودائع المصرفية هي الوعاء الحقيقي لتمويل المشاريع وتوسُّعها، ومن ثمَّ التوسُّع في خلق الوظائف، وتحقيق التنمية الاقتصادية، والنمو الحقيقي في دول العالم. ومن هنا هرعت الحكومات، والجهات الرقابية النقدية، في شتى الدول المتأثرة نحو احتواء الأزمات القائمة، وتأكيد تأمين أموال المودعين، وضمان الحصول عليها، ضمن إجراءات لن تطول.
بيد أنَّ ذلك أمر سيخفِّف من حدة هلع المودعين، صغاراً وكباراً، إلا أنه يتطلَّب في الوقت نفسه أدوات جديدة وحاسمة مع الإدارات التنفيذية، ومجالس إدارات المصارف تمنع من التوسُّع في الخروج الكبير عن التقاليد البنكية المعروفة عالمياً، والتي تجعل العمل المصرفي الوسيط الحقيقي والقناة الرسمية لحقن المشاريع الاستثمارية، وتغطية احتياجات المقترضين الحقيقيين، أفراداً وشركات، من احتياجاتهم المالية التنموية الحقيقية. الممارسات المصرفية التنفيذية غير الرصينة كانت سبباً في الأزمة المالية العالمية عام 2008، وهي ذاتها التي عادت للظهور لدى مجموعة البنوك التي انهارت أخيراً، وكأنَّ التاريخ يعيد تصوير مشاهد محدَّدة من ذات السلوكيات الجشعة للمديرين التنفيذيين الباحثين عن حوافزهم المادية الكبيرة، عبر تضخيم حجم العوائد الدفترية من مشتقات مالية غير آمنة، لم تكن يوماً من ضمن محفظة العمل المصرفي الرصين.
البنوك دورها توظيف ودائع العملات في مشاريع مجزية تؤمِّن من خلالها عوائد تسدُّ بها فوائد الودائع التي لديها، وتغطّي مصاريفها الإدارية، وتحقِّق عوائد مالية مناسبة للمساهمين فيها. أمّا أن تتحوَّل أعمال البنوك نحو استخدام أموال المودعين في مضاربات ومغامرات في مشتقات مالية وسندات دين غير آمنة، ليست ذات جدوى اقتصادية حقيقية، ولا تتطلَّب الكثير من الجهد المصرفي القائم على دراسة القروض والمشاريع التي ستمولها، فإنَّ ذلك مغامرة يجب على البنوك المركزية في العالم أن تفطن إليها، وأن تتعامل معها وفق قواعد متشددة، ويكفي هنا أن تضع سقوفاً للاستثمار في هذه المشتقات فحسب، بل لا بدَّ من تجريم اللجوء إلى مشتقات غير مدروسة.
ولعل المطلوب اليوم الوصول إلى اتفاق جديد بين البنوك حول العالم، على غرار اتفاقيات بازل الثلاث، اتفاق عالمي يصدر من بازل لا لكفاية رأس المال، ولكن لضمان الحاكمية والرشد في توظيف أموال المدخرين والمودعين، وضمن قواعد محدد تعيد للجهاز المصرفي العالمي دوره الحقيقي في الوساطة بين المودعين والمقترضين، وضمن قواعد تحدد استخدامات مصادر أموال البنوك في مشتقات بنكية حقيقية ليست ضمن سوق المضاربة والربح السريع والمخاطر الكبيرة.
قد نحتاج فعلاً إلى بازل 4، أكثر قوة من الاتفاقات الثالث السابقة، وأكثر حزماً في التعامل مع الإدارات التنفيذية التي تخرج عن الخط العام، وتدخل في مضاربات ومخاطر كبيرة. البنوك في العالم لا تستطيع أن تحتفظ بودائع العملاء لديها، وإلا باتت كلفة كبيرة عليها، بل من المطلوب أن توظِّف الجزء الأكبر منها، وبنسب تصل بين 70 إلى 90 في المئة من إجمالي محفظة الودائع لديها، وذلك في استخدامات حقيقية تقوم على تمويل قطاعات حقيقية صناعية، وزراعية، وتجارية، وخدمية، وعقارية، وتؤدي من خلالها إلى تنشيط حركة الاقتصاد، وتوفير سيولة للمقترضين الأفراد في المجالات التي يحتاجونها لتمويل غاياتهم الخاصة من شراء المسكن، أو وسائل النقل، أو التعليم، أو غيرها من متطلبات الحياة اليومية المنطقية.
بقي القول: إنَّ توظيف البنوك للودائع في المجالات المختلفة يجعل من أيِّ بنك في العالم غير قادر على الاستجابة السريعة لدفع ودائع العملاء في حال هرع عدد كبير من المودعين لاسترداد أموالهم، وعليه، فإنَّ البنوك المركزية في العالم مطالبة بوضع آلية تكفل للجانبين خروجاً آمناً من معضلة الودائع وتوظيفها. آلية تجعل من أموال المودعين ثروة وطنية يجب الحفاظ عليها، وليس فقط عبر شركات ضمان الودائع التي تغطّي الودائع الصغيرة والمتوسطة فقط، بل آلية تمنع تكرار الممارسات غير الآمنة في توظيف أموال المودعين، وتجعل مهمة حماية الودائع الوطنية ضمن اختصاص ومسؤولية السياسة النقدية للدول، من المهم أن يركن المودعين بأن أموالهم من الودائع، وعلى وجه التحديد بالعملة الوطنية، هي الثروة الوطنية التي تحميها الدولة، وأنها لن تضيع عليهم حتى وإن تعثّر بعض البنوك، وأن استعادتها ستكون دوماً مسألة وقت، حتى حينما تتعرض بعض المصارف لهزات مؤقتة أو ممتدة.
بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
تداعيات السقوط الكبير لعدد من كبار المصارف العالمية بدءاً ببنك سيليكون فالي، ثمَّ سيغنيتشر، وما تبعه من تهديدات لبنوك أوروبية مثل كريدي سويس، ودويتشه بنك، وما قد يتبع ذلك من انكشاف مصرفي لعدد من البنوك الأخرى حول العالم، بما في ذلك المنطقة العربية، والتي ترتبط بعلاقة مصرفية أو استثمارية مع تلك البنوك، جميع ذلك قد يُنبئ بأننا نُطل على مرحلة من التشوهات المالية العالمية، والقصور الزائد في عمل الحكومات حتى في الدول المتقدمة في الجوانب التشريعية والتنظيمية والرقابية، وذلك كله وصفة مركَّبة قد تجعل البعض يؤمن بإمكانية حدوث أزمة عالمية جديدة، تعيد إنعاش وإحياء أزمة المال والائتمان التي فاجأت العالم سنة 2008، بيد أنه أمرٌ مستبعدٌ من وجهة نظري.
وبالرغم ممّا يشهده العالم من إرهاصات تسودها حالة من الهلع، والخوف الشديد من تكرار المأساة العالمية، فإنَّ تلك الإرهاصات هي بمثابة هزة مالية مكانية، محصورة بمكان وموقع ومستوى انكشاف بعض المؤسَّسات المصرفية العالمية التي انكشفت عورات سوء الإدارة فيها، أكثر من أنها تعبّر عن هزة زلزالية مالية ارتجاجية عالمية. المؤسَّسات التي تشهد تحديات كبيرة اليوم في معظمها مؤسَّسات تشكو من سوء تقدير الإدارة التي سعت نحو توظيف الموارد المالية، وخاصة ودائع ومدخرات المتعاملين، في مشتقات مالية ذات الربح السريع والعوائد المرتفعة، ومن ثمَّ الحصول على حوافز كبيرة للإدارة ومجالس الإدارات، على حساب المخاطر الكبيرة التي تكتنف تلك المغامرات المالية.
ولكن سوء تقدير تلك الإدارات وحريتها في اتخاذ قرار الاستثمار لا يعني أن تُترَك تلك المؤسَّسات لتنهار وتختفي بفعل زلزالها المؤسَّسي، خاصة أنَّ الدرس القاسي الذي تعلَّمه العالم من انهيار مصرف ليمن برذرز في العام 2008 ما زال ماثلاً أمام أعين صنّاع القرار في الدول المتقدمة، فانهيار المصارف، مهما كان حجمها، هو بمثابة إنذار مبكر للدول بأنَّ الجهاز المصرفي يعاني من تشوهات، ما يعني أنَّ نظام التسويات المالية، المدفوعات والمقبوضات، محل تهديد، وهو ما يجعل صغار المتعاملين، قبل كبارهم، يشعرون بالرعب على ودائعهم ومدخراتهم وبالتالي تحصيل حقوقهم، من رواتب، ودفعات مالية، وتسويات آجلة، وهو أمرٌ كافٍ لوضع أيِّ اقتصاد على المحك، ومن ثمَّ بثُّ الهلع والهرولة إلى البنوك لسحب الودائع.
والملاحظ ظهور سلوكيات جديدة اليوم لدى من لديهم فوائض نقدية كبيرة في الجهاز المصرفي العالمي من كبار المودعين، عبر البحث عن الملاذات الآمنة بعيداً عن الجهاز المصرفي، وهو ما نتج عنه مضاربات آنية وقتية على الذهب، وحتى على العملات المُشفَّرة وعلى بعض سلع المضاربة في السوق العالمية. عدم الثقة بالنظام المصرفي يشكِّل تحدياً نوعياً كبيراً للحكومات حول العالم، فالجهاز المصرفي هو الوسيط الرئيس لتحريك الاقتصاد، وخلق الوظائف، وتحفيز التوسُّع الاستثماري القائم أو الجديد. فالودائع المصرفية هي الوعاء الحقيقي لتمويل المشاريع وتوسُّعها، ومن ثمَّ التوسُّع في خلق الوظائف، وتحقيق التنمية الاقتصادية، والنمو الحقيقي في دول العالم. ومن هنا هرعت الحكومات، والجهات الرقابية النقدية، في شتى الدول المتأثرة نحو احتواء الأزمات القائمة، وتأكيد تأمين أموال المودعين، وضمان الحصول عليها، ضمن إجراءات لن تطول.
بيد أنَّ ذلك أمر سيخفِّف من حدة هلع المودعين، صغاراً وكباراً، إلا أنه يتطلَّب في الوقت نفسه أدوات جديدة وحاسمة مع الإدارات التنفيذية، ومجالس إدارات المصارف تمنع من التوسُّع في الخروج الكبير عن التقاليد البنكية المعروفة عالمياً، والتي تجعل العمل المصرفي الوسيط الحقيقي والقناة الرسمية لحقن المشاريع الاستثمارية، وتغطية احتياجات المقترضين الحقيقيين، أفراداً وشركات، من احتياجاتهم المالية التنموية الحقيقية. الممارسات المصرفية التنفيذية غير الرصينة كانت سبباً في الأزمة المالية العالمية عام 2008، وهي ذاتها التي عادت للظهور لدى مجموعة البنوك التي انهارت أخيراً، وكأنَّ التاريخ يعيد تصوير مشاهد محدَّدة من ذات السلوكيات الجشعة للمديرين التنفيذيين الباحثين عن حوافزهم المادية الكبيرة، عبر تضخيم حجم العوائد الدفترية من مشتقات مالية غير آمنة، لم تكن يوماً من ضمن محفظة العمل المصرفي الرصين.
البنوك دورها توظيف ودائع العملات في مشاريع مجزية تؤمِّن من خلالها عوائد تسدُّ بها فوائد الودائع التي لديها، وتغطّي مصاريفها الإدارية، وتحقِّق عوائد مالية مناسبة للمساهمين فيها. أمّا أن تتحوَّل أعمال البنوك نحو استخدام أموال المودعين في مضاربات ومغامرات في مشتقات مالية وسندات دين غير آمنة، ليست ذات جدوى اقتصادية حقيقية، ولا تتطلَّب الكثير من الجهد المصرفي القائم على دراسة القروض والمشاريع التي ستمولها، فإنَّ ذلك مغامرة يجب على البنوك المركزية في العالم أن تفطن إليها، وأن تتعامل معها وفق قواعد متشددة، ويكفي هنا أن تضع سقوفاً للاستثمار في هذه المشتقات فحسب، بل لا بدَّ من تجريم اللجوء إلى مشتقات غير مدروسة.
ولعل المطلوب اليوم الوصول إلى اتفاق جديد بين البنوك حول العالم، على غرار اتفاقيات بازل الثلاث، اتفاق عالمي يصدر من بازل لا لكفاية رأس المال، ولكن لضمان الحاكمية والرشد في توظيف أموال المدخرين والمودعين، وضمن قواعد محدد تعيد للجهاز المصرفي العالمي دوره الحقيقي في الوساطة بين المودعين والمقترضين، وضمن قواعد تحدد استخدامات مصادر أموال البنوك في مشتقات بنكية حقيقية ليست ضمن سوق المضاربة والربح السريع والمخاطر الكبيرة.
قد نحتاج فعلاً إلى بازل 4، أكثر قوة من الاتفاقات الثالث السابقة، وأكثر حزماً في التعامل مع الإدارات التنفيذية التي تخرج عن الخط العام، وتدخل في مضاربات ومخاطر كبيرة. البنوك في العالم لا تستطيع أن تحتفظ بودائع العملاء لديها، وإلا باتت كلفة كبيرة عليها، بل من المطلوب أن توظِّف الجزء الأكبر منها، وبنسب تصل بين 70 إلى 90 في المئة من إجمالي محفظة الودائع لديها، وذلك في استخدامات حقيقية تقوم على تمويل قطاعات حقيقية صناعية، وزراعية، وتجارية، وخدمية، وعقارية، وتؤدي من خلالها إلى تنشيط حركة الاقتصاد، وتوفير سيولة للمقترضين الأفراد في المجالات التي يحتاجونها لتمويل غاياتهم الخاصة من شراء المسكن، أو وسائل النقل، أو التعليم، أو غيرها من متطلبات الحياة اليومية المنطقية.
بقي القول: إنَّ توظيف البنوك للودائع في المجالات المختلفة يجعل من أيِّ بنك في العالم غير قادر على الاستجابة السريعة لدفع ودائع العملاء في حال هرع عدد كبير من المودعين لاسترداد أموالهم، وعليه، فإنَّ البنوك المركزية في العالم مطالبة بوضع آلية تكفل للجانبين خروجاً آمناً من معضلة الودائع وتوظيفها. آلية تجعل من أموال المودعين ثروة وطنية يجب الحفاظ عليها، وليس فقط عبر شركات ضمان الودائع التي تغطّي الودائع الصغيرة والمتوسطة فقط، بل آلية تمنع تكرار الممارسات غير الآمنة في توظيف أموال المودعين، وتجعل مهمة حماية الودائع الوطنية ضمن اختصاص ومسؤولية السياسة النقدية للدول، من المهم أن يركن المودعين بأن أموالهم من الودائع، وعلى وجه التحديد بالعملة الوطنية، هي الثروة الوطنية التي تحميها الدولة، وأنها لن تضيع عليهم حتى وإن تعثّر بعض البنوك، وأن استعادتها ستكون دوماً مسألة وقت، حتى حينما تتعرض بعض المصارف لهزات مؤقتة أو ممتدة.
بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
تداعيات السقوط الكبير لعدد من كبار المصارف العالمية بدءاً ببنك سيليكون فالي، ثمَّ سيغنيتشر، وما تبعه من تهديدات لبنوك أوروبية مثل كريدي سويس، ودويتشه بنك، وما قد يتبع ذلك من انكشاف مصرفي لعدد من البنوك الأخرى حول العالم، بما في ذلك المنطقة العربية، والتي ترتبط بعلاقة مصرفية أو استثمارية مع تلك البنوك، جميع ذلك قد يُنبئ بأننا نُطل على مرحلة من التشوهات المالية العالمية، والقصور الزائد في عمل الحكومات حتى في الدول المتقدمة في الجوانب التشريعية والتنظيمية والرقابية، وذلك كله وصفة مركَّبة قد تجعل البعض يؤمن بإمكانية حدوث أزمة عالمية جديدة، تعيد إنعاش وإحياء أزمة المال والائتمان التي فاجأت العالم سنة 2008، بيد أنه أمرٌ مستبعدٌ من وجهة نظري.
وبالرغم ممّا يشهده العالم من إرهاصات تسودها حالة من الهلع، والخوف الشديد من تكرار المأساة العالمية، فإنَّ تلك الإرهاصات هي بمثابة هزة مالية مكانية، محصورة بمكان وموقع ومستوى انكشاف بعض المؤسَّسات المصرفية العالمية التي انكشفت عورات سوء الإدارة فيها، أكثر من أنها تعبّر عن هزة زلزالية مالية ارتجاجية عالمية. المؤسَّسات التي تشهد تحديات كبيرة اليوم في معظمها مؤسَّسات تشكو من سوء تقدير الإدارة التي سعت نحو توظيف الموارد المالية، وخاصة ودائع ومدخرات المتعاملين، في مشتقات مالية ذات الربح السريع والعوائد المرتفعة، ومن ثمَّ الحصول على حوافز كبيرة للإدارة ومجالس الإدارات، على حساب المخاطر الكبيرة التي تكتنف تلك المغامرات المالية.
ولكن سوء تقدير تلك الإدارات وحريتها في اتخاذ قرار الاستثمار لا يعني أن تُترَك تلك المؤسَّسات لتنهار وتختفي بفعل زلزالها المؤسَّسي، خاصة أنَّ الدرس القاسي الذي تعلَّمه العالم من انهيار مصرف ليمن برذرز في العام 2008 ما زال ماثلاً أمام أعين صنّاع القرار في الدول المتقدمة، فانهيار المصارف، مهما كان حجمها، هو بمثابة إنذار مبكر للدول بأنَّ الجهاز المصرفي يعاني من تشوهات، ما يعني أنَّ نظام التسويات المالية، المدفوعات والمقبوضات، محل تهديد، وهو ما يجعل صغار المتعاملين، قبل كبارهم، يشعرون بالرعب على ودائعهم ومدخراتهم وبالتالي تحصيل حقوقهم، من رواتب، ودفعات مالية، وتسويات آجلة، وهو أمرٌ كافٍ لوضع أيِّ اقتصاد على المحك، ومن ثمَّ بثُّ الهلع والهرولة إلى البنوك لسحب الودائع.
والملاحظ ظهور سلوكيات جديدة اليوم لدى من لديهم فوائض نقدية كبيرة في الجهاز المصرفي العالمي من كبار المودعين، عبر البحث عن الملاذات الآمنة بعيداً عن الجهاز المصرفي، وهو ما نتج عنه مضاربات آنية وقتية على الذهب، وحتى على العملات المُشفَّرة وعلى بعض سلع المضاربة في السوق العالمية. عدم الثقة بالنظام المصرفي يشكِّل تحدياً نوعياً كبيراً للحكومات حول العالم، فالجهاز المصرفي هو الوسيط الرئيس لتحريك الاقتصاد، وخلق الوظائف، وتحفيز التوسُّع الاستثماري القائم أو الجديد. فالودائع المصرفية هي الوعاء الحقيقي لتمويل المشاريع وتوسُّعها، ومن ثمَّ التوسُّع في خلق الوظائف، وتحقيق التنمية الاقتصادية، والنمو الحقيقي في دول العالم. ومن هنا هرعت الحكومات، والجهات الرقابية النقدية، في شتى الدول المتأثرة نحو احتواء الأزمات القائمة، وتأكيد تأمين أموال المودعين، وضمان الحصول عليها، ضمن إجراءات لن تطول.
بيد أنَّ ذلك أمر سيخفِّف من حدة هلع المودعين، صغاراً وكباراً، إلا أنه يتطلَّب في الوقت نفسه أدوات جديدة وحاسمة مع الإدارات التنفيذية، ومجالس إدارات المصارف تمنع من التوسُّع في الخروج الكبير عن التقاليد البنكية المعروفة عالمياً، والتي تجعل العمل المصرفي الوسيط الحقيقي والقناة الرسمية لحقن المشاريع الاستثمارية، وتغطية احتياجات المقترضين الحقيقيين، أفراداً وشركات، من احتياجاتهم المالية التنموية الحقيقية. الممارسات المصرفية التنفيذية غير الرصينة كانت سبباً في الأزمة المالية العالمية عام 2008، وهي ذاتها التي عادت للظهور لدى مجموعة البنوك التي انهارت أخيراً، وكأنَّ التاريخ يعيد تصوير مشاهد محدَّدة من ذات السلوكيات الجشعة للمديرين التنفيذيين الباحثين عن حوافزهم المادية الكبيرة، عبر تضخيم حجم العوائد الدفترية من مشتقات مالية غير آمنة، لم تكن يوماً من ضمن محفظة العمل المصرفي الرصين.
البنوك دورها توظيف ودائع العملات في مشاريع مجزية تؤمِّن من خلالها عوائد تسدُّ بها فوائد الودائع التي لديها، وتغطّي مصاريفها الإدارية، وتحقِّق عوائد مالية مناسبة للمساهمين فيها. أمّا أن تتحوَّل أعمال البنوك نحو استخدام أموال المودعين في مضاربات ومغامرات في مشتقات مالية وسندات دين غير آمنة، ليست ذات جدوى اقتصادية حقيقية، ولا تتطلَّب الكثير من الجهد المصرفي القائم على دراسة القروض والمشاريع التي ستمولها، فإنَّ ذلك مغامرة يجب على البنوك المركزية في العالم أن تفطن إليها، وأن تتعامل معها وفق قواعد متشددة، ويكفي هنا أن تضع سقوفاً للاستثمار في هذه المشتقات فحسب، بل لا بدَّ من تجريم اللجوء إلى مشتقات غير مدروسة.
ولعل المطلوب اليوم الوصول إلى اتفاق جديد بين البنوك حول العالم، على غرار اتفاقيات بازل الثلاث، اتفاق عالمي يصدر من بازل لا لكفاية رأس المال، ولكن لضمان الحاكمية والرشد في توظيف أموال المدخرين والمودعين، وضمن قواعد محدد تعيد للجهاز المصرفي العالمي دوره الحقيقي في الوساطة بين المودعين والمقترضين، وضمن قواعد تحدد استخدامات مصادر أموال البنوك في مشتقات بنكية حقيقية ليست ضمن سوق المضاربة والربح السريع والمخاطر الكبيرة.
قد نحتاج فعلاً إلى بازل 4، أكثر قوة من الاتفاقات الثالث السابقة، وأكثر حزماً في التعامل مع الإدارات التنفيذية التي تخرج عن الخط العام، وتدخل في مضاربات ومخاطر كبيرة. البنوك في العالم لا تستطيع أن تحتفظ بودائع العملاء لديها، وإلا باتت كلفة كبيرة عليها، بل من المطلوب أن توظِّف الجزء الأكبر منها، وبنسب تصل بين 70 إلى 90 في المئة من إجمالي محفظة الودائع لديها، وذلك في استخدامات حقيقية تقوم على تمويل قطاعات حقيقية صناعية، وزراعية، وتجارية، وخدمية، وعقارية، وتؤدي من خلالها إلى تنشيط حركة الاقتصاد، وتوفير سيولة للمقترضين الأفراد في المجالات التي يحتاجونها لتمويل غاياتهم الخاصة من شراء المسكن، أو وسائل النقل، أو التعليم، أو غيرها من متطلبات الحياة اليومية المنطقية.
بقي القول: إنَّ توظيف البنوك للودائع في المجالات المختلفة يجعل من أيِّ بنك في العالم غير قادر على الاستجابة السريعة لدفع ودائع العملاء في حال هرع عدد كبير من المودعين لاسترداد أموالهم، وعليه، فإنَّ البنوك المركزية في العالم مطالبة بوضع آلية تكفل للجانبين خروجاً آمناً من معضلة الودائع وتوظيفها. آلية تجعل من أموال المودعين ثروة وطنية يجب الحفاظ عليها، وليس فقط عبر شركات ضمان الودائع التي تغطّي الودائع الصغيرة والمتوسطة فقط، بل آلية تمنع تكرار الممارسات غير الآمنة في توظيف أموال المودعين، وتجعل مهمة حماية الودائع الوطنية ضمن اختصاص ومسؤولية السياسة النقدية للدول، من المهم أن يركن المودعين بأن أموالهم من الودائع، وعلى وجه التحديد بالعملة الوطنية، هي الثروة الوطنية التي تحميها الدولة، وأنها لن تضيع عليهم حتى وإن تعثّر بعض البنوك، وأن استعادتها ستكون دوماً مسألة وقت، حتى حينما تتعرض بعض المصارف لهزات مؤقتة أو ممتدة.
التعليقات