لا يخلو تاريخ لبنان من الصراعات السياسية والطائفية، قليلة سنوات الاستقرار التي عاشها بلد التنوّع وتعدد الطوائف والثقافات منذ قيام دولة لبنان الكبير في عام 1920، لذلك عند كلّ مرحلة مفصلية تستيقظ في أذهان البعض طروحات الفيدرالية، وأحياناً أفكار التقسيم، التي تتيح لكلّ طائفة أن تحكم نفسها بنفسها حتى لا تطغى عليها طائفة أخرى.
في السنوات الأخيرة وفي ذروة الانقسامات السياسية التي اكتسبت في كثير من الأحيان بعداً طائفياً، علت أصوات داخل المكون المسيحي تطالبه بالفيدرالية، «حتى لا يهاجر من تبقى من المسيحيين، أو لا يذوبوا في الطوائف الأخرى». وتتعدد المقاربات حيال هذا الطرح، إذ عدّ أستاذ العلوم السياسية في جامعة كلارمونت بكاليفورنيا الدكتور هشام بو ناصيف، أن «الفيدرالية هي الطريق الوحيدة لإدارة العلاقات بين الطوائف بسلام وبعيداً عن الحروب والاحتلالات».
وأشار إلى أنه «لا يمكن إدارة شؤون مجتمع متعدد الطوائف من خلال دولة مركزية». ولفت في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «الدولة المركزية التي أنشئت في لبنان قبل أكثر من 100 عام، حفل تاريخها بالحروب ولم تنعم إلّا بهُدن هشّة لم تدُم طويلاً، بسبب الكمّ الكبير من التناقضات»، معتبراً أن «الطوائف لديها شخصيات وقراءات للتاريخ لا تزول بسنوات وعقود». وشدد بو ناصيف على «ضرورة إدارة الحكم في لبنان عبر الفيدرالية والحياد، كما فعلت سويسرا التي تمكنت بحيادها أن تتجنّب الانخراط في الحرب العالمية الثانية».
كثيرة هي المحطات التاريخية التي دغدغت فيها الفيدرالية عواطف اللبنانيين، بدءاً من انتهاء حقبة «متصرفية جبل لبنان» وإنشاء دولة لبنان الكبير، وبلغت أوجها في ظلّ ما عرف بحكم «المارونية السياسية» وشعور المسلمين بالغبن، لكنها ما لبثت أن غابت مع المدّ العروبي الناصري لتظهر مجدداً في منتصف سبعينات القرن الماضي. وربط رئيس لقاء «سيّدة الجبل» النائب السابق فارس سعيد، بين هذا الأمر «وكلّ مرحلة نشهد فيها على انهيار الدولة واضطرار الجماعات للبحث عن ضمانات رديفة».
وقال: «الآن يظنّ المسيحيون وربما غيرهم، أن ضمانتهم في اقتطاع جزء من الجغرافيا وإقامة مؤسساتهم عليها». وذكّر في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، بأن «هذا الأمر جرّبه اللبنانيون في مرحلة الحرب الأهلية، وكان ذلك الأسهل إلى تسرّب الاقتتال إلى داخل كلّ طائفة وعائلة، كالاقتتال الشيعي ـ الشيعي في إقليم التفاح (جنوب لبنان)، والاقتتال المسيحي - المسيحي بين كفرشيما ومنطقة المدفون (جبل لبنان)، والاقتتال السنّي - الشيعي في حرب المخيمات ببيروت، والقاسم المشترك بين كلّ هذه الحروب، انهيار الضمانة الجماعية أي ضمانة الدولة». وأضاف سعيد: «حزب الله يشجّع بشكل مباشر أو غير مباشر على استنساخ تجربته، بحيث إن طوائف بدأت تقول إن بيئة (حزب الله) مثالية، لأنه يؤمن الخدمات الصحية والتربوية والاجتماعية لطائفته، وينظرون إليه على أن ينشئ جيشاً ومؤسسات رديفة للدولة»، مشيراً إلى أن «ميزة حزب الله أنه يستقوي بالخارج على الداخل عبر إيران، ولولاها لم يستطع إقامة دولة في الداخل اللبناني».
الأسباب المحفّزة على فكرة الفيدرالية تبدو أبعد من الحرب الأهلية وطغيان سلاح «حزب الله» على قرار الدولة، وهنا يعترف هشام بو ناصيف بأن «سيطرة حزب الله على قرار الدولة عامل أساسي من عوامل تقويض لبنان ومؤسساته»، لكنه يلفت إلى أن «تاريخ لبنان مليء بالصراعات، والحزب لم يكن موجوداً في مرحلة الصراعات بين أقضية جبل لبنان، ولا في بداية الحرب الأهلية». ويشير إلى أن «منطق الحرب الأهلية شيء وانهيار الدولة شيء آخر، لذلك لا يصحّ إلباس فشل النظام المركزي للفيدرالية». ولا يخفي بو ناصيف «وجود خطر حقيقي على المسيحيين في ظلّ الدولة المركزية». ويذهب بعيداً ليعبّر عن خوفه من إلغاء الطائفية السياسية. ويسأل: «من قال إن إلغاء الطائفية السياسية لا يعني إلغاء المسيحيين؟»، عادّاً أنه «إذا بقيت المناصفة يعني أن المسيحيين سيأتون بأصوات المسلمين، لذلك فإن الفيدرالية وحدها التي تمنع هيمنة طوائف على أخرى». ويضيف: «إذا لم نستطع خلال 100 عام أن نبني دولة، متى نبني هذه الدولة؟ وإذا انتظرنا 50 سنة إضافية في ظلّ هذا النظام لن يبقى مسيحي واحد في لبنان».
وطالما أن مفاهيم الدعوة إلى الفيدرالية لا تأتي إلّا عند شعور طائفة أو مكوّن لبناني بالتهميش، يحذّر النائب السابق فارس سعيد من رغبة البعض في اعتماد تجربة «حزب الله». ويؤكد أن «من يريد أن يكرر تجربة (حزب الله) فعليه أن يستقوي بدولة خارجية مثل إسرائيل أو تركيا أو العلويين، وهذا يعني إدخال لبنان في حروب دائمة بين الطوائف». ويعبّر عن أسفه لأن «حزب الله نسف مفهوم العيش المشترك، لأنه لم يحترم قواعد العدالة في لبنان، هو تنظيم مسلّح ولا يسمح لغيره بحمل السلاح، كما أنه لم يحترم قواعد الديمقراطية، لأن أي فريق لا يستطيع أن يستخدم نجاحه في الانتخابات، من هنا يعتقد البعض أن الذهاب إلى الخيار الخطأ هو الخلاص». ويشدد سعيد على أنه «لا حلّ لجميع اللبنانيين إلّا بدولة تكفل المساواة في الحقوق والواجبات بين كلّ اللبنانيين».
وأعادت بعض الأحزاب المسيحية مشروع الفيدرالية إلى الواجهة في عام 1989، بسبب الخوف من السلاح السوري، وعلى أثر نشوب ما عرف بـ«حرب التحرير» بين جزء من الجيش اللبناني بقيادة ميشال عون، والقوات السورية في لبنان. ويرى النائب فارس سعيد أن «التاريخ يعيد نفسه، واليوم بات الخوف من السلاح الإيراني يدغدغ أحلام البعض بالفيدرالية». ويقول سعيد: «الحلّ يكون واحداً لجميع اللبنانيين وهو قيام دولة حقيقية تحمي الجميع وتؤمن المساواة بينهم»، معتبراً أن «من يعتقد أنه قادر على ابتكار الحلول على قياسات الجماعات مخطئ وواهم، والتجارب السابقة أثبتت أن هذا الكلام لا يستقيم».
ضمانة للمسيحيين
كلّما اشتدّ الصراع الداخلي الذي يكتسب بعداً طائفياً ومذهبياً، تعود النغمة إلى خيار الفيدرالية أو التقسيم، فخلال مؤتمر «سيدة البير» ما بين عامي 1976 و1977، طرح عضو المكتب السياسي في حزب «الكتلة الوطنية» المحامي موسى برنس، موضوع الفيدرالية ضمانة للمسيحيين في لبنان بسبب سطوة منظمة التحرير الفلسطينية على القرار السياسي في لبنان، واستتبع ذلك «تنقية عرقية» داخل المنطقة المسيحية، حيث تمّ ترحيل الفلسطينيين من منطقتي النبعة وتلّ الزعتر (شرق بيروت) إلى مخيمات صبرا وشاتيلا في غرب بيروت، وانتهى بإدخال العنف إلى كلّ المناطق اللبنانية.
ويرى الوزير السابق رشيد درباس، أن «الدعوة إلى الفيدرالية تؤدي إلى تلوث نظري وسمعي لا أكثر ولا أقلّ». ويعدّ أن «أخطر ما في مخيّلة أصحاب الفيدرالية هو الاعتقاد أن لديهم رؤية ثقافية بعيدة عن ثقافة الآخرين».
ويقول درباس في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «من يعتقد أن الطوائف المسيحية قادرة على أن تنأى بنفسها عن الثقافة الإسلامية واهم، لأن المسيحيين عاشوا مع الثقافة الإسلامية أكثر من 14 قرناً، وكان بينهم علماء وفقهاء وأدباء ومفكرون، وفي وقت من الأوقات، كانوا جزءاً من الدولة الإسلامية»، واصفاً طروحات الفيدرالية بأنها «مجرّد أوهام وتخيلات غير قابلة للتطبيق، لأن أصحابها يتجاهلون الأسباب الحقيقية التي أوصلتهم إلى هذا الخيار، وهي ازدواجية السلطة». ويؤكد الوزير درباس وهو نقيب سابق للمحامين ومرجع قانوني بارز، أنه «لا توجد دولة في العالم تعيش ازدواجية السلطة إلّا وصلت إلى هذه النتيجة». ويسأل: «هل الدماء الإسلامية التي أرهقت على يد المسيحيين أكثر أم على أيدي المسلمين؟ وهل المسيحيون قُتلوا أكثر على أيدي المسلمين أم المسيحيين؟». ويشدد درباس على أنه «لا يمكن لأحد أن يجردنا كمسلمين من ثقافتنا المسيحية ونحن الذين درسنا في المدارس الكاثوليكية»، ملاحظاً أن «المشكلة في السياسات العامة التي من المفترض أن تؤمن مصالح المواطنين لا مصلحة فئة على حساب أخرى».
رشا عيتاني
من جهتها، أعلنت المنسقة العامة للمؤتمر الدائم للفيدرالية المهندسة رشا عيتاني، أن «مطلب الفيدرالية بدأ جدياً في عام 2016، على أثر انتشار الفساد وهيمنة الأحزاب الطائفية على الدولة». وقالت في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن «الدعوة إلى الفيدرالية جاءت بعد دراسات بيّنت أن النظام المركزي لا يمكن أن يبني دولة». وأشارت إلى أن «النظام الفيدرالي هو الحلّ الأمثل لبلد تعددي، واليوم أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً بعد المآسي التي يعيشها لبنان؛ ومنها الفراغ الرئاسي والحكومي وتعطيل المؤسسة التشريعية».
وعدّت عيتاني أن بيروت «أكثر من دفع ثمناً لفشل النظام المركزي، الذي كان سبباً في الخضات الأمنية التي عاشتها العاصمة سواء في 7 مايو (أيار) 2008، أو خلال أزمة النفايات في عام 2015، ومن بعدها ثورة 19 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت، الذي شكّل كارثة عالمية ولم يحاسب عليها أحد». وأعطت أمثلة على البلدان التي تعيش في كنف الفيدرالية والتي تشهد استقراراً وازدهاراً، مقابل لبنان الذي يعيش في ظلّ اللانظام واللاقانون».
لا يخلو تاريخ لبنان من الصراعات السياسية والطائفية، قليلة سنوات الاستقرار التي عاشها بلد التنوّع وتعدد الطوائف والثقافات منذ قيام دولة لبنان الكبير في عام 1920، لذلك عند كلّ مرحلة مفصلية تستيقظ في أذهان البعض طروحات الفيدرالية، وأحياناً أفكار التقسيم، التي تتيح لكلّ طائفة أن تحكم نفسها بنفسها حتى لا تطغى عليها طائفة أخرى.
في السنوات الأخيرة وفي ذروة الانقسامات السياسية التي اكتسبت في كثير من الأحيان بعداً طائفياً، علت أصوات داخل المكون المسيحي تطالبه بالفيدرالية، «حتى لا يهاجر من تبقى من المسيحيين، أو لا يذوبوا في الطوائف الأخرى». وتتعدد المقاربات حيال هذا الطرح، إذ عدّ أستاذ العلوم السياسية في جامعة كلارمونت بكاليفورنيا الدكتور هشام بو ناصيف، أن «الفيدرالية هي الطريق الوحيدة لإدارة العلاقات بين الطوائف بسلام وبعيداً عن الحروب والاحتلالات».
وأشار إلى أنه «لا يمكن إدارة شؤون مجتمع متعدد الطوائف من خلال دولة مركزية». ولفت في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «الدولة المركزية التي أنشئت في لبنان قبل أكثر من 100 عام، حفل تاريخها بالحروب ولم تنعم إلّا بهُدن هشّة لم تدُم طويلاً، بسبب الكمّ الكبير من التناقضات»، معتبراً أن «الطوائف لديها شخصيات وقراءات للتاريخ لا تزول بسنوات وعقود». وشدد بو ناصيف على «ضرورة إدارة الحكم في لبنان عبر الفيدرالية والحياد، كما فعلت سويسرا التي تمكنت بحيادها أن تتجنّب الانخراط في الحرب العالمية الثانية».
كثيرة هي المحطات التاريخية التي دغدغت فيها الفيدرالية عواطف اللبنانيين، بدءاً من انتهاء حقبة «متصرفية جبل لبنان» وإنشاء دولة لبنان الكبير، وبلغت أوجها في ظلّ ما عرف بحكم «المارونية السياسية» وشعور المسلمين بالغبن، لكنها ما لبثت أن غابت مع المدّ العروبي الناصري لتظهر مجدداً في منتصف سبعينات القرن الماضي. وربط رئيس لقاء «سيّدة الجبل» النائب السابق فارس سعيد، بين هذا الأمر «وكلّ مرحلة نشهد فيها على انهيار الدولة واضطرار الجماعات للبحث عن ضمانات رديفة».
وقال: «الآن يظنّ المسيحيون وربما غيرهم، أن ضمانتهم في اقتطاع جزء من الجغرافيا وإقامة مؤسساتهم عليها». وذكّر في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، بأن «هذا الأمر جرّبه اللبنانيون في مرحلة الحرب الأهلية، وكان ذلك الأسهل إلى تسرّب الاقتتال إلى داخل كلّ طائفة وعائلة، كالاقتتال الشيعي ـ الشيعي في إقليم التفاح (جنوب لبنان)، والاقتتال المسيحي - المسيحي بين كفرشيما ومنطقة المدفون (جبل لبنان)، والاقتتال السنّي - الشيعي في حرب المخيمات ببيروت، والقاسم المشترك بين كلّ هذه الحروب، انهيار الضمانة الجماعية أي ضمانة الدولة». وأضاف سعيد: «حزب الله يشجّع بشكل مباشر أو غير مباشر على استنساخ تجربته، بحيث إن طوائف بدأت تقول إن بيئة (حزب الله) مثالية، لأنه يؤمن الخدمات الصحية والتربوية والاجتماعية لطائفته، وينظرون إليه على أن ينشئ جيشاً ومؤسسات رديفة للدولة»، مشيراً إلى أن «ميزة حزب الله أنه يستقوي بالخارج على الداخل عبر إيران، ولولاها لم يستطع إقامة دولة في الداخل اللبناني».
الأسباب المحفّزة على فكرة الفيدرالية تبدو أبعد من الحرب الأهلية وطغيان سلاح «حزب الله» على قرار الدولة، وهنا يعترف هشام بو ناصيف بأن «سيطرة حزب الله على قرار الدولة عامل أساسي من عوامل تقويض لبنان ومؤسساته»، لكنه يلفت إلى أن «تاريخ لبنان مليء بالصراعات، والحزب لم يكن موجوداً في مرحلة الصراعات بين أقضية جبل لبنان، ولا في بداية الحرب الأهلية». ويشير إلى أن «منطق الحرب الأهلية شيء وانهيار الدولة شيء آخر، لذلك لا يصحّ إلباس فشل النظام المركزي للفيدرالية». ولا يخفي بو ناصيف «وجود خطر حقيقي على المسيحيين في ظلّ الدولة المركزية». ويذهب بعيداً ليعبّر عن خوفه من إلغاء الطائفية السياسية. ويسأل: «من قال إن إلغاء الطائفية السياسية لا يعني إلغاء المسيحيين؟»، عادّاً أنه «إذا بقيت المناصفة يعني أن المسيحيين سيأتون بأصوات المسلمين، لذلك فإن الفيدرالية وحدها التي تمنع هيمنة طوائف على أخرى». ويضيف: «إذا لم نستطع خلال 100 عام أن نبني دولة، متى نبني هذه الدولة؟ وإذا انتظرنا 50 سنة إضافية في ظلّ هذا النظام لن يبقى مسيحي واحد في لبنان».
وطالما أن مفاهيم الدعوة إلى الفيدرالية لا تأتي إلّا عند شعور طائفة أو مكوّن لبناني بالتهميش، يحذّر النائب السابق فارس سعيد من رغبة البعض في اعتماد تجربة «حزب الله». ويؤكد أن «من يريد أن يكرر تجربة (حزب الله) فعليه أن يستقوي بدولة خارجية مثل إسرائيل أو تركيا أو العلويين، وهذا يعني إدخال لبنان في حروب دائمة بين الطوائف». ويعبّر عن أسفه لأن «حزب الله نسف مفهوم العيش المشترك، لأنه لم يحترم قواعد العدالة في لبنان، هو تنظيم مسلّح ولا يسمح لغيره بحمل السلاح، كما أنه لم يحترم قواعد الديمقراطية، لأن أي فريق لا يستطيع أن يستخدم نجاحه في الانتخابات، من هنا يعتقد البعض أن الذهاب إلى الخيار الخطأ هو الخلاص». ويشدد سعيد على أنه «لا حلّ لجميع اللبنانيين إلّا بدولة تكفل المساواة في الحقوق والواجبات بين كلّ اللبنانيين».
وأعادت بعض الأحزاب المسيحية مشروع الفيدرالية إلى الواجهة في عام 1989، بسبب الخوف من السلاح السوري، وعلى أثر نشوب ما عرف بـ«حرب التحرير» بين جزء من الجيش اللبناني بقيادة ميشال عون، والقوات السورية في لبنان. ويرى النائب فارس سعيد أن «التاريخ يعيد نفسه، واليوم بات الخوف من السلاح الإيراني يدغدغ أحلام البعض بالفيدرالية». ويقول سعيد: «الحلّ يكون واحداً لجميع اللبنانيين وهو قيام دولة حقيقية تحمي الجميع وتؤمن المساواة بينهم»، معتبراً أن «من يعتقد أنه قادر على ابتكار الحلول على قياسات الجماعات مخطئ وواهم، والتجارب السابقة أثبتت أن هذا الكلام لا يستقيم».
ضمانة للمسيحيين
كلّما اشتدّ الصراع الداخلي الذي يكتسب بعداً طائفياً ومذهبياً، تعود النغمة إلى خيار الفيدرالية أو التقسيم، فخلال مؤتمر «سيدة البير» ما بين عامي 1976 و1977، طرح عضو المكتب السياسي في حزب «الكتلة الوطنية» المحامي موسى برنس، موضوع الفيدرالية ضمانة للمسيحيين في لبنان بسبب سطوة منظمة التحرير الفلسطينية على القرار السياسي في لبنان، واستتبع ذلك «تنقية عرقية» داخل المنطقة المسيحية، حيث تمّ ترحيل الفلسطينيين من منطقتي النبعة وتلّ الزعتر (شرق بيروت) إلى مخيمات صبرا وشاتيلا في غرب بيروت، وانتهى بإدخال العنف إلى كلّ المناطق اللبنانية.
ويرى الوزير السابق رشيد درباس، أن «الدعوة إلى الفيدرالية تؤدي إلى تلوث نظري وسمعي لا أكثر ولا أقلّ». ويعدّ أن «أخطر ما في مخيّلة أصحاب الفيدرالية هو الاعتقاد أن لديهم رؤية ثقافية بعيدة عن ثقافة الآخرين».
ويقول درباس في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «من يعتقد أن الطوائف المسيحية قادرة على أن تنأى بنفسها عن الثقافة الإسلامية واهم، لأن المسيحيين عاشوا مع الثقافة الإسلامية أكثر من 14 قرناً، وكان بينهم علماء وفقهاء وأدباء ومفكرون، وفي وقت من الأوقات، كانوا جزءاً من الدولة الإسلامية»، واصفاً طروحات الفيدرالية بأنها «مجرّد أوهام وتخيلات غير قابلة للتطبيق، لأن أصحابها يتجاهلون الأسباب الحقيقية التي أوصلتهم إلى هذا الخيار، وهي ازدواجية السلطة». ويؤكد الوزير درباس وهو نقيب سابق للمحامين ومرجع قانوني بارز، أنه «لا توجد دولة في العالم تعيش ازدواجية السلطة إلّا وصلت إلى هذه النتيجة». ويسأل: «هل الدماء الإسلامية التي أرهقت على يد المسيحيين أكثر أم على أيدي المسلمين؟ وهل المسيحيون قُتلوا أكثر على أيدي المسلمين أم المسيحيين؟». ويشدد درباس على أنه «لا يمكن لأحد أن يجردنا كمسلمين من ثقافتنا المسيحية ونحن الذين درسنا في المدارس الكاثوليكية»، ملاحظاً أن «المشكلة في السياسات العامة التي من المفترض أن تؤمن مصالح المواطنين لا مصلحة فئة على حساب أخرى».
رشا عيتاني
من جهتها، أعلنت المنسقة العامة للمؤتمر الدائم للفيدرالية المهندسة رشا عيتاني، أن «مطلب الفيدرالية بدأ جدياً في عام 2016، على أثر انتشار الفساد وهيمنة الأحزاب الطائفية على الدولة». وقالت في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن «الدعوة إلى الفيدرالية جاءت بعد دراسات بيّنت أن النظام المركزي لا يمكن أن يبني دولة». وأشارت إلى أن «النظام الفيدرالي هو الحلّ الأمثل لبلد تعددي، واليوم أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً بعد المآسي التي يعيشها لبنان؛ ومنها الفراغ الرئاسي والحكومي وتعطيل المؤسسة التشريعية».
وعدّت عيتاني أن بيروت «أكثر من دفع ثمناً لفشل النظام المركزي، الذي كان سبباً في الخضات الأمنية التي عاشتها العاصمة سواء في 7 مايو (أيار) 2008، أو خلال أزمة النفايات في عام 2015، ومن بعدها ثورة 19 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت، الذي شكّل كارثة عالمية ولم يحاسب عليها أحد». وأعطت أمثلة على البلدان التي تعيش في كنف الفيدرالية والتي تشهد استقراراً وازدهاراً، مقابل لبنان الذي يعيش في ظلّ اللانظام واللاقانون».
لا يخلو تاريخ لبنان من الصراعات السياسية والطائفية، قليلة سنوات الاستقرار التي عاشها بلد التنوّع وتعدد الطوائف والثقافات منذ قيام دولة لبنان الكبير في عام 1920، لذلك عند كلّ مرحلة مفصلية تستيقظ في أذهان البعض طروحات الفيدرالية، وأحياناً أفكار التقسيم، التي تتيح لكلّ طائفة أن تحكم نفسها بنفسها حتى لا تطغى عليها طائفة أخرى.
في السنوات الأخيرة وفي ذروة الانقسامات السياسية التي اكتسبت في كثير من الأحيان بعداً طائفياً، علت أصوات داخل المكون المسيحي تطالبه بالفيدرالية، «حتى لا يهاجر من تبقى من المسيحيين، أو لا يذوبوا في الطوائف الأخرى». وتتعدد المقاربات حيال هذا الطرح، إذ عدّ أستاذ العلوم السياسية في جامعة كلارمونت بكاليفورنيا الدكتور هشام بو ناصيف، أن «الفيدرالية هي الطريق الوحيدة لإدارة العلاقات بين الطوائف بسلام وبعيداً عن الحروب والاحتلالات».
وأشار إلى أنه «لا يمكن إدارة شؤون مجتمع متعدد الطوائف من خلال دولة مركزية». ولفت في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «الدولة المركزية التي أنشئت في لبنان قبل أكثر من 100 عام، حفل تاريخها بالحروب ولم تنعم إلّا بهُدن هشّة لم تدُم طويلاً، بسبب الكمّ الكبير من التناقضات»، معتبراً أن «الطوائف لديها شخصيات وقراءات للتاريخ لا تزول بسنوات وعقود». وشدد بو ناصيف على «ضرورة إدارة الحكم في لبنان عبر الفيدرالية والحياد، كما فعلت سويسرا التي تمكنت بحيادها أن تتجنّب الانخراط في الحرب العالمية الثانية».
كثيرة هي المحطات التاريخية التي دغدغت فيها الفيدرالية عواطف اللبنانيين، بدءاً من انتهاء حقبة «متصرفية جبل لبنان» وإنشاء دولة لبنان الكبير، وبلغت أوجها في ظلّ ما عرف بحكم «المارونية السياسية» وشعور المسلمين بالغبن، لكنها ما لبثت أن غابت مع المدّ العروبي الناصري لتظهر مجدداً في منتصف سبعينات القرن الماضي. وربط رئيس لقاء «سيّدة الجبل» النائب السابق فارس سعيد، بين هذا الأمر «وكلّ مرحلة نشهد فيها على انهيار الدولة واضطرار الجماعات للبحث عن ضمانات رديفة».
وقال: «الآن يظنّ المسيحيون وربما غيرهم، أن ضمانتهم في اقتطاع جزء من الجغرافيا وإقامة مؤسساتهم عليها». وذكّر في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، بأن «هذا الأمر جرّبه اللبنانيون في مرحلة الحرب الأهلية، وكان ذلك الأسهل إلى تسرّب الاقتتال إلى داخل كلّ طائفة وعائلة، كالاقتتال الشيعي ـ الشيعي في إقليم التفاح (جنوب لبنان)، والاقتتال المسيحي - المسيحي بين كفرشيما ومنطقة المدفون (جبل لبنان)، والاقتتال السنّي - الشيعي في حرب المخيمات ببيروت، والقاسم المشترك بين كلّ هذه الحروب، انهيار الضمانة الجماعية أي ضمانة الدولة». وأضاف سعيد: «حزب الله يشجّع بشكل مباشر أو غير مباشر على استنساخ تجربته، بحيث إن طوائف بدأت تقول إن بيئة (حزب الله) مثالية، لأنه يؤمن الخدمات الصحية والتربوية والاجتماعية لطائفته، وينظرون إليه على أن ينشئ جيشاً ومؤسسات رديفة للدولة»، مشيراً إلى أن «ميزة حزب الله أنه يستقوي بالخارج على الداخل عبر إيران، ولولاها لم يستطع إقامة دولة في الداخل اللبناني».
الأسباب المحفّزة على فكرة الفيدرالية تبدو أبعد من الحرب الأهلية وطغيان سلاح «حزب الله» على قرار الدولة، وهنا يعترف هشام بو ناصيف بأن «سيطرة حزب الله على قرار الدولة عامل أساسي من عوامل تقويض لبنان ومؤسساته»، لكنه يلفت إلى أن «تاريخ لبنان مليء بالصراعات، والحزب لم يكن موجوداً في مرحلة الصراعات بين أقضية جبل لبنان، ولا في بداية الحرب الأهلية». ويشير إلى أن «منطق الحرب الأهلية شيء وانهيار الدولة شيء آخر، لذلك لا يصحّ إلباس فشل النظام المركزي للفيدرالية». ولا يخفي بو ناصيف «وجود خطر حقيقي على المسيحيين في ظلّ الدولة المركزية». ويذهب بعيداً ليعبّر عن خوفه من إلغاء الطائفية السياسية. ويسأل: «من قال إن إلغاء الطائفية السياسية لا يعني إلغاء المسيحيين؟»، عادّاً أنه «إذا بقيت المناصفة يعني أن المسيحيين سيأتون بأصوات المسلمين، لذلك فإن الفيدرالية وحدها التي تمنع هيمنة طوائف على أخرى». ويضيف: «إذا لم نستطع خلال 100 عام أن نبني دولة، متى نبني هذه الدولة؟ وإذا انتظرنا 50 سنة إضافية في ظلّ هذا النظام لن يبقى مسيحي واحد في لبنان».
وطالما أن مفاهيم الدعوة إلى الفيدرالية لا تأتي إلّا عند شعور طائفة أو مكوّن لبناني بالتهميش، يحذّر النائب السابق فارس سعيد من رغبة البعض في اعتماد تجربة «حزب الله». ويؤكد أن «من يريد أن يكرر تجربة (حزب الله) فعليه أن يستقوي بدولة خارجية مثل إسرائيل أو تركيا أو العلويين، وهذا يعني إدخال لبنان في حروب دائمة بين الطوائف». ويعبّر عن أسفه لأن «حزب الله نسف مفهوم العيش المشترك، لأنه لم يحترم قواعد العدالة في لبنان، هو تنظيم مسلّح ولا يسمح لغيره بحمل السلاح، كما أنه لم يحترم قواعد الديمقراطية، لأن أي فريق لا يستطيع أن يستخدم نجاحه في الانتخابات، من هنا يعتقد البعض أن الذهاب إلى الخيار الخطأ هو الخلاص». ويشدد سعيد على أنه «لا حلّ لجميع اللبنانيين إلّا بدولة تكفل المساواة في الحقوق والواجبات بين كلّ اللبنانيين».
وأعادت بعض الأحزاب المسيحية مشروع الفيدرالية إلى الواجهة في عام 1989، بسبب الخوف من السلاح السوري، وعلى أثر نشوب ما عرف بـ«حرب التحرير» بين جزء من الجيش اللبناني بقيادة ميشال عون، والقوات السورية في لبنان. ويرى النائب فارس سعيد أن «التاريخ يعيد نفسه، واليوم بات الخوف من السلاح الإيراني يدغدغ أحلام البعض بالفيدرالية». ويقول سعيد: «الحلّ يكون واحداً لجميع اللبنانيين وهو قيام دولة حقيقية تحمي الجميع وتؤمن المساواة بينهم»، معتبراً أن «من يعتقد أنه قادر على ابتكار الحلول على قياسات الجماعات مخطئ وواهم، والتجارب السابقة أثبتت أن هذا الكلام لا يستقيم».
ضمانة للمسيحيين
كلّما اشتدّ الصراع الداخلي الذي يكتسب بعداً طائفياً ومذهبياً، تعود النغمة إلى خيار الفيدرالية أو التقسيم، فخلال مؤتمر «سيدة البير» ما بين عامي 1976 و1977، طرح عضو المكتب السياسي في حزب «الكتلة الوطنية» المحامي موسى برنس، موضوع الفيدرالية ضمانة للمسيحيين في لبنان بسبب سطوة منظمة التحرير الفلسطينية على القرار السياسي في لبنان، واستتبع ذلك «تنقية عرقية» داخل المنطقة المسيحية، حيث تمّ ترحيل الفلسطينيين من منطقتي النبعة وتلّ الزعتر (شرق بيروت) إلى مخيمات صبرا وشاتيلا في غرب بيروت، وانتهى بإدخال العنف إلى كلّ المناطق اللبنانية.
ويرى الوزير السابق رشيد درباس، أن «الدعوة إلى الفيدرالية تؤدي إلى تلوث نظري وسمعي لا أكثر ولا أقلّ». ويعدّ أن «أخطر ما في مخيّلة أصحاب الفيدرالية هو الاعتقاد أن لديهم رؤية ثقافية بعيدة عن ثقافة الآخرين».
ويقول درباس في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «من يعتقد أن الطوائف المسيحية قادرة على أن تنأى بنفسها عن الثقافة الإسلامية واهم، لأن المسيحيين عاشوا مع الثقافة الإسلامية أكثر من 14 قرناً، وكان بينهم علماء وفقهاء وأدباء ومفكرون، وفي وقت من الأوقات، كانوا جزءاً من الدولة الإسلامية»، واصفاً طروحات الفيدرالية بأنها «مجرّد أوهام وتخيلات غير قابلة للتطبيق، لأن أصحابها يتجاهلون الأسباب الحقيقية التي أوصلتهم إلى هذا الخيار، وهي ازدواجية السلطة». ويؤكد الوزير درباس وهو نقيب سابق للمحامين ومرجع قانوني بارز، أنه «لا توجد دولة في العالم تعيش ازدواجية السلطة إلّا وصلت إلى هذه النتيجة». ويسأل: «هل الدماء الإسلامية التي أرهقت على يد المسيحيين أكثر أم على أيدي المسلمين؟ وهل المسيحيون قُتلوا أكثر على أيدي المسلمين أم المسيحيين؟». ويشدد درباس على أنه «لا يمكن لأحد أن يجردنا كمسلمين من ثقافتنا المسيحية ونحن الذين درسنا في المدارس الكاثوليكية»، ملاحظاً أن «المشكلة في السياسات العامة التي من المفترض أن تؤمن مصالح المواطنين لا مصلحة فئة على حساب أخرى».
رشا عيتاني
من جهتها، أعلنت المنسقة العامة للمؤتمر الدائم للفيدرالية المهندسة رشا عيتاني، أن «مطلب الفيدرالية بدأ جدياً في عام 2016، على أثر انتشار الفساد وهيمنة الأحزاب الطائفية على الدولة». وقالت في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن «الدعوة إلى الفيدرالية جاءت بعد دراسات بيّنت أن النظام المركزي لا يمكن أن يبني دولة». وأشارت إلى أن «النظام الفيدرالي هو الحلّ الأمثل لبلد تعددي، واليوم أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً بعد المآسي التي يعيشها لبنان؛ ومنها الفراغ الرئاسي والحكومي وتعطيل المؤسسة التشريعية».
وعدّت عيتاني أن بيروت «أكثر من دفع ثمناً لفشل النظام المركزي، الذي كان سبباً في الخضات الأمنية التي عاشتها العاصمة سواء في 7 مايو (أيار) 2008، أو خلال أزمة النفايات في عام 2015، ومن بعدها ثورة 19 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت، الذي شكّل كارثة عالمية ولم يحاسب عليها أحد». وأعطت أمثلة على البلدان التي تعيش في كنف الفيدرالية والتي تشهد استقراراً وازدهاراً، مقابل لبنان الذي يعيش في ظلّ اللانظام واللاقانون».
التعليقات