كتبها : الجيولوجي عبدالله محمد الغويري.
هذا المقال يحتوي على المشاعر والقصص التي تذكرتها لحظة سماعي بوفاة الدكتور عبدالقادر عابد يوم الأحد الموافق ٢٠٢١ /٨/٨ :
استيقظتُ كعادتي من النوم ظهراً، حيثُ أنني في أيام العطلة أسهر الليالي ..وأنام في النهار..وكعادة كل يوم اتفقد الرسائل الواردة لهاتفي بعين مغلقة..وعين مفتوحة..من فرط النوم والنعاس..لكن خبر وفاة الدكتور عبدالقادر عابد جعلني انتفض من فراشي، وانتقل إلى غرفة اخرى..جلستُ على الأريكة وأنا أعصّرُ جبيني بأصابع يدي..مصدوماً..مدهوشاً..من الخبر...حينها رجعت بيَّ الذاكرة إلى الوراء...الى الأيام التي احتضنت الأحداث، وإلى الأحداث التي صارت ذكريات...والذكريات التي صارت صدى للسنين..!!
أثناء دراستي للجيولوجيا في الجامعة الهاشمية، كان إسمه مألوفاً...ومشهوراً.. كعلَم من أعلام الجيولوجيا في الأردن. فلا يكاد يخلو بحث او مساق مادة من إسمه، بل إنِّ مادة (جيولوجيا الأردن) - تعتمد كتابه الشهير وذائع الصيت (جيولوجية الأردن وبيئته ومياهه) المرجع الأول - بل والوحيد فيها..وقتها..كنّا نسمعُ عنه..ولا نراه..بحكم أنه محاضر في جامعة أخرى.
جمعني به القدر في آذار عام 2011، كنتُ حينها أعمل في مشروع جر مياه الديسي، وجائت به شركة الحفر التي كنا نعمل لديها (site group)، وصل مساء ذات يوم ..وبات ليلته في المخيم الرئيسي للشركة والموقع، وفي صبيحة اليوم التالي انطلقنا معه في جولة ميدانية لشرح وتتبع طبقات عصور الباليوزوي في قاع الديسي والقويرة وبعض مناطق وادي رم وبطن الغول. كان عددنا يتجاوز ال 25 جيولوجي، بالاضافة الى بعض الإداريين للشركة.
ذلك الصباح ظلَّ شاهداً على اول لقاء جمعني به وجهاً لوجه..رأيته كَهلاً..يرتدي نظارةً ..وقبعةً تحولُ بين فروة رأسه و أشعة شمس الجنوب..قامته كانت طويلة وإنْ اعتراها شئٌ من التحدب في أعلى الظهر..بشرته داكنه قليلا..وساعته تلتف حول يده..شعره أملس وبه بعض المناطق الكثة..
انطلقنا وتوزعنا في سيارات (الدوبل كبين) - الخاصة بالشركة. وراحَ الدكتور يشرح ويفسر كلما حطينا ركابنا في موقع أو تكشُّف للطبقات على سطح الارض، ما لفتَ انتباهي أنه يمتلك قدرة على الاستماع والإنصات - حتى لو كان من يكلمه خاطئا أو يهذي.!!. طريقته في التعبير والشرح تعتمد على الخيال والتركيب والتصوير، وكأنَّك ترى تشكل الطبقات وجريان الانهار وتراكم الكثبان يحدث أمامك الآن، كان مبهراً.. ومدهشاً.
ما كان يميزه يومها أنه بسيط وطبيعي وتلقائي..لا يتكلّف..ولا يتعجرف..يُمازح ..ويضحك..بل إنَّ لضحكته خشخشة لا تزال عالقة في أذني إلى يومي هذا.. مزاحه يُضفي عليه وقارا. كان ودوداً..أذكر كيف سرد لي جانباً من دراسته في دمشق وبريطانيا، وعن عمله في السعودية، وكيف ردَّ على سؤال أحد زملائي- عن سبب تأخر زواجه إلى ما بعد سن الأربعين:
(الجيولوجي الحقيقي يا إبني مثل الأرض، تأخذ وقتاً حتى تتطور وتمر عليها الأحداث، والجيولوجي كذلك يحتاج وقت ليتطور ويتشكل وتنضج أعضائه..)...قالها وهو يضحك..!!
يومها وصلنا بمحاذاة قصر للأمير إماراتي (وهو عبارة عن محمية تتوسد أحد جبال رم وتغص بالغزلان وحيوان المها والخيول وبعض الحيوانات البرية وطيور البط وغيرها، ناهيكَ عن البِرك المائية والمسطحات الجارية والمرافق المحيطة بالقصر، بالإضافة إلى حوالي 7 آبار جوفية تسحب من حوض الديسي إلى يومنا هذا - بلا حسيب أو رقيب) !!.
وقفنا عند مدخل القصر، كان هناك على البوابة مَقص وتفتيش للجيش الأردني، أخبرهم الدكتور عبدالقادر عابد أنه يريد الدخول ومعه الجيولوجيين للتتبع بعض الطبقات التى ولجَ امتدادها في حرم القصر، لكنّهم رفضوا..شرحَ لهم الغرض- أنَّها رحلة علميه..فلم يقتنعوا (أو أنَّ التعليمات المعطاة لهم فرضت عليهم عدم إدخال اي زائر)، غضبَ الدكتور عبدالقادر لحظتها وقال لهم :
تمنعوني ادخل أرض لبلدي وانا مواطن أردني ..سأدخل واسجنوني..!!
حينها تدخل إداريو الشركة وفضّوا بين الدكتور والحرس..!!
كنتُ متعجباً من حرصه وردة فعله، قبل قليل كان يضحك ويمازح..ثم فجأةً.. استشاطَ غضباً..تماما مثل الانقطاع المفاجئ في الترسيب أو الهزة المُباغتة في باطن الأرض.
بعدها رجعنا أدراجنا صوب مصنع الزجاج القديم في معان قبل أن يغيب قرص الشمس.
ليلتها عندما رجعنا إلى مواقع العمل، حيث كان كل جيولوجي ينام عند موقع حفر بئر مخصص، نمتُ والرجل صورته وطبائعه في ذهني، أعترفُ أنَّه شدني وكاد أنْ يفتنني، سمعتُ عنه أشياء كثيره قبل أن أراه..لكنني عندما قابلتهُ تأكدتُ بأنَّ كل ما قِيل عنه كان قليلاً.
مرت الايام ... وتركتُ العمل في المشروع (او الأصح أنّه تم إقالتي من العمل بعد مشكلة مع أحد الاداريين)، حصلتُ على تعيين -مُدرس علوم- في وزارة التربية والتعليم. وشاء الله أن أحصل على قبول لماجستير الجيولوجيا في الجامعة الاردنية للعام الدراسي 2014/2013 ، وعندما تصفحت الجدول الدراسي لتسجيل المواد كنتُ قد شِطتُ فرحاً عندما كان إسمه مطروحاً مع مادة التتابع الطبقي في الصخور الرسوبية (sequence stratigraphy)، وما زاد فرحتي أنه كان الفصل الأخير له في الجامعة - قبل أن يتقاعد.
وجدتهُ كما هو .. يُمازح ويشرح ويُعلّم..ويستمع ويَتعلّم ويُنْصت ويسمع ويتفاعل ..أحيانا كان يحضر معنا في القاعة الدكتور عبدالله أبو حمد (أستاذ علم الاحافير في الجامعة الأردنية) ويتبادلان مع بعضهما التعقيب و تبادل الخبرات و الإثراء. أسلوبه في التوضيح والتقعيد والتأصيل والتبسيط والزخم مدهش..ولا أستطيع أن أُنكر أنني تقمصتُ بعضاً من هذه الأساليب وطبقتها أثناء حصصي في المدارس التي عملتُ فيها.
أحياناً يكسرُ رتابة المحاضرة ويتحكم بإيقاعها، ويتطرقُ لكثير من المواضيع خارج إطار المنهاج المقرر . أذكر أنه كان يناقشنا عن مباراة الأردن والاروغواي المؤهلة لكأس العالم 2014 والتي أُقيمت في عمّان بتلك الفترة، وكان يحدثنا عن إحباطه من الأوضاع السياسية والإقتصادية والعلمية للدول المحيطة بالكيان الصهيوني، وأحياناً يتحدثُ عن التاريخ وبعض سير الخلافة الإسلامية، وعن الشعر وغرائب اللغة العربية. ذات مرة وصلتُ القاعة متأخراً لدقائق بسيطة، وكانت جميع ملابسي مُبللة من المطر الغزير الذي انهال في طريقي منذ نزولي من باص صويلح حتى وصولي قسم الجيولوجيا، أذكر أني بقيتُ ارتعدُ من البرد حتى نهاية المحاضرة..لكنَّ اندهاشي به كان أعتى من الرجفة ..وأعنف من المطر.
كان يقفُ ساعة ونصف على مدار مرتين بالاسبوع في قاعة المحاضرة - وهو بعمر السبعين دون أن يجلس أو يتململ - وهو يراوح الحركة بين عرض ال data وبين اللاب توب خاصته، كنا نقف معه دقائق كثيرة في كردور القسم - الطابق الثاني- قبل وبعد المحاضرة وهو يسلم ويمازح ويستوقف اي شخص يمر (سواء كان من الدكاترة أو الطلاب او حتى الموظفين) إلّا ويستوقفه، ليسأل عن اخباره وعن أهله واسرته.. كانت قَسمات وجهه تفيضُ بالتواضع والدماثة والبشاشة.
مجرد الدخول إلى مكتبه - في قسم الجيولوجيا - كان بمثابة الدخول إلى عصور جيولوجيّة غابرة..تلاحظ فيه الصور والصخور، ونماذج وقوالب الاحافير، والمؤلفات والدوريّات والمجلات العلميه. وكانت ثمار التمر ملازمةً لمكتبه - يقدمها لكل ضيف أو زائر.
كانت رائحة دخانه (الهيشي المُعتق القديم) تطفح في جدران وأروقه مكتبه، بل إنّك تستطيع استنشاق تلك الرائحة قبل أمتار ليست بالبسيطة في الممر المُفضي إلى مكتبه، خصوصا إذا تزامنت تلك الرائحة مع قهقهة تبثها حنجرته وقت المزاح والنُكات، حينها تتأكد أنَّ الرجل موجود ويقبعُ في مكتبه.
مرت أيام...وأيام.. حتى أختار الأستاذ الدكتور بلال عميرة (المشرف على رسالتي) - أن يكون المُحكّم الخارجي هو الدكتور عبدالقادر عابد (لأنَّ القوانين تسمح بأن يكون المُحكّم الخارجي متقاعداً - شريطة أن يكون مدرساً سابقاً في الجامعة الأردنية). في بعض المرات كان يزور الجامعة والقسم، وكان يحطُ رحاله في مكتب الدكتور بلال عميرة، كنت أُقابله عندما كنتُ أدرسُ العينات الصخرية تحت المجهر في مكتب الدكتور بلال، وكان دائما يسألني عن سير الأمور.
سلمتهُ نسخة من الرسالة قبل المناقشة بأيام، أعطيتهُ إياها عند منزله في منطقة المقابلين - عمّان، استقبلني بحفاوة عند باب داره .. وقتها كان يُصرُّ عليَّ بالدخول وأن يقومُ بواجب الضيافة، إصراره على ذلك كان أكثر من أنْ يسألني عن زمان ومكان وتفاصيل المناقشة، لكنني إعتذرتُ منه للاستعجالي وإنشغالي (أذكرُ يومها أني أمضيتُ حوالي 30 ساعة متواصلة بدون نوم، وأنا أقومُ بالإعدادات واللمسات الأخيره للرسالة في منزلي ..ثم إلى مكتبة الجامعة الاردنية ..ثم إلى مكتبة الرواد - المقابلة لبوابة كلية الزراعة - في شارع الجامعة - من أجل الطباعة، وكانت ابنتي ياسمين - حديثة الولادة تقضي يومها الثالث في الخداج).
بعدها مرت أيام قليلة، يوم المناقشة - وتحديداً يوم الخميس 2017/8/10، قابلتهُ في مكتب رئيس القسم، قبل بداية المناقشة بدقائق، وكان سعيداً مما كتبتُ وانجزتُ، وقالي لي بلهجته العاميّة المُحببة:
(ممتاز يا عبدالله... دفشة بسيطة وأعتبرُ رسالتك هي رسالة دكتوراة وليس ماجستير، أستطيع أن اقول لك أنك وضعت قدمك باحثاً في الصخور الرسوبية). كانت كلماته تطنُ في مسمعي طوال المناقشة..!!
كانت لجنة المناقشة مكونة من الأستاذ الدكتور بلال عميرة (مشرف)، و الأستاذ الدكتور عيسى مخلوف (مشرف خارجي من الجامعة الهاشمية)، والأستاذ الدكتور غالب جرار (عضو تحكيم)، والأستاذ الدكتور مصطفى القيسي (عضو تحكيم). وكان للدكتور عبدالقادر عابد حصة الأسد من الوقت وغزارة الاسئلة، ربما أجبتُ معظم أسئلته، لكنني أعترف بصعوبتها، بل إنِّ تجاوز المسارات الوعرة في وديان شمال شرق البحر الميت وأنا أحمل على كتفي حقيبة فيها قرابة ال 30 كغ من العينات الصخرية للرسالتي، كان أسهل بكثير من تجاوز اسئلته ظهيرة ذلك اليوم.
ثم مرت أيام ليست بالكثيرة، واتصلتُ عليه هاتفياً من أجل أن يُوقع على النسخة الاخيرة للرسالة مع التعديلات، أخبرني أنه لديه إجتماع في مَجمع اللغة العربية (الذي كان عضواً فيه) وأنه سيقابلني في مكتب الدكتور بلال بعدها، وبالفعل تلاقينا هناك (ولم أكن أعلم انه اللقاء الاخير بيننا) ، آخر عهدي به أنه كان مبتسم..نعم أذكر ذلك بشدة..كان مبتسماً.
مرت أيام كثيرة هذه المرة.. أصابني فتور في علاقتي مع الجيولوجيا، حتى رسالتي لم اطبعها او أُهديها للاصحاب أو أصحاب الشأن كما تجري العادة، وأعترفُ أنني لم أزور أقسام الجيولوجيا في الجامعات، ولم أقرأ بحثاً أو مؤلفاً يخص علم الجيولوجيا، وكأنني مررتُ بحالة طلاق بيني وبين العِلم، قلتها لنفسي ولغيري: وكأنّه طلاق بائن بينونى صُغرى، أقولها اليوم وقد تجاوزت ابنتي ياسمين الأربع سنوات (ولله الحمد).
رحم الله أستاذنا الدكتور عبدالقادر عابد ، وغفر الله له، وجعل الله ما ورَّثهُ من عِلم في ميزان حسناته. لكل طالب أو دكتور او زميل أو صديق حكاية له معه، تلك الحكايا لن تنتهي. اختارت الأرض مُدرس علوم الأرض أنْ تحتضنهُ وتخفيهِ عن تضاريس السطح وتغيراته، وتقلباته.. ليبقى ذِكرهُ ووجهه بعيداً عن صنائع الزمان وعوامل الحت والتعرية.
لم يكن يعلم أنَّ الموتَ أدقُ من اتجاهات بوصلته، وأشد وقعاً من مطرقته التي كانت ترافقه في الميدان والتكشُفات، لم يعرف أنَّ الموت أقربُ من ما قبل الكامبري، لم يدري أنَّ المواقع وملايين الأطنان التي اكتشفها من فوسفات الأردن لا تقدر أن تتصدى للموت، ولا حتى أنْ تثنيه عن ممبتغاه.
رحمك الله، الإنسان عبدالقادر قبل الدكتور ، ورحم الله ضحكتك..وتواضعك، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون. أمّا أنا فقد رفعتُ هامتي، ووقفتُ من على أريكتي.. أخذتُ نَفَساً عميقاً... وفركتُ مقدمة أنفي بأصابعي، وانا أقول لنفسي أنَّ رجوعي للجيولوجيا يحتاج إلى عقد ومهر جديدين..!!
كتبها : الجيولوجي عبدالله محمد الغويري.
هذا المقال يحتوي على المشاعر والقصص التي تذكرتها لحظة سماعي بوفاة الدكتور عبدالقادر عابد يوم الأحد الموافق ٢٠٢١ /٨/٨ :
استيقظتُ كعادتي من النوم ظهراً، حيثُ أنني في أيام العطلة أسهر الليالي ..وأنام في النهار..وكعادة كل يوم اتفقد الرسائل الواردة لهاتفي بعين مغلقة..وعين مفتوحة..من فرط النوم والنعاس..لكن خبر وفاة الدكتور عبدالقادر عابد جعلني انتفض من فراشي، وانتقل إلى غرفة اخرى..جلستُ على الأريكة وأنا أعصّرُ جبيني بأصابع يدي..مصدوماً..مدهوشاً..من الخبر...حينها رجعت بيَّ الذاكرة إلى الوراء...الى الأيام التي احتضنت الأحداث، وإلى الأحداث التي صارت ذكريات...والذكريات التي صارت صدى للسنين..!!
أثناء دراستي للجيولوجيا في الجامعة الهاشمية، كان إسمه مألوفاً...ومشهوراً.. كعلَم من أعلام الجيولوجيا في الأردن. فلا يكاد يخلو بحث او مساق مادة من إسمه، بل إنِّ مادة (جيولوجيا الأردن) - تعتمد كتابه الشهير وذائع الصيت (جيولوجية الأردن وبيئته ومياهه) المرجع الأول - بل والوحيد فيها..وقتها..كنّا نسمعُ عنه..ولا نراه..بحكم أنه محاضر في جامعة أخرى.
جمعني به القدر في آذار عام 2011، كنتُ حينها أعمل في مشروع جر مياه الديسي، وجائت به شركة الحفر التي كنا نعمل لديها (site group)، وصل مساء ذات يوم ..وبات ليلته في المخيم الرئيسي للشركة والموقع، وفي صبيحة اليوم التالي انطلقنا معه في جولة ميدانية لشرح وتتبع طبقات عصور الباليوزوي في قاع الديسي والقويرة وبعض مناطق وادي رم وبطن الغول. كان عددنا يتجاوز ال 25 جيولوجي، بالاضافة الى بعض الإداريين للشركة.
ذلك الصباح ظلَّ شاهداً على اول لقاء جمعني به وجهاً لوجه..رأيته كَهلاً..يرتدي نظارةً ..وقبعةً تحولُ بين فروة رأسه و أشعة شمس الجنوب..قامته كانت طويلة وإنْ اعتراها شئٌ من التحدب في أعلى الظهر..بشرته داكنه قليلا..وساعته تلتف حول يده..شعره أملس وبه بعض المناطق الكثة..
انطلقنا وتوزعنا في سيارات (الدوبل كبين) - الخاصة بالشركة. وراحَ الدكتور يشرح ويفسر كلما حطينا ركابنا في موقع أو تكشُّف للطبقات على سطح الارض، ما لفتَ انتباهي أنه يمتلك قدرة على الاستماع والإنصات - حتى لو كان من يكلمه خاطئا أو يهذي.!!. طريقته في التعبير والشرح تعتمد على الخيال والتركيب والتصوير، وكأنَّك ترى تشكل الطبقات وجريان الانهار وتراكم الكثبان يحدث أمامك الآن، كان مبهراً.. ومدهشاً.
ما كان يميزه يومها أنه بسيط وطبيعي وتلقائي..لا يتكلّف..ولا يتعجرف..يُمازح ..ويضحك..بل إنَّ لضحكته خشخشة لا تزال عالقة في أذني إلى يومي هذا.. مزاحه يُضفي عليه وقارا. كان ودوداً..أذكر كيف سرد لي جانباً من دراسته في دمشق وبريطانيا، وعن عمله في السعودية، وكيف ردَّ على سؤال أحد زملائي- عن سبب تأخر زواجه إلى ما بعد سن الأربعين:
(الجيولوجي الحقيقي يا إبني مثل الأرض، تأخذ وقتاً حتى تتطور وتمر عليها الأحداث، والجيولوجي كذلك يحتاج وقت ليتطور ويتشكل وتنضج أعضائه..)...قالها وهو يضحك..!!
يومها وصلنا بمحاذاة قصر للأمير إماراتي (وهو عبارة عن محمية تتوسد أحد جبال رم وتغص بالغزلان وحيوان المها والخيول وبعض الحيوانات البرية وطيور البط وغيرها، ناهيكَ عن البِرك المائية والمسطحات الجارية والمرافق المحيطة بالقصر، بالإضافة إلى حوالي 7 آبار جوفية تسحب من حوض الديسي إلى يومنا هذا - بلا حسيب أو رقيب) !!.
وقفنا عند مدخل القصر، كان هناك على البوابة مَقص وتفتيش للجيش الأردني، أخبرهم الدكتور عبدالقادر عابد أنه يريد الدخول ومعه الجيولوجيين للتتبع بعض الطبقات التى ولجَ امتدادها في حرم القصر، لكنّهم رفضوا..شرحَ لهم الغرض- أنَّها رحلة علميه..فلم يقتنعوا (أو أنَّ التعليمات المعطاة لهم فرضت عليهم عدم إدخال اي زائر)، غضبَ الدكتور عبدالقادر لحظتها وقال لهم :
تمنعوني ادخل أرض لبلدي وانا مواطن أردني ..سأدخل واسجنوني..!!
حينها تدخل إداريو الشركة وفضّوا بين الدكتور والحرس..!!
كنتُ متعجباً من حرصه وردة فعله، قبل قليل كان يضحك ويمازح..ثم فجأةً.. استشاطَ غضباً..تماما مثل الانقطاع المفاجئ في الترسيب أو الهزة المُباغتة في باطن الأرض.
بعدها رجعنا أدراجنا صوب مصنع الزجاج القديم في معان قبل أن يغيب قرص الشمس.
ليلتها عندما رجعنا إلى مواقع العمل، حيث كان كل جيولوجي ينام عند موقع حفر بئر مخصص، نمتُ والرجل صورته وطبائعه في ذهني، أعترفُ أنَّه شدني وكاد أنْ يفتنني، سمعتُ عنه أشياء كثيره قبل أن أراه..لكنني عندما قابلتهُ تأكدتُ بأنَّ كل ما قِيل عنه كان قليلاً.
مرت الايام ... وتركتُ العمل في المشروع (او الأصح أنّه تم إقالتي من العمل بعد مشكلة مع أحد الاداريين)، حصلتُ على تعيين -مُدرس علوم- في وزارة التربية والتعليم. وشاء الله أن أحصل على قبول لماجستير الجيولوجيا في الجامعة الاردنية للعام الدراسي 2014/2013 ، وعندما تصفحت الجدول الدراسي لتسجيل المواد كنتُ قد شِطتُ فرحاً عندما كان إسمه مطروحاً مع مادة التتابع الطبقي في الصخور الرسوبية (sequence stratigraphy)، وما زاد فرحتي أنه كان الفصل الأخير له في الجامعة - قبل أن يتقاعد.
وجدتهُ كما هو .. يُمازح ويشرح ويُعلّم..ويستمع ويَتعلّم ويُنْصت ويسمع ويتفاعل ..أحيانا كان يحضر معنا في القاعة الدكتور عبدالله أبو حمد (أستاذ علم الاحافير في الجامعة الأردنية) ويتبادلان مع بعضهما التعقيب و تبادل الخبرات و الإثراء. أسلوبه في التوضيح والتقعيد والتأصيل والتبسيط والزخم مدهش..ولا أستطيع أن أُنكر أنني تقمصتُ بعضاً من هذه الأساليب وطبقتها أثناء حصصي في المدارس التي عملتُ فيها.
أحياناً يكسرُ رتابة المحاضرة ويتحكم بإيقاعها، ويتطرقُ لكثير من المواضيع خارج إطار المنهاج المقرر . أذكر أنه كان يناقشنا عن مباراة الأردن والاروغواي المؤهلة لكأس العالم 2014 والتي أُقيمت في عمّان بتلك الفترة، وكان يحدثنا عن إحباطه من الأوضاع السياسية والإقتصادية والعلمية للدول المحيطة بالكيان الصهيوني، وأحياناً يتحدثُ عن التاريخ وبعض سير الخلافة الإسلامية، وعن الشعر وغرائب اللغة العربية. ذات مرة وصلتُ القاعة متأخراً لدقائق بسيطة، وكانت جميع ملابسي مُبللة من المطر الغزير الذي انهال في طريقي منذ نزولي من باص صويلح حتى وصولي قسم الجيولوجيا، أذكر أني بقيتُ ارتعدُ من البرد حتى نهاية المحاضرة..لكنَّ اندهاشي به كان أعتى من الرجفة ..وأعنف من المطر.
كان يقفُ ساعة ونصف على مدار مرتين بالاسبوع في قاعة المحاضرة - وهو بعمر السبعين دون أن يجلس أو يتململ - وهو يراوح الحركة بين عرض ال data وبين اللاب توب خاصته، كنا نقف معه دقائق كثيرة في كردور القسم - الطابق الثاني- قبل وبعد المحاضرة وهو يسلم ويمازح ويستوقف اي شخص يمر (سواء كان من الدكاترة أو الطلاب او حتى الموظفين) إلّا ويستوقفه، ليسأل عن اخباره وعن أهله واسرته.. كانت قَسمات وجهه تفيضُ بالتواضع والدماثة والبشاشة.
مجرد الدخول إلى مكتبه - في قسم الجيولوجيا - كان بمثابة الدخول إلى عصور جيولوجيّة غابرة..تلاحظ فيه الصور والصخور، ونماذج وقوالب الاحافير، والمؤلفات والدوريّات والمجلات العلميه. وكانت ثمار التمر ملازمةً لمكتبه - يقدمها لكل ضيف أو زائر.
كانت رائحة دخانه (الهيشي المُعتق القديم) تطفح في جدران وأروقه مكتبه، بل إنّك تستطيع استنشاق تلك الرائحة قبل أمتار ليست بالبسيطة في الممر المُفضي إلى مكتبه، خصوصا إذا تزامنت تلك الرائحة مع قهقهة تبثها حنجرته وقت المزاح والنُكات، حينها تتأكد أنَّ الرجل موجود ويقبعُ في مكتبه.
مرت أيام...وأيام.. حتى أختار الأستاذ الدكتور بلال عميرة (المشرف على رسالتي) - أن يكون المُحكّم الخارجي هو الدكتور عبدالقادر عابد (لأنَّ القوانين تسمح بأن يكون المُحكّم الخارجي متقاعداً - شريطة أن يكون مدرساً سابقاً في الجامعة الأردنية). في بعض المرات كان يزور الجامعة والقسم، وكان يحطُ رحاله في مكتب الدكتور بلال عميرة، كنت أُقابله عندما كنتُ أدرسُ العينات الصخرية تحت المجهر في مكتب الدكتور بلال، وكان دائما يسألني عن سير الأمور.
سلمتهُ نسخة من الرسالة قبل المناقشة بأيام، أعطيتهُ إياها عند منزله في منطقة المقابلين - عمّان، استقبلني بحفاوة عند باب داره .. وقتها كان يُصرُّ عليَّ بالدخول وأن يقومُ بواجب الضيافة، إصراره على ذلك كان أكثر من أنْ يسألني عن زمان ومكان وتفاصيل المناقشة، لكنني إعتذرتُ منه للاستعجالي وإنشغالي (أذكرُ يومها أني أمضيتُ حوالي 30 ساعة متواصلة بدون نوم، وأنا أقومُ بالإعدادات واللمسات الأخيره للرسالة في منزلي ..ثم إلى مكتبة الجامعة الاردنية ..ثم إلى مكتبة الرواد - المقابلة لبوابة كلية الزراعة - في شارع الجامعة - من أجل الطباعة، وكانت ابنتي ياسمين - حديثة الولادة تقضي يومها الثالث في الخداج).
بعدها مرت أيام قليلة، يوم المناقشة - وتحديداً يوم الخميس 2017/8/10، قابلتهُ في مكتب رئيس القسم، قبل بداية المناقشة بدقائق، وكان سعيداً مما كتبتُ وانجزتُ، وقالي لي بلهجته العاميّة المُحببة:
(ممتاز يا عبدالله... دفشة بسيطة وأعتبرُ رسالتك هي رسالة دكتوراة وليس ماجستير، أستطيع أن اقول لك أنك وضعت قدمك باحثاً في الصخور الرسوبية). كانت كلماته تطنُ في مسمعي طوال المناقشة..!!
كانت لجنة المناقشة مكونة من الأستاذ الدكتور بلال عميرة (مشرف)، و الأستاذ الدكتور عيسى مخلوف (مشرف خارجي من الجامعة الهاشمية)، والأستاذ الدكتور غالب جرار (عضو تحكيم)، والأستاذ الدكتور مصطفى القيسي (عضو تحكيم). وكان للدكتور عبدالقادر عابد حصة الأسد من الوقت وغزارة الاسئلة، ربما أجبتُ معظم أسئلته، لكنني أعترف بصعوبتها، بل إنِّ تجاوز المسارات الوعرة في وديان شمال شرق البحر الميت وأنا أحمل على كتفي حقيبة فيها قرابة ال 30 كغ من العينات الصخرية للرسالتي، كان أسهل بكثير من تجاوز اسئلته ظهيرة ذلك اليوم.
ثم مرت أيام ليست بالكثيرة، واتصلتُ عليه هاتفياً من أجل أن يُوقع على النسخة الاخيرة للرسالة مع التعديلات، أخبرني أنه لديه إجتماع في مَجمع اللغة العربية (الذي كان عضواً فيه) وأنه سيقابلني في مكتب الدكتور بلال بعدها، وبالفعل تلاقينا هناك (ولم أكن أعلم انه اللقاء الاخير بيننا) ، آخر عهدي به أنه كان مبتسم..نعم أذكر ذلك بشدة..كان مبتسماً.
مرت أيام كثيرة هذه المرة.. أصابني فتور في علاقتي مع الجيولوجيا، حتى رسالتي لم اطبعها او أُهديها للاصحاب أو أصحاب الشأن كما تجري العادة، وأعترفُ أنني لم أزور أقسام الجيولوجيا في الجامعات، ولم أقرأ بحثاً أو مؤلفاً يخص علم الجيولوجيا، وكأنني مررتُ بحالة طلاق بيني وبين العِلم، قلتها لنفسي ولغيري: وكأنّه طلاق بائن بينونى صُغرى، أقولها اليوم وقد تجاوزت ابنتي ياسمين الأربع سنوات (ولله الحمد).
رحم الله أستاذنا الدكتور عبدالقادر عابد ، وغفر الله له، وجعل الله ما ورَّثهُ من عِلم في ميزان حسناته. لكل طالب أو دكتور او زميل أو صديق حكاية له معه، تلك الحكايا لن تنتهي. اختارت الأرض مُدرس علوم الأرض أنْ تحتضنهُ وتخفيهِ عن تضاريس السطح وتغيراته، وتقلباته.. ليبقى ذِكرهُ ووجهه بعيداً عن صنائع الزمان وعوامل الحت والتعرية.
لم يكن يعلم أنَّ الموتَ أدقُ من اتجاهات بوصلته، وأشد وقعاً من مطرقته التي كانت ترافقه في الميدان والتكشُفات، لم يعرف أنَّ الموت أقربُ من ما قبل الكامبري، لم يدري أنَّ المواقع وملايين الأطنان التي اكتشفها من فوسفات الأردن لا تقدر أن تتصدى للموت، ولا حتى أنْ تثنيه عن ممبتغاه.
رحمك الله، الإنسان عبدالقادر قبل الدكتور ، ورحم الله ضحكتك..وتواضعك، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون. أمّا أنا فقد رفعتُ هامتي، ووقفتُ من على أريكتي.. أخذتُ نَفَساً عميقاً... وفركتُ مقدمة أنفي بأصابعي، وانا أقول لنفسي أنَّ رجوعي للجيولوجيا يحتاج إلى عقد ومهر جديدين..!!
كتبها : الجيولوجي عبدالله محمد الغويري.
هذا المقال يحتوي على المشاعر والقصص التي تذكرتها لحظة سماعي بوفاة الدكتور عبدالقادر عابد يوم الأحد الموافق ٢٠٢١ /٨/٨ :
استيقظتُ كعادتي من النوم ظهراً، حيثُ أنني في أيام العطلة أسهر الليالي ..وأنام في النهار..وكعادة كل يوم اتفقد الرسائل الواردة لهاتفي بعين مغلقة..وعين مفتوحة..من فرط النوم والنعاس..لكن خبر وفاة الدكتور عبدالقادر عابد جعلني انتفض من فراشي، وانتقل إلى غرفة اخرى..جلستُ على الأريكة وأنا أعصّرُ جبيني بأصابع يدي..مصدوماً..مدهوشاً..من الخبر...حينها رجعت بيَّ الذاكرة إلى الوراء...الى الأيام التي احتضنت الأحداث، وإلى الأحداث التي صارت ذكريات...والذكريات التي صارت صدى للسنين..!!
أثناء دراستي للجيولوجيا في الجامعة الهاشمية، كان إسمه مألوفاً...ومشهوراً.. كعلَم من أعلام الجيولوجيا في الأردن. فلا يكاد يخلو بحث او مساق مادة من إسمه، بل إنِّ مادة (جيولوجيا الأردن) - تعتمد كتابه الشهير وذائع الصيت (جيولوجية الأردن وبيئته ومياهه) المرجع الأول - بل والوحيد فيها..وقتها..كنّا نسمعُ عنه..ولا نراه..بحكم أنه محاضر في جامعة أخرى.
جمعني به القدر في آذار عام 2011، كنتُ حينها أعمل في مشروع جر مياه الديسي، وجائت به شركة الحفر التي كنا نعمل لديها (site group)، وصل مساء ذات يوم ..وبات ليلته في المخيم الرئيسي للشركة والموقع، وفي صبيحة اليوم التالي انطلقنا معه في جولة ميدانية لشرح وتتبع طبقات عصور الباليوزوي في قاع الديسي والقويرة وبعض مناطق وادي رم وبطن الغول. كان عددنا يتجاوز ال 25 جيولوجي، بالاضافة الى بعض الإداريين للشركة.
ذلك الصباح ظلَّ شاهداً على اول لقاء جمعني به وجهاً لوجه..رأيته كَهلاً..يرتدي نظارةً ..وقبعةً تحولُ بين فروة رأسه و أشعة شمس الجنوب..قامته كانت طويلة وإنْ اعتراها شئٌ من التحدب في أعلى الظهر..بشرته داكنه قليلا..وساعته تلتف حول يده..شعره أملس وبه بعض المناطق الكثة..
انطلقنا وتوزعنا في سيارات (الدوبل كبين) - الخاصة بالشركة. وراحَ الدكتور يشرح ويفسر كلما حطينا ركابنا في موقع أو تكشُّف للطبقات على سطح الارض، ما لفتَ انتباهي أنه يمتلك قدرة على الاستماع والإنصات - حتى لو كان من يكلمه خاطئا أو يهذي.!!. طريقته في التعبير والشرح تعتمد على الخيال والتركيب والتصوير، وكأنَّك ترى تشكل الطبقات وجريان الانهار وتراكم الكثبان يحدث أمامك الآن، كان مبهراً.. ومدهشاً.
ما كان يميزه يومها أنه بسيط وطبيعي وتلقائي..لا يتكلّف..ولا يتعجرف..يُمازح ..ويضحك..بل إنَّ لضحكته خشخشة لا تزال عالقة في أذني إلى يومي هذا.. مزاحه يُضفي عليه وقارا. كان ودوداً..أذكر كيف سرد لي جانباً من دراسته في دمشق وبريطانيا، وعن عمله في السعودية، وكيف ردَّ على سؤال أحد زملائي- عن سبب تأخر زواجه إلى ما بعد سن الأربعين:
(الجيولوجي الحقيقي يا إبني مثل الأرض، تأخذ وقتاً حتى تتطور وتمر عليها الأحداث، والجيولوجي كذلك يحتاج وقت ليتطور ويتشكل وتنضج أعضائه..)...قالها وهو يضحك..!!
يومها وصلنا بمحاذاة قصر للأمير إماراتي (وهو عبارة عن محمية تتوسد أحد جبال رم وتغص بالغزلان وحيوان المها والخيول وبعض الحيوانات البرية وطيور البط وغيرها، ناهيكَ عن البِرك المائية والمسطحات الجارية والمرافق المحيطة بالقصر، بالإضافة إلى حوالي 7 آبار جوفية تسحب من حوض الديسي إلى يومنا هذا - بلا حسيب أو رقيب) !!.
وقفنا عند مدخل القصر، كان هناك على البوابة مَقص وتفتيش للجيش الأردني، أخبرهم الدكتور عبدالقادر عابد أنه يريد الدخول ومعه الجيولوجيين للتتبع بعض الطبقات التى ولجَ امتدادها في حرم القصر، لكنّهم رفضوا..شرحَ لهم الغرض- أنَّها رحلة علميه..فلم يقتنعوا (أو أنَّ التعليمات المعطاة لهم فرضت عليهم عدم إدخال اي زائر)، غضبَ الدكتور عبدالقادر لحظتها وقال لهم :
تمنعوني ادخل أرض لبلدي وانا مواطن أردني ..سأدخل واسجنوني..!!
حينها تدخل إداريو الشركة وفضّوا بين الدكتور والحرس..!!
كنتُ متعجباً من حرصه وردة فعله، قبل قليل كان يضحك ويمازح..ثم فجأةً.. استشاطَ غضباً..تماما مثل الانقطاع المفاجئ في الترسيب أو الهزة المُباغتة في باطن الأرض.
بعدها رجعنا أدراجنا صوب مصنع الزجاج القديم في معان قبل أن يغيب قرص الشمس.
ليلتها عندما رجعنا إلى مواقع العمل، حيث كان كل جيولوجي ينام عند موقع حفر بئر مخصص، نمتُ والرجل صورته وطبائعه في ذهني، أعترفُ أنَّه شدني وكاد أنْ يفتنني، سمعتُ عنه أشياء كثيره قبل أن أراه..لكنني عندما قابلتهُ تأكدتُ بأنَّ كل ما قِيل عنه كان قليلاً.
مرت الايام ... وتركتُ العمل في المشروع (او الأصح أنّه تم إقالتي من العمل بعد مشكلة مع أحد الاداريين)، حصلتُ على تعيين -مُدرس علوم- في وزارة التربية والتعليم. وشاء الله أن أحصل على قبول لماجستير الجيولوجيا في الجامعة الاردنية للعام الدراسي 2014/2013 ، وعندما تصفحت الجدول الدراسي لتسجيل المواد كنتُ قد شِطتُ فرحاً عندما كان إسمه مطروحاً مع مادة التتابع الطبقي في الصخور الرسوبية (sequence stratigraphy)، وما زاد فرحتي أنه كان الفصل الأخير له في الجامعة - قبل أن يتقاعد.
وجدتهُ كما هو .. يُمازح ويشرح ويُعلّم..ويستمع ويَتعلّم ويُنْصت ويسمع ويتفاعل ..أحيانا كان يحضر معنا في القاعة الدكتور عبدالله أبو حمد (أستاذ علم الاحافير في الجامعة الأردنية) ويتبادلان مع بعضهما التعقيب و تبادل الخبرات و الإثراء. أسلوبه في التوضيح والتقعيد والتأصيل والتبسيط والزخم مدهش..ولا أستطيع أن أُنكر أنني تقمصتُ بعضاً من هذه الأساليب وطبقتها أثناء حصصي في المدارس التي عملتُ فيها.
أحياناً يكسرُ رتابة المحاضرة ويتحكم بإيقاعها، ويتطرقُ لكثير من المواضيع خارج إطار المنهاج المقرر . أذكر أنه كان يناقشنا عن مباراة الأردن والاروغواي المؤهلة لكأس العالم 2014 والتي أُقيمت في عمّان بتلك الفترة، وكان يحدثنا عن إحباطه من الأوضاع السياسية والإقتصادية والعلمية للدول المحيطة بالكيان الصهيوني، وأحياناً يتحدثُ عن التاريخ وبعض سير الخلافة الإسلامية، وعن الشعر وغرائب اللغة العربية. ذات مرة وصلتُ القاعة متأخراً لدقائق بسيطة، وكانت جميع ملابسي مُبللة من المطر الغزير الذي انهال في طريقي منذ نزولي من باص صويلح حتى وصولي قسم الجيولوجيا، أذكر أني بقيتُ ارتعدُ من البرد حتى نهاية المحاضرة..لكنَّ اندهاشي به كان أعتى من الرجفة ..وأعنف من المطر.
كان يقفُ ساعة ونصف على مدار مرتين بالاسبوع في قاعة المحاضرة - وهو بعمر السبعين دون أن يجلس أو يتململ - وهو يراوح الحركة بين عرض ال data وبين اللاب توب خاصته، كنا نقف معه دقائق كثيرة في كردور القسم - الطابق الثاني- قبل وبعد المحاضرة وهو يسلم ويمازح ويستوقف اي شخص يمر (سواء كان من الدكاترة أو الطلاب او حتى الموظفين) إلّا ويستوقفه، ليسأل عن اخباره وعن أهله واسرته.. كانت قَسمات وجهه تفيضُ بالتواضع والدماثة والبشاشة.
مجرد الدخول إلى مكتبه - في قسم الجيولوجيا - كان بمثابة الدخول إلى عصور جيولوجيّة غابرة..تلاحظ فيه الصور والصخور، ونماذج وقوالب الاحافير، والمؤلفات والدوريّات والمجلات العلميه. وكانت ثمار التمر ملازمةً لمكتبه - يقدمها لكل ضيف أو زائر.
كانت رائحة دخانه (الهيشي المُعتق القديم) تطفح في جدران وأروقه مكتبه، بل إنّك تستطيع استنشاق تلك الرائحة قبل أمتار ليست بالبسيطة في الممر المُفضي إلى مكتبه، خصوصا إذا تزامنت تلك الرائحة مع قهقهة تبثها حنجرته وقت المزاح والنُكات، حينها تتأكد أنَّ الرجل موجود ويقبعُ في مكتبه.
مرت أيام...وأيام.. حتى أختار الأستاذ الدكتور بلال عميرة (المشرف على رسالتي) - أن يكون المُحكّم الخارجي هو الدكتور عبدالقادر عابد (لأنَّ القوانين تسمح بأن يكون المُحكّم الخارجي متقاعداً - شريطة أن يكون مدرساً سابقاً في الجامعة الأردنية). في بعض المرات كان يزور الجامعة والقسم، وكان يحطُ رحاله في مكتب الدكتور بلال عميرة، كنت أُقابله عندما كنتُ أدرسُ العينات الصخرية تحت المجهر في مكتب الدكتور بلال، وكان دائما يسألني عن سير الأمور.
سلمتهُ نسخة من الرسالة قبل المناقشة بأيام، أعطيتهُ إياها عند منزله في منطقة المقابلين - عمّان، استقبلني بحفاوة عند باب داره .. وقتها كان يُصرُّ عليَّ بالدخول وأن يقومُ بواجب الضيافة، إصراره على ذلك كان أكثر من أنْ يسألني عن زمان ومكان وتفاصيل المناقشة، لكنني إعتذرتُ منه للاستعجالي وإنشغالي (أذكرُ يومها أني أمضيتُ حوالي 30 ساعة متواصلة بدون نوم، وأنا أقومُ بالإعدادات واللمسات الأخيره للرسالة في منزلي ..ثم إلى مكتبة الجامعة الاردنية ..ثم إلى مكتبة الرواد - المقابلة لبوابة كلية الزراعة - في شارع الجامعة - من أجل الطباعة، وكانت ابنتي ياسمين - حديثة الولادة تقضي يومها الثالث في الخداج).
بعدها مرت أيام قليلة، يوم المناقشة - وتحديداً يوم الخميس 2017/8/10، قابلتهُ في مكتب رئيس القسم، قبل بداية المناقشة بدقائق، وكان سعيداً مما كتبتُ وانجزتُ، وقالي لي بلهجته العاميّة المُحببة:
(ممتاز يا عبدالله... دفشة بسيطة وأعتبرُ رسالتك هي رسالة دكتوراة وليس ماجستير، أستطيع أن اقول لك أنك وضعت قدمك باحثاً في الصخور الرسوبية). كانت كلماته تطنُ في مسمعي طوال المناقشة..!!
كانت لجنة المناقشة مكونة من الأستاذ الدكتور بلال عميرة (مشرف)، و الأستاذ الدكتور عيسى مخلوف (مشرف خارجي من الجامعة الهاشمية)، والأستاذ الدكتور غالب جرار (عضو تحكيم)، والأستاذ الدكتور مصطفى القيسي (عضو تحكيم). وكان للدكتور عبدالقادر عابد حصة الأسد من الوقت وغزارة الاسئلة، ربما أجبتُ معظم أسئلته، لكنني أعترف بصعوبتها، بل إنِّ تجاوز المسارات الوعرة في وديان شمال شرق البحر الميت وأنا أحمل على كتفي حقيبة فيها قرابة ال 30 كغ من العينات الصخرية للرسالتي، كان أسهل بكثير من تجاوز اسئلته ظهيرة ذلك اليوم.
ثم مرت أيام ليست بالكثيرة، واتصلتُ عليه هاتفياً من أجل أن يُوقع على النسخة الاخيرة للرسالة مع التعديلات، أخبرني أنه لديه إجتماع في مَجمع اللغة العربية (الذي كان عضواً فيه) وأنه سيقابلني في مكتب الدكتور بلال بعدها، وبالفعل تلاقينا هناك (ولم أكن أعلم انه اللقاء الاخير بيننا) ، آخر عهدي به أنه كان مبتسم..نعم أذكر ذلك بشدة..كان مبتسماً.
مرت أيام كثيرة هذه المرة.. أصابني فتور في علاقتي مع الجيولوجيا، حتى رسالتي لم اطبعها او أُهديها للاصحاب أو أصحاب الشأن كما تجري العادة، وأعترفُ أنني لم أزور أقسام الجيولوجيا في الجامعات، ولم أقرأ بحثاً أو مؤلفاً يخص علم الجيولوجيا، وكأنني مررتُ بحالة طلاق بيني وبين العِلم، قلتها لنفسي ولغيري: وكأنّه طلاق بائن بينونى صُغرى، أقولها اليوم وقد تجاوزت ابنتي ياسمين الأربع سنوات (ولله الحمد).
رحم الله أستاذنا الدكتور عبدالقادر عابد ، وغفر الله له، وجعل الله ما ورَّثهُ من عِلم في ميزان حسناته. لكل طالب أو دكتور او زميل أو صديق حكاية له معه، تلك الحكايا لن تنتهي. اختارت الأرض مُدرس علوم الأرض أنْ تحتضنهُ وتخفيهِ عن تضاريس السطح وتغيراته، وتقلباته.. ليبقى ذِكرهُ ووجهه بعيداً عن صنائع الزمان وعوامل الحت والتعرية.
لم يكن يعلم أنَّ الموتَ أدقُ من اتجاهات بوصلته، وأشد وقعاً من مطرقته التي كانت ترافقه في الميدان والتكشُفات، لم يعرف أنَّ الموت أقربُ من ما قبل الكامبري، لم يدري أنَّ المواقع وملايين الأطنان التي اكتشفها من فوسفات الأردن لا تقدر أن تتصدى للموت، ولا حتى أنْ تثنيه عن ممبتغاه.
رحمك الله، الإنسان عبدالقادر قبل الدكتور ، ورحم الله ضحكتك..وتواضعك، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون. أمّا أنا فقد رفعتُ هامتي، ووقفتُ من على أريكتي.. أخذتُ نَفَساً عميقاً... وفركتُ مقدمة أنفي بأصابعي، وانا أقول لنفسي أنَّ رجوعي للجيولوجيا يحتاج إلى عقد ومهر جديدين..!!
التعليقات