كتب وزير الإعلام السابق فيصل الشبول
كلما نشبت حرب في المنطقة منذ نحو ثلاثة عقود تُخرج الولايات المتحدة من أدراج خارجيتها ملف حل الدولتين، حتى إذا عقدت هدنة أو انجلى غبار فإنها تعيده إلى مكانه في الأدراج المغلقة.
اتخذت الولايات المتحدة، وكما هو متوقع، موقفاً إلى جانب إسرائيل ودعم عمليتها العسكرية في قطاع غزة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. وحشدت أساطيلها لردع أي طرف ثالث قد «يزعج» إسرائيل، وتولى الرئيس الأميركي شخصياً حشد الدعم والتفويض بلا حدود حتى وإن وقع في زلات مثل «تقطيع رؤوس الأطفال» أو تبرئة نتنياهو من «مذبحة» المستشفى المعمداني، واستغلته إسرائيل لتدمير غزة فوق رؤوس الأبرياء ولا سيما الأطفال.
«حق الدفاع عن النفس» يعطى فقط لإسرائيل ولا يعطى للفلسطينيين منذ 75 عاماً وهم يواجهون احتلالاً بغيضاً يعتدي كل يوم ويواصل سياسات القتل والتنكيل والاستيطان والتهويد وتدنيس المقدسات، ويحرم الفلسطينيين من حقهم في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني.
يسأل الأميركيون دوماً عن أسباب كراهية المواطنين العرب لسياسات الولايات المتحدة، وأظن أنهم يطرحون السؤال ذاته في معظم دول العالم.
تتحدث الولايات المتحدة دوماً عن القانون الدولي والديمقراطية وحقوق الإنسان وتستخدم كل هذه العناوين أسلحةً في وجه حلفائها وخصومها على السواء، حتى إذا تعرّضت لأي تهديد فتصبح تلك القيم بلا معنى، أما إذا تعرضت إسرائيل للتهديد فإنها تخالف كل شعاراتها علناً ومن دون أي تحفظ.
أثبتت الأزمة الأخيرة في غزة والموقف الأميركي المتشدد منها مسألتين: الأولى، أن الولايات المتحدة لم تتعلم من دروس الماضي القريب من أن القوة ليست حلاً لأي صراع ولن تكون. أما الأخرى، فإن الكراهية للولايات المتحدة تزداد، وربما ستدفع ثمنها في المستقبل.
اندفع قادة أكبر أربع دول أوروبية وراء الرئيس الأميركي واتخذت الدول الخمس الموقف ذاته. موقف أوروبا بات مفهوماً بالنظر لهواجسها الاقتصادية والأمنية جراء الأزمة الروسية - الأوكرانية وربما لحاجتها مستقبلاً إلى مشروع مارشال أميركي جديد.
تدعم الولايات المتحدة الحرب الإسرائيلية المدمرة ثم تتحدث عن حل الدولتين من دون أن يرسم مسؤول أميركي واحد على مدى أكثر من ثلاثة عقود أي حدود ولو وهمية بين الدولتين.
السؤال الذي لم تجب عليه الولايات المتحدة: عن أي دولتين تتحدثون بعد أن عزلتم روسيا والأوروبيين والأمم المتحدة عن الملف؟
حل الدولتين رواية تتبناها الولايات المتحدة في العلن إبان كل أزمة تواجهها أو تتسبب بها أو ترعاها في المنطقة ثم تتنصل منها في اليوم التالي لتقول إن مسائل الحل النهائي هي بيد الأطراف المعنية... أي بيد إسرائيل.
في يقيني، أن حل الدولتين بالنسبة للولايات المتحدة يعني ما يلي: دولة قوية عسكرياً واقتصادياً ولا أخلاقياً اسمها إسرائيل، ودولة افتراضية ليس لها حدود ولا سيادة وغير قابلة للحياة اسمها فلسطين.
تظهر الولايات المتحدة عداءً علنياً لإيران باعتبارها راعيةً للإرهاب في المنطقة بدليل دعمها للطائفية في العراق ولبنان واليمن وسوريا ووجودها على الأرض في تلك الدول العربية.
وتدعم هذا الموقف تصريحات من سياسيين وقادة تنظيمات في الدول الأربع تعترف بالتمويل والتسليح الإيراني. وهو أمرٌ بات مُعلناً وواضحاً في المنطقة وخارجها.
لكن الولايات المتحدة تنسى أسباب التمدد الإيراني في المنطقة.
بذريعة امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل (بعد غزو الكويت بثلاثة عشر عاماً) دمرت الولايات المتحدة العراق وجعلته ساحةً مستباحة لإيران، تحقق فيه طموحاتٍ تاريخية وعقائدية واستراتيجية. كذلك، فقد أدارت ظهرها لحلفائها العرب وأهملت ملف التسوية السياسية وصمتت عن سياسات الاستيطان والتهويد واقتحامات المقدسات الإسلامية والمسيحية والقتل اليومي للفلسطينيين في تفويضٍ غير مشروط للمتطرفين الإسرائيليين وعلى رأسهم نتنياهو وبن غفير وسموتريتش.
إذن، فحل الدولتين هو إبرة تخدير أميركية للعرب والفلسطينيين الذين ينتظرون الحل السياسي في حين يُحرم أطفال غزة من العلاج وإبر التخدير الضرورية للمداخلات الجراحية.
أمام هذا الواقع المرير ولأسباب تتعلق بالظروف الدولية الراهنة، بدت مواقف روسيا والصين بلا أي وزن رادع لما يجري.
لقد تابعت الصين وروسيا والعالم كله الحشد السياسي والعسكري الأميركي والأوروبي الداعم لإسرائيل وكذلك تصريحات وزير الخارجية الأميركي الذي لم يأت إلى إسرائيل بهذه الصفة فحسب، بل ولأنه يهودي دون أن تحرك أي منهما ساكناً للتذكير بالقواعد الأخلاقية وذلك أضعف الإيمان.
قدمت الدول العربية روايةً متماسكة إلى العالم وإلى الولايات المتحدة تحديداً تقوم على أنها تدين كل الجرائم التي تستهدف المدنيين كمدخل للمطالبة بوقف المجازر الإسرائيلية.
ظهر الصوت العربي مقنعاً في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. الجمعية العامة اتخذت القرار لكنها لا تمتلك الأدوات للتنفيذ.
تباين رد الفعل العربي الرسمي إزاء أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، فـ«حماس» لم تنسق مع أي طرفٍ عربي وقامت بعملية نوعية لم تواجه إسرائيل صدمة أو إهانة مثلها في الماضي، لكن ليس لـ«حماس» علاقات ودية مع معظم الدول العربية ولا مع السلطة الوطنية الفلسطينية وهي تتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية الانقسام الفلسطيني.
لم تنل عملية «حماس» تأييداً رسمياً، لكن ومع رد الفعل الأميركي والإسرائيلي والأوروبي وعمليات الانتقام والهستيريا ظهر الصوت العربي مذكّراً العالم بأن ما جرى ليس سوى أعراض للقضية الأساسية وهي الاحتلال الإسرائيلي.
لم تتعلم الولايات المتحدة من دروس المنطقة، ولن تتعلم هذه المرة.
الدروس كثيرة ومنها العراق ولبنان؛ إذ لم يتعافَ العراق منذ عام 2003 عندما دمّرته الولايات المتحدة ثم تركته نهباً للتنظيمات وإيران والتطرف... «داعش» كان أوضح مثال. أما لبنان فقد احتلت إسرائيل نصفه ووصلت إلى بيروت تخريباً ودماراً وقتلاً... لم يكن «حزب الله» موجوداً في عام 1982، لكنه نشأ بعد تلك الحرب المدمرة وتعتبره إسرائيل اليوم عدواً متربصاً وخندقاً متقدماً لإيران.
أفغانستان كانت آخر خيبات الولايات المتحدة وسوء حساباتها مثلما ستكون الحرب الروسية - الأوكرانية خيبة لأوروبا.
ستسفر هذه الحرب عن كثير من القتل والدمار والظلم والآلام والقهر. ستغيب وجوه وتيارات وستظهر أخرى لن تقبل بالضعف أو الاستسلام لأن الحقوق غير القابلة للتصرف لا تمحوها القوة الغاشمة.
قبل ثلاثين عاماً كان الحالمون الفلسطينيون والعرب منشغلين بالاتصال الجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وظهرت أفكار عديدة، من بينها الأنفاق والجسور والأسوار.
عادت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون منذ السابع من أكتوبر للحديث عن حل الدولتين. ليس في العالم دولة تخالف هذا المبدأ سوى إسرائيل، فما المانع من تطبيقه إذن؟
ستتذرع الولايات المتحدة بالانتخابات، وستنكفئ أوروبا من جديد. سيتفرغون للتركيز على الأزمة الأوكرانية - الروسية.
كل ما ستفعله الولايات المتحدة بعد دمار غزة أنها ستقود «جهوداً إنسانية» لإيصال الغذاء والدواء اللذين سيصلان متأخرين، لإيواء المهجرين والنازحين والأيتام والمشوهين بعد أن أنهكتهم آلة القتل الإسرائيلية.
سيقف طفلٌ فلسطيني فقد أسرته أو شوهته آلة الحرب الإسرائيلية، وسيقف معه أطفالٌ عرب كثيرون وربما كثير من أصدقائهم من ضحايا السياسات الغربية وسيرفضون أي حجة أو تبرير أو اعتذار.
هؤلاء لن يجلسوا إلى طاولة الغرب وسيقاومون المحتل بكل الوسائل المتاحة... وستتيح التكنولوجيا الحديثة الكثير منها في المستقبل. وستقول الولايات المتحدة إن الحل النهائي هو بيد الأطراف المعنية... بيد إسرائيل.
نقلا عن 'الشرق الأوسط'
كتب وزير الإعلام السابق فيصل الشبول
كلما نشبت حرب في المنطقة منذ نحو ثلاثة عقود تُخرج الولايات المتحدة من أدراج خارجيتها ملف حل الدولتين، حتى إذا عقدت هدنة أو انجلى غبار فإنها تعيده إلى مكانه في الأدراج المغلقة.
اتخذت الولايات المتحدة، وكما هو متوقع، موقفاً إلى جانب إسرائيل ودعم عمليتها العسكرية في قطاع غزة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. وحشدت أساطيلها لردع أي طرف ثالث قد «يزعج» إسرائيل، وتولى الرئيس الأميركي شخصياً حشد الدعم والتفويض بلا حدود حتى وإن وقع في زلات مثل «تقطيع رؤوس الأطفال» أو تبرئة نتنياهو من «مذبحة» المستشفى المعمداني، واستغلته إسرائيل لتدمير غزة فوق رؤوس الأبرياء ولا سيما الأطفال.
«حق الدفاع عن النفس» يعطى فقط لإسرائيل ولا يعطى للفلسطينيين منذ 75 عاماً وهم يواجهون احتلالاً بغيضاً يعتدي كل يوم ويواصل سياسات القتل والتنكيل والاستيطان والتهويد وتدنيس المقدسات، ويحرم الفلسطينيين من حقهم في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني.
يسأل الأميركيون دوماً عن أسباب كراهية المواطنين العرب لسياسات الولايات المتحدة، وأظن أنهم يطرحون السؤال ذاته في معظم دول العالم.
تتحدث الولايات المتحدة دوماً عن القانون الدولي والديمقراطية وحقوق الإنسان وتستخدم كل هذه العناوين أسلحةً في وجه حلفائها وخصومها على السواء، حتى إذا تعرّضت لأي تهديد فتصبح تلك القيم بلا معنى، أما إذا تعرضت إسرائيل للتهديد فإنها تخالف كل شعاراتها علناً ومن دون أي تحفظ.
أثبتت الأزمة الأخيرة في غزة والموقف الأميركي المتشدد منها مسألتين: الأولى، أن الولايات المتحدة لم تتعلم من دروس الماضي القريب من أن القوة ليست حلاً لأي صراع ولن تكون. أما الأخرى، فإن الكراهية للولايات المتحدة تزداد، وربما ستدفع ثمنها في المستقبل.
اندفع قادة أكبر أربع دول أوروبية وراء الرئيس الأميركي واتخذت الدول الخمس الموقف ذاته. موقف أوروبا بات مفهوماً بالنظر لهواجسها الاقتصادية والأمنية جراء الأزمة الروسية - الأوكرانية وربما لحاجتها مستقبلاً إلى مشروع مارشال أميركي جديد.
تدعم الولايات المتحدة الحرب الإسرائيلية المدمرة ثم تتحدث عن حل الدولتين من دون أن يرسم مسؤول أميركي واحد على مدى أكثر من ثلاثة عقود أي حدود ولو وهمية بين الدولتين.
السؤال الذي لم تجب عليه الولايات المتحدة: عن أي دولتين تتحدثون بعد أن عزلتم روسيا والأوروبيين والأمم المتحدة عن الملف؟
حل الدولتين رواية تتبناها الولايات المتحدة في العلن إبان كل أزمة تواجهها أو تتسبب بها أو ترعاها في المنطقة ثم تتنصل منها في اليوم التالي لتقول إن مسائل الحل النهائي هي بيد الأطراف المعنية... أي بيد إسرائيل.
في يقيني، أن حل الدولتين بالنسبة للولايات المتحدة يعني ما يلي: دولة قوية عسكرياً واقتصادياً ولا أخلاقياً اسمها إسرائيل، ودولة افتراضية ليس لها حدود ولا سيادة وغير قابلة للحياة اسمها فلسطين.
تظهر الولايات المتحدة عداءً علنياً لإيران باعتبارها راعيةً للإرهاب في المنطقة بدليل دعمها للطائفية في العراق ولبنان واليمن وسوريا ووجودها على الأرض في تلك الدول العربية.
وتدعم هذا الموقف تصريحات من سياسيين وقادة تنظيمات في الدول الأربع تعترف بالتمويل والتسليح الإيراني. وهو أمرٌ بات مُعلناً وواضحاً في المنطقة وخارجها.
لكن الولايات المتحدة تنسى أسباب التمدد الإيراني في المنطقة.
بذريعة امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل (بعد غزو الكويت بثلاثة عشر عاماً) دمرت الولايات المتحدة العراق وجعلته ساحةً مستباحة لإيران، تحقق فيه طموحاتٍ تاريخية وعقائدية واستراتيجية. كذلك، فقد أدارت ظهرها لحلفائها العرب وأهملت ملف التسوية السياسية وصمتت عن سياسات الاستيطان والتهويد واقتحامات المقدسات الإسلامية والمسيحية والقتل اليومي للفلسطينيين في تفويضٍ غير مشروط للمتطرفين الإسرائيليين وعلى رأسهم نتنياهو وبن غفير وسموتريتش.
إذن، فحل الدولتين هو إبرة تخدير أميركية للعرب والفلسطينيين الذين ينتظرون الحل السياسي في حين يُحرم أطفال غزة من العلاج وإبر التخدير الضرورية للمداخلات الجراحية.
أمام هذا الواقع المرير ولأسباب تتعلق بالظروف الدولية الراهنة، بدت مواقف روسيا والصين بلا أي وزن رادع لما يجري.
لقد تابعت الصين وروسيا والعالم كله الحشد السياسي والعسكري الأميركي والأوروبي الداعم لإسرائيل وكذلك تصريحات وزير الخارجية الأميركي الذي لم يأت إلى إسرائيل بهذه الصفة فحسب، بل ولأنه يهودي دون أن تحرك أي منهما ساكناً للتذكير بالقواعد الأخلاقية وذلك أضعف الإيمان.
قدمت الدول العربية روايةً متماسكة إلى العالم وإلى الولايات المتحدة تحديداً تقوم على أنها تدين كل الجرائم التي تستهدف المدنيين كمدخل للمطالبة بوقف المجازر الإسرائيلية.
ظهر الصوت العربي مقنعاً في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. الجمعية العامة اتخذت القرار لكنها لا تمتلك الأدوات للتنفيذ.
تباين رد الفعل العربي الرسمي إزاء أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، فـ«حماس» لم تنسق مع أي طرفٍ عربي وقامت بعملية نوعية لم تواجه إسرائيل صدمة أو إهانة مثلها في الماضي، لكن ليس لـ«حماس» علاقات ودية مع معظم الدول العربية ولا مع السلطة الوطنية الفلسطينية وهي تتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية الانقسام الفلسطيني.
لم تنل عملية «حماس» تأييداً رسمياً، لكن ومع رد الفعل الأميركي والإسرائيلي والأوروبي وعمليات الانتقام والهستيريا ظهر الصوت العربي مذكّراً العالم بأن ما جرى ليس سوى أعراض للقضية الأساسية وهي الاحتلال الإسرائيلي.
لم تتعلم الولايات المتحدة من دروس المنطقة، ولن تتعلم هذه المرة.
الدروس كثيرة ومنها العراق ولبنان؛ إذ لم يتعافَ العراق منذ عام 2003 عندما دمّرته الولايات المتحدة ثم تركته نهباً للتنظيمات وإيران والتطرف... «داعش» كان أوضح مثال. أما لبنان فقد احتلت إسرائيل نصفه ووصلت إلى بيروت تخريباً ودماراً وقتلاً... لم يكن «حزب الله» موجوداً في عام 1982، لكنه نشأ بعد تلك الحرب المدمرة وتعتبره إسرائيل اليوم عدواً متربصاً وخندقاً متقدماً لإيران.
أفغانستان كانت آخر خيبات الولايات المتحدة وسوء حساباتها مثلما ستكون الحرب الروسية - الأوكرانية خيبة لأوروبا.
ستسفر هذه الحرب عن كثير من القتل والدمار والظلم والآلام والقهر. ستغيب وجوه وتيارات وستظهر أخرى لن تقبل بالضعف أو الاستسلام لأن الحقوق غير القابلة للتصرف لا تمحوها القوة الغاشمة.
قبل ثلاثين عاماً كان الحالمون الفلسطينيون والعرب منشغلين بالاتصال الجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وظهرت أفكار عديدة، من بينها الأنفاق والجسور والأسوار.
عادت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون منذ السابع من أكتوبر للحديث عن حل الدولتين. ليس في العالم دولة تخالف هذا المبدأ سوى إسرائيل، فما المانع من تطبيقه إذن؟
ستتذرع الولايات المتحدة بالانتخابات، وستنكفئ أوروبا من جديد. سيتفرغون للتركيز على الأزمة الأوكرانية - الروسية.
كل ما ستفعله الولايات المتحدة بعد دمار غزة أنها ستقود «جهوداً إنسانية» لإيصال الغذاء والدواء اللذين سيصلان متأخرين، لإيواء المهجرين والنازحين والأيتام والمشوهين بعد أن أنهكتهم آلة القتل الإسرائيلية.
سيقف طفلٌ فلسطيني فقد أسرته أو شوهته آلة الحرب الإسرائيلية، وسيقف معه أطفالٌ عرب كثيرون وربما كثير من أصدقائهم من ضحايا السياسات الغربية وسيرفضون أي حجة أو تبرير أو اعتذار.
هؤلاء لن يجلسوا إلى طاولة الغرب وسيقاومون المحتل بكل الوسائل المتاحة... وستتيح التكنولوجيا الحديثة الكثير منها في المستقبل. وستقول الولايات المتحدة إن الحل النهائي هو بيد الأطراف المعنية... بيد إسرائيل.
نقلا عن 'الشرق الأوسط'
كتب وزير الإعلام السابق فيصل الشبول
كلما نشبت حرب في المنطقة منذ نحو ثلاثة عقود تُخرج الولايات المتحدة من أدراج خارجيتها ملف حل الدولتين، حتى إذا عقدت هدنة أو انجلى غبار فإنها تعيده إلى مكانه في الأدراج المغلقة.
اتخذت الولايات المتحدة، وكما هو متوقع، موقفاً إلى جانب إسرائيل ودعم عمليتها العسكرية في قطاع غزة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. وحشدت أساطيلها لردع أي طرف ثالث قد «يزعج» إسرائيل، وتولى الرئيس الأميركي شخصياً حشد الدعم والتفويض بلا حدود حتى وإن وقع في زلات مثل «تقطيع رؤوس الأطفال» أو تبرئة نتنياهو من «مذبحة» المستشفى المعمداني، واستغلته إسرائيل لتدمير غزة فوق رؤوس الأبرياء ولا سيما الأطفال.
«حق الدفاع عن النفس» يعطى فقط لإسرائيل ولا يعطى للفلسطينيين منذ 75 عاماً وهم يواجهون احتلالاً بغيضاً يعتدي كل يوم ويواصل سياسات القتل والتنكيل والاستيطان والتهويد وتدنيس المقدسات، ويحرم الفلسطينيين من حقهم في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني.
يسأل الأميركيون دوماً عن أسباب كراهية المواطنين العرب لسياسات الولايات المتحدة، وأظن أنهم يطرحون السؤال ذاته في معظم دول العالم.
تتحدث الولايات المتحدة دوماً عن القانون الدولي والديمقراطية وحقوق الإنسان وتستخدم كل هذه العناوين أسلحةً في وجه حلفائها وخصومها على السواء، حتى إذا تعرّضت لأي تهديد فتصبح تلك القيم بلا معنى، أما إذا تعرضت إسرائيل للتهديد فإنها تخالف كل شعاراتها علناً ومن دون أي تحفظ.
أثبتت الأزمة الأخيرة في غزة والموقف الأميركي المتشدد منها مسألتين: الأولى، أن الولايات المتحدة لم تتعلم من دروس الماضي القريب من أن القوة ليست حلاً لأي صراع ولن تكون. أما الأخرى، فإن الكراهية للولايات المتحدة تزداد، وربما ستدفع ثمنها في المستقبل.
اندفع قادة أكبر أربع دول أوروبية وراء الرئيس الأميركي واتخذت الدول الخمس الموقف ذاته. موقف أوروبا بات مفهوماً بالنظر لهواجسها الاقتصادية والأمنية جراء الأزمة الروسية - الأوكرانية وربما لحاجتها مستقبلاً إلى مشروع مارشال أميركي جديد.
تدعم الولايات المتحدة الحرب الإسرائيلية المدمرة ثم تتحدث عن حل الدولتين من دون أن يرسم مسؤول أميركي واحد على مدى أكثر من ثلاثة عقود أي حدود ولو وهمية بين الدولتين.
السؤال الذي لم تجب عليه الولايات المتحدة: عن أي دولتين تتحدثون بعد أن عزلتم روسيا والأوروبيين والأمم المتحدة عن الملف؟
حل الدولتين رواية تتبناها الولايات المتحدة في العلن إبان كل أزمة تواجهها أو تتسبب بها أو ترعاها في المنطقة ثم تتنصل منها في اليوم التالي لتقول إن مسائل الحل النهائي هي بيد الأطراف المعنية... أي بيد إسرائيل.
في يقيني، أن حل الدولتين بالنسبة للولايات المتحدة يعني ما يلي: دولة قوية عسكرياً واقتصادياً ولا أخلاقياً اسمها إسرائيل، ودولة افتراضية ليس لها حدود ولا سيادة وغير قابلة للحياة اسمها فلسطين.
تظهر الولايات المتحدة عداءً علنياً لإيران باعتبارها راعيةً للإرهاب في المنطقة بدليل دعمها للطائفية في العراق ولبنان واليمن وسوريا ووجودها على الأرض في تلك الدول العربية.
وتدعم هذا الموقف تصريحات من سياسيين وقادة تنظيمات في الدول الأربع تعترف بالتمويل والتسليح الإيراني. وهو أمرٌ بات مُعلناً وواضحاً في المنطقة وخارجها.
لكن الولايات المتحدة تنسى أسباب التمدد الإيراني في المنطقة.
بذريعة امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل (بعد غزو الكويت بثلاثة عشر عاماً) دمرت الولايات المتحدة العراق وجعلته ساحةً مستباحة لإيران، تحقق فيه طموحاتٍ تاريخية وعقائدية واستراتيجية. كذلك، فقد أدارت ظهرها لحلفائها العرب وأهملت ملف التسوية السياسية وصمتت عن سياسات الاستيطان والتهويد واقتحامات المقدسات الإسلامية والمسيحية والقتل اليومي للفلسطينيين في تفويضٍ غير مشروط للمتطرفين الإسرائيليين وعلى رأسهم نتنياهو وبن غفير وسموتريتش.
إذن، فحل الدولتين هو إبرة تخدير أميركية للعرب والفلسطينيين الذين ينتظرون الحل السياسي في حين يُحرم أطفال غزة من العلاج وإبر التخدير الضرورية للمداخلات الجراحية.
أمام هذا الواقع المرير ولأسباب تتعلق بالظروف الدولية الراهنة، بدت مواقف روسيا والصين بلا أي وزن رادع لما يجري.
لقد تابعت الصين وروسيا والعالم كله الحشد السياسي والعسكري الأميركي والأوروبي الداعم لإسرائيل وكذلك تصريحات وزير الخارجية الأميركي الذي لم يأت إلى إسرائيل بهذه الصفة فحسب، بل ولأنه يهودي دون أن تحرك أي منهما ساكناً للتذكير بالقواعد الأخلاقية وذلك أضعف الإيمان.
قدمت الدول العربية روايةً متماسكة إلى العالم وإلى الولايات المتحدة تحديداً تقوم على أنها تدين كل الجرائم التي تستهدف المدنيين كمدخل للمطالبة بوقف المجازر الإسرائيلية.
ظهر الصوت العربي مقنعاً في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. الجمعية العامة اتخذت القرار لكنها لا تمتلك الأدوات للتنفيذ.
تباين رد الفعل العربي الرسمي إزاء أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، فـ«حماس» لم تنسق مع أي طرفٍ عربي وقامت بعملية نوعية لم تواجه إسرائيل صدمة أو إهانة مثلها في الماضي، لكن ليس لـ«حماس» علاقات ودية مع معظم الدول العربية ولا مع السلطة الوطنية الفلسطينية وهي تتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية الانقسام الفلسطيني.
لم تنل عملية «حماس» تأييداً رسمياً، لكن ومع رد الفعل الأميركي والإسرائيلي والأوروبي وعمليات الانتقام والهستيريا ظهر الصوت العربي مذكّراً العالم بأن ما جرى ليس سوى أعراض للقضية الأساسية وهي الاحتلال الإسرائيلي.
لم تتعلم الولايات المتحدة من دروس المنطقة، ولن تتعلم هذه المرة.
الدروس كثيرة ومنها العراق ولبنان؛ إذ لم يتعافَ العراق منذ عام 2003 عندما دمّرته الولايات المتحدة ثم تركته نهباً للتنظيمات وإيران والتطرف... «داعش» كان أوضح مثال. أما لبنان فقد احتلت إسرائيل نصفه ووصلت إلى بيروت تخريباً ودماراً وقتلاً... لم يكن «حزب الله» موجوداً في عام 1982، لكنه نشأ بعد تلك الحرب المدمرة وتعتبره إسرائيل اليوم عدواً متربصاً وخندقاً متقدماً لإيران.
أفغانستان كانت آخر خيبات الولايات المتحدة وسوء حساباتها مثلما ستكون الحرب الروسية - الأوكرانية خيبة لأوروبا.
ستسفر هذه الحرب عن كثير من القتل والدمار والظلم والآلام والقهر. ستغيب وجوه وتيارات وستظهر أخرى لن تقبل بالضعف أو الاستسلام لأن الحقوق غير القابلة للتصرف لا تمحوها القوة الغاشمة.
قبل ثلاثين عاماً كان الحالمون الفلسطينيون والعرب منشغلين بالاتصال الجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وظهرت أفكار عديدة، من بينها الأنفاق والجسور والأسوار.
عادت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون منذ السابع من أكتوبر للحديث عن حل الدولتين. ليس في العالم دولة تخالف هذا المبدأ سوى إسرائيل، فما المانع من تطبيقه إذن؟
ستتذرع الولايات المتحدة بالانتخابات، وستنكفئ أوروبا من جديد. سيتفرغون للتركيز على الأزمة الأوكرانية - الروسية.
كل ما ستفعله الولايات المتحدة بعد دمار غزة أنها ستقود «جهوداً إنسانية» لإيصال الغذاء والدواء اللذين سيصلان متأخرين، لإيواء المهجرين والنازحين والأيتام والمشوهين بعد أن أنهكتهم آلة القتل الإسرائيلية.
سيقف طفلٌ فلسطيني فقد أسرته أو شوهته آلة الحرب الإسرائيلية، وسيقف معه أطفالٌ عرب كثيرون وربما كثير من أصدقائهم من ضحايا السياسات الغربية وسيرفضون أي حجة أو تبرير أو اعتذار.
هؤلاء لن يجلسوا إلى طاولة الغرب وسيقاومون المحتل بكل الوسائل المتاحة... وستتيح التكنولوجيا الحديثة الكثير منها في المستقبل. وستقول الولايات المتحدة إن الحل النهائي هو بيد الأطراف المعنية... بيد إسرائيل.
نقلا عن 'الشرق الأوسط'
التعليقات