بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ السياسات العامة المشارك
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
استضافت العاصمة الفرنسية باريس، على مدى يومين خلال الأسبوع الماضي، قمة خاصة تحت شعار «من أجل ميثاق مالي عالمي جديد»، الهدف المُعلَن منها هو الوصول إلى إجماع حول نظام مالي يمكنه تحقيق الأهداف العالمية المُستدامة الخاصة بالحد من الفقر، ومتطلبات التغيُّر المناخي، وتحقيق حماية للطبيعة. واستهدف اللقاء حضور عدد كبير من رؤساء الدول والحكومات، وما يزيد على 40 مؤسَّسة دولية، ومئات الممثّلين عن المؤسسات غير الربحية، ومؤسَّسات القطاع الخاص المعنية بالأمر، لتكون المحصّلة، حسب طموحات المنظِّمين، الوصول إلى نظام مالي جديد أكثر عدلاً، وأكثر قدرة على مواجهة التحديات العالمية القائمة اليوم، التي حدَّدتها القمة بأربع نقاط أساسية هي: إصلاح بنوك التنمية متعددة الأطراف، وحل أزمة الديون في الدول النامية، وتمويل التكنولوجيا الخضراء والتنمية المستدامة، وإنشاء نظام ضرائب دولي جديد ضمن أدوات تمويل مبتكرة، وأخيراً دعم جهود القطاع الخاص وتحفيزه إلى المشاركة في التنمية في الدول ذات الدخل المنخفض. بيد أنَّ فتح هذا الموضوع في ظل الأوضاع العالمية القائمة، وخاصة ما يتعلَّق بالنظام المالي العالمي القائم حالياً، فتح شهية العديد من المشاركين إلى الخروج نحو أفق مختلف تماماً، وهو طرح مسألة بقاء الدولار كعملة تسويات عالمية، بل والحديث صراحة عن الحاجة للخروج من منظومة التسويات الدولية المعتمدة على الدولار في التعاملات الدولية كافَّة. وقد كان الأكثر صراحة في ذلك السياق رئيس البرازيل، لويس دا سيلفا، الذي طرح بكلِّ جراءة موضوع التعاملات بالدولار، مؤكداً أنَّ الوقت قد حان للتفكير بشكل جاد في التخلّي عن الدولار الأمريكي، كعملة دولية، وعملة للاحتياطيات الأجنبية، والتحوُّل في التسويات المالية البينية بين دول العالم باستخدام العملات المحلية لكلٍّ منها، أو بأيِّ عملة وسطية تقبلها الأطراف، وأشار إلى أنَّ قمة مجموعة بريكس القادمة، التي ستُعقَد في جنوب إفريقيا نهاية شهر آب/أغسطس 2023، ستناقش هذا الموضوع بشكل صريح. الخروج عن عملة الدولار، كعملة دولية ووسيط للتبادل التجاري العالمي، ليس بالأمر اليسير، وليس من السهولة بمكان بأن يحدث بين ليلة وضحاها. فالخروج الكامل عمّا كان يسمّى منطقة الإسترليني، حينما كان الجنيه الاسترليني العملة العالمية الوسيطة، كما هو الدولار اليوم، استغرق ما يزيد على 30 عاماً، حتى بعد أفول شمس بريطانيا العظمى، وتخلّيها عن ربط الجنيه الإسترليني بقاعدة الذهب، لصالح الدولار الأمريكي، الذي بدوره وضع العالم على المحك منذ عام 1971، حينما وضع الرئيس الأمريكي نيكسون العالم أمام ما عُرِف بـ«صدمة نيكسون»، حينما فكَّ ارتباط الدولار بالذهب، وترك العالم أمام خيار واحد لا بديل له، وهو الربط مع الدولار مباشرة، أمّا من أراد الخروج عن قاعدة الدولار، فلم يجد لذلك سبيلاً حقيقياً. ومن هنا فالدولار، وعلى مدى ما ينوف على أربعة عقود، كان العملة الدولية للتسويات العالمية، وبات المقياس العالمي للقِيَم، أي الوسيط الرئيس لحساب قيمة البضائع، والخدمات، ووسيطاً للتبادل، أي للتسويات المالية بين دول العالم، ووسيلة الدفع الآجِل، ومخزناً للقيمة، أي مخزناً لقيمة مدخرات الأفراد والدول، أي المكوِّن الأساس للاحتياطيات الأجنبية للدول، وبالتالي المحدّد الرئيس للقوة الشرائية للعملات. ومن هنا نجد أنَّ احتياطيات الدول اليوم مقومة بالدولار، سواء احتفظت بها البنوك المركزية بالدولار، أم بالذهب، أو حتى بالعملات الدولية الأخرى. فالصين، التي تأتي على قمة هرم الاحتياطيات الأجنبية في العالم، تُقدَّر احتياطياتها بنحو 3.4 تريليونات دولار، يأتي بعدها اليابان، بنحو 1.25 تريليون، ثمَّ سويسرا، بنحو 912 مليار، في حين أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية تأتي في المرتبة الثانية عشرة عالمياً، وباحتياطيات لا تتجاوز 242 مليار دولار. ومن هنا، فإنَّ الخروج على الدولار كعملة عالمية للتسويات لن يكون من السهولة بمكان في الأجل القريب أو المتوسط. بيد أنَّ دول العالم الأكثر تأثيراً في التجارة العالمية، والتوازنات الدولية، وفي سلع التبادل التجاري العالمي، وهو الأهم، جميعها بات يعتقد بأنَّ الوقت قد حان للخروج بمنظومة تسويات دولية أكثر عدلاً وإنصافاً، وأقل هيمنةً من قِبَل القطب الواحد، الذي بات يستخدم العملة كسلاح بديل وموجع للاقتصادات العالمية. ولعلَّ هذا الطرح نتج عمّا شهده العالم من سياسات انتهجتها الولايات المتحدة، في المجال الاقتصادي والسياسي، دفعت بالكثير من دول العالم نحو التفكير بالخروج من رادار التحكُّم والسيطرة الأمريكي. فمن ناحية، جاء التوسُّع في فرض عقوبات اقتصادية عالمية ومنع دول كبرى مثل روسيا، من استخدام نظام التسويات المالية (سويفت SWIFT) بمثابة إنذارٍ مبكِّرٍ لدول العالم أنها ستكون عُرْضَةً لذلك أمام أيِّ خروجٍ عن بيت الطاعة الأمريكي، ومن ناحية ثانية، فإنَّ توسُّع سياسات التسيير النقدي، الذي اتبعته الولايات المتحدة خلال الأزمات المالية، منذ عام 2008، وخلال أزمة كورونا، وضخ مبالغ طائلة من الدولارات دون حسيب أو رقيب، ودون إنتاجية حقيقية، بل وطبع كميات كبيرة من النقود الأمريكية وضخّها في الأسواق المالية المحلية والعالمية، كلُّ ذلك حتَّم على الولايات المتحدة أن تلجأ اليوم إلى سياسات انكماشية نقدية، برفع أسعار الفائدة بشكل متتالٍ وصل إلى اثنتي عشرة مرة، تراوح ذلك بين 250 نقطة أساس إلى 750 نقطة أساس في كلِّ مرة، حفاظاً على القوة الشرائية للدولار، ومكافحة للتضخُّم، ما أجبر جميع دول العالم، دون استثناءٍ يُذكَر، إلى القيام بذات الإجراء، حفاظاً على القوة الشرائية لعملتها من جهة، ومنع حدوث ظاهرة الدولرة لديها، من جهة ثانية، أي التحوُّل في المدخرات من العملة المحلية إلى الدولار طمعاً بالعائد الأكبر، والمحصّلة فقدان الدول لاستقلاليتها النقدية، أمام سياسات الولايات المتحدة. وقد زاد من الضغوط العالمية نحو التحوُّل عن الدولار كثرة عمليات تبيض الأموال الناشئة عن التجارة غير الشرعية في الأسلحة والمخدرات، في ظل حالة الفوضى الكبيرة التي أحدثتها سياسات التوازنات والمصالح، وأدت إلى ثروات غير شريعة، وأثرياء غير شرعيين أيضاً، حقنوا العالم بمبالغ ضخمة من الدولارات، وأغرقوا الأسواق العالمية بدولارات غير نظيفة وجعل من الكتلة الدولارية مؤرقاً لدول العالم أجمع، وبات الدولار نظرياً عملة الولايات المتحدة، وواقعياً مشكلة دول العالم أجمع. التداعيات السابقة جميعها، تعزِّز الحاجة إلى نظام عالمي جديد، سيظهر بلا شكٍّ خلال العقدين القادمين، التخلّي عن الدولار كعملة دولية حادث لا محالة، وتاريخ النقود في العالم يشير إلى حدوث ذلك مع أيِّ عملة، أو حتى أيِّ معدن، أو أيِّ سلعة، تم اعتمادها للتسويات الدولية، ولكن الأمر لن يحدث فجأة، ولن ينتهي دور الدولار بين يوم وليلة. النظام العالم الجديد الأكثر عدلاً، من وجهة نظر المتعاملين الدوليين، واللاعبين والفاعليين العالميين في مجالات التجارة الدولية، سيكون أكثر تنوُّعاً من حيث الهيكلية؛ فالمعطيات على أرض الواقع تشير إلى نظام تسويات عالمي، أو ميثاق عالمي جديد، يقوم على مكوِّنَيْنِ أساسيين اثنين؛ الأوِّل، آلية مالية تتكوَّن من سلة من العملات، يكون وزن كلِّ عملة من العملات في هذه الآلية بحسب حجمها النسبي في التجارة العالمية، والثاني، مكوِّن رقمي يقوم على إصدار مجموعة من العملات الرقمية، التي تكفلها دولة معينة أو أكثر بعملتها أو بالآلية المشار إليها سابقاً. حيث تحقِّق تلك العملات الوظائف الثلاث الأساسية للنقود، بضمانة وكفالة تلك الدولة؛ أي أن تكون وسيطاً للتبادل بين الدول، ووحدة لحساب قيمة السلع والخدمات المتبادلة بين الدولة، ومخزناً للقيم، أي للادخار القومي، وأخيراً وليس آخراً، وسيطاً، أو وسيلة للدفع الآجل (البيع تحت الحساب)، أي للاقتراض والتسوية اللاحقة. وختاماً، لعلَّ من المنصف أن نقولَ إنَّ العالم سيشهد آلية تسويات مالية دولية جديدة، لا تعتمد على الدولار، أو لا يكون الدولار هو الأساس فيها، وذلك قبل أن ينتصف هذا القرن، أو حتى قبل أن ينتهي عقده الرابع.
khwazani@gmail.com
بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ السياسات العامة المشارك
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
استضافت العاصمة الفرنسية باريس، على مدى يومين خلال الأسبوع الماضي، قمة خاصة تحت شعار «من أجل ميثاق مالي عالمي جديد»، الهدف المُعلَن منها هو الوصول إلى إجماع حول نظام مالي يمكنه تحقيق الأهداف العالمية المُستدامة الخاصة بالحد من الفقر، ومتطلبات التغيُّر المناخي، وتحقيق حماية للطبيعة. واستهدف اللقاء حضور عدد كبير من رؤساء الدول والحكومات، وما يزيد على 40 مؤسَّسة دولية، ومئات الممثّلين عن المؤسسات غير الربحية، ومؤسَّسات القطاع الخاص المعنية بالأمر، لتكون المحصّلة، حسب طموحات المنظِّمين، الوصول إلى نظام مالي جديد أكثر عدلاً، وأكثر قدرة على مواجهة التحديات العالمية القائمة اليوم، التي حدَّدتها القمة بأربع نقاط أساسية هي: إصلاح بنوك التنمية متعددة الأطراف، وحل أزمة الديون في الدول النامية، وتمويل التكنولوجيا الخضراء والتنمية المستدامة، وإنشاء نظام ضرائب دولي جديد ضمن أدوات تمويل مبتكرة، وأخيراً دعم جهود القطاع الخاص وتحفيزه إلى المشاركة في التنمية في الدول ذات الدخل المنخفض. بيد أنَّ فتح هذا الموضوع في ظل الأوضاع العالمية القائمة، وخاصة ما يتعلَّق بالنظام المالي العالمي القائم حالياً، فتح شهية العديد من المشاركين إلى الخروج نحو أفق مختلف تماماً، وهو طرح مسألة بقاء الدولار كعملة تسويات عالمية، بل والحديث صراحة عن الحاجة للخروج من منظومة التسويات الدولية المعتمدة على الدولار في التعاملات الدولية كافَّة. وقد كان الأكثر صراحة في ذلك السياق رئيس البرازيل، لويس دا سيلفا، الذي طرح بكلِّ جراءة موضوع التعاملات بالدولار، مؤكداً أنَّ الوقت قد حان للتفكير بشكل جاد في التخلّي عن الدولار الأمريكي، كعملة دولية، وعملة للاحتياطيات الأجنبية، والتحوُّل في التسويات المالية البينية بين دول العالم باستخدام العملات المحلية لكلٍّ منها، أو بأيِّ عملة وسطية تقبلها الأطراف، وأشار إلى أنَّ قمة مجموعة بريكس القادمة، التي ستُعقَد في جنوب إفريقيا نهاية شهر آب/أغسطس 2023، ستناقش هذا الموضوع بشكل صريح. الخروج عن عملة الدولار، كعملة دولية ووسيط للتبادل التجاري العالمي، ليس بالأمر اليسير، وليس من السهولة بمكان بأن يحدث بين ليلة وضحاها. فالخروج الكامل عمّا كان يسمّى منطقة الإسترليني، حينما كان الجنيه الاسترليني العملة العالمية الوسيطة، كما هو الدولار اليوم، استغرق ما يزيد على 30 عاماً، حتى بعد أفول شمس بريطانيا العظمى، وتخلّيها عن ربط الجنيه الإسترليني بقاعدة الذهب، لصالح الدولار الأمريكي، الذي بدوره وضع العالم على المحك منذ عام 1971، حينما وضع الرئيس الأمريكي نيكسون العالم أمام ما عُرِف بـ«صدمة نيكسون»، حينما فكَّ ارتباط الدولار بالذهب، وترك العالم أمام خيار واحد لا بديل له، وهو الربط مع الدولار مباشرة، أمّا من أراد الخروج عن قاعدة الدولار، فلم يجد لذلك سبيلاً حقيقياً. ومن هنا فالدولار، وعلى مدى ما ينوف على أربعة عقود، كان العملة الدولية للتسويات العالمية، وبات المقياس العالمي للقِيَم، أي الوسيط الرئيس لحساب قيمة البضائع، والخدمات، ووسيطاً للتبادل، أي للتسويات المالية بين دول العالم، ووسيلة الدفع الآجِل، ومخزناً للقيمة، أي مخزناً لقيمة مدخرات الأفراد والدول، أي المكوِّن الأساس للاحتياطيات الأجنبية للدول، وبالتالي المحدّد الرئيس للقوة الشرائية للعملات. ومن هنا نجد أنَّ احتياطيات الدول اليوم مقومة بالدولار، سواء احتفظت بها البنوك المركزية بالدولار، أم بالذهب، أو حتى بالعملات الدولية الأخرى. فالصين، التي تأتي على قمة هرم الاحتياطيات الأجنبية في العالم، تُقدَّر احتياطياتها بنحو 3.4 تريليونات دولار، يأتي بعدها اليابان، بنحو 1.25 تريليون، ثمَّ سويسرا، بنحو 912 مليار، في حين أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية تأتي في المرتبة الثانية عشرة عالمياً، وباحتياطيات لا تتجاوز 242 مليار دولار. ومن هنا، فإنَّ الخروج على الدولار كعملة عالمية للتسويات لن يكون من السهولة بمكان في الأجل القريب أو المتوسط. بيد أنَّ دول العالم الأكثر تأثيراً في التجارة العالمية، والتوازنات الدولية، وفي سلع التبادل التجاري العالمي، وهو الأهم، جميعها بات يعتقد بأنَّ الوقت قد حان للخروج بمنظومة تسويات دولية أكثر عدلاً وإنصافاً، وأقل هيمنةً من قِبَل القطب الواحد، الذي بات يستخدم العملة كسلاح بديل وموجع للاقتصادات العالمية. ولعلَّ هذا الطرح نتج عمّا شهده العالم من سياسات انتهجتها الولايات المتحدة، في المجال الاقتصادي والسياسي، دفعت بالكثير من دول العالم نحو التفكير بالخروج من رادار التحكُّم والسيطرة الأمريكي. فمن ناحية، جاء التوسُّع في فرض عقوبات اقتصادية عالمية ومنع دول كبرى مثل روسيا، من استخدام نظام التسويات المالية (سويفت SWIFT) بمثابة إنذارٍ مبكِّرٍ لدول العالم أنها ستكون عُرْضَةً لذلك أمام أيِّ خروجٍ عن بيت الطاعة الأمريكي، ومن ناحية ثانية، فإنَّ توسُّع سياسات التسيير النقدي، الذي اتبعته الولايات المتحدة خلال الأزمات المالية، منذ عام 2008، وخلال أزمة كورونا، وضخ مبالغ طائلة من الدولارات دون حسيب أو رقيب، ودون إنتاجية حقيقية، بل وطبع كميات كبيرة من النقود الأمريكية وضخّها في الأسواق المالية المحلية والعالمية، كلُّ ذلك حتَّم على الولايات المتحدة أن تلجأ اليوم إلى سياسات انكماشية نقدية، برفع أسعار الفائدة بشكل متتالٍ وصل إلى اثنتي عشرة مرة، تراوح ذلك بين 250 نقطة أساس إلى 750 نقطة أساس في كلِّ مرة، حفاظاً على القوة الشرائية للدولار، ومكافحة للتضخُّم، ما أجبر جميع دول العالم، دون استثناءٍ يُذكَر، إلى القيام بذات الإجراء، حفاظاً على القوة الشرائية لعملتها من جهة، ومنع حدوث ظاهرة الدولرة لديها، من جهة ثانية، أي التحوُّل في المدخرات من العملة المحلية إلى الدولار طمعاً بالعائد الأكبر، والمحصّلة فقدان الدول لاستقلاليتها النقدية، أمام سياسات الولايات المتحدة. وقد زاد من الضغوط العالمية نحو التحوُّل عن الدولار كثرة عمليات تبيض الأموال الناشئة عن التجارة غير الشرعية في الأسلحة والمخدرات، في ظل حالة الفوضى الكبيرة التي أحدثتها سياسات التوازنات والمصالح، وأدت إلى ثروات غير شريعة، وأثرياء غير شرعيين أيضاً، حقنوا العالم بمبالغ ضخمة من الدولارات، وأغرقوا الأسواق العالمية بدولارات غير نظيفة وجعل من الكتلة الدولارية مؤرقاً لدول العالم أجمع، وبات الدولار نظرياً عملة الولايات المتحدة، وواقعياً مشكلة دول العالم أجمع. التداعيات السابقة جميعها، تعزِّز الحاجة إلى نظام عالمي جديد، سيظهر بلا شكٍّ خلال العقدين القادمين، التخلّي عن الدولار كعملة دولية حادث لا محالة، وتاريخ النقود في العالم يشير إلى حدوث ذلك مع أيِّ عملة، أو حتى أيِّ معدن، أو أيِّ سلعة، تم اعتمادها للتسويات الدولية، ولكن الأمر لن يحدث فجأة، ولن ينتهي دور الدولار بين يوم وليلة. النظام العالم الجديد الأكثر عدلاً، من وجهة نظر المتعاملين الدوليين، واللاعبين والفاعليين العالميين في مجالات التجارة الدولية، سيكون أكثر تنوُّعاً من حيث الهيكلية؛ فالمعطيات على أرض الواقع تشير إلى نظام تسويات عالمي، أو ميثاق عالمي جديد، يقوم على مكوِّنَيْنِ أساسيين اثنين؛ الأوِّل، آلية مالية تتكوَّن من سلة من العملات، يكون وزن كلِّ عملة من العملات في هذه الآلية بحسب حجمها النسبي في التجارة العالمية، والثاني، مكوِّن رقمي يقوم على إصدار مجموعة من العملات الرقمية، التي تكفلها دولة معينة أو أكثر بعملتها أو بالآلية المشار إليها سابقاً. حيث تحقِّق تلك العملات الوظائف الثلاث الأساسية للنقود، بضمانة وكفالة تلك الدولة؛ أي أن تكون وسيطاً للتبادل بين الدول، ووحدة لحساب قيمة السلع والخدمات المتبادلة بين الدولة، ومخزناً للقيم، أي للادخار القومي، وأخيراً وليس آخراً، وسيطاً، أو وسيلة للدفع الآجل (البيع تحت الحساب)، أي للاقتراض والتسوية اللاحقة. وختاماً، لعلَّ من المنصف أن نقولَ إنَّ العالم سيشهد آلية تسويات مالية دولية جديدة، لا تعتمد على الدولار، أو لا يكون الدولار هو الأساس فيها، وذلك قبل أن ينتصف هذا القرن، أو حتى قبل أن ينتهي عقده الرابع.
khwazani@gmail.com
بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ السياسات العامة المشارك
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
استضافت العاصمة الفرنسية باريس، على مدى يومين خلال الأسبوع الماضي، قمة خاصة تحت شعار «من أجل ميثاق مالي عالمي جديد»، الهدف المُعلَن منها هو الوصول إلى إجماع حول نظام مالي يمكنه تحقيق الأهداف العالمية المُستدامة الخاصة بالحد من الفقر، ومتطلبات التغيُّر المناخي، وتحقيق حماية للطبيعة. واستهدف اللقاء حضور عدد كبير من رؤساء الدول والحكومات، وما يزيد على 40 مؤسَّسة دولية، ومئات الممثّلين عن المؤسسات غير الربحية، ومؤسَّسات القطاع الخاص المعنية بالأمر، لتكون المحصّلة، حسب طموحات المنظِّمين، الوصول إلى نظام مالي جديد أكثر عدلاً، وأكثر قدرة على مواجهة التحديات العالمية القائمة اليوم، التي حدَّدتها القمة بأربع نقاط أساسية هي: إصلاح بنوك التنمية متعددة الأطراف، وحل أزمة الديون في الدول النامية، وتمويل التكنولوجيا الخضراء والتنمية المستدامة، وإنشاء نظام ضرائب دولي جديد ضمن أدوات تمويل مبتكرة، وأخيراً دعم جهود القطاع الخاص وتحفيزه إلى المشاركة في التنمية في الدول ذات الدخل المنخفض. بيد أنَّ فتح هذا الموضوع في ظل الأوضاع العالمية القائمة، وخاصة ما يتعلَّق بالنظام المالي العالمي القائم حالياً، فتح شهية العديد من المشاركين إلى الخروج نحو أفق مختلف تماماً، وهو طرح مسألة بقاء الدولار كعملة تسويات عالمية، بل والحديث صراحة عن الحاجة للخروج من منظومة التسويات الدولية المعتمدة على الدولار في التعاملات الدولية كافَّة. وقد كان الأكثر صراحة في ذلك السياق رئيس البرازيل، لويس دا سيلفا، الذي طرح بكلِّ جراءة موضوع التعاملات بالدولار، مؤكداً أنَّ الوقت قد حان للتفكير بشكل جاد في التخلّي عن الدولار الأمريكي، كعملة دولية، وعملة للاحتياطيات الأجنبية، والتحوُّل في التسويات المالية البينية بين دول العالم باستخدام العملات المحلية لكلٍّ منها، أو بأيِّ عملة وسطية تقبلها الأطراف، وأشار إلى أنَّ قمة مجموعة بريكس القادمة، التي ستُعقَد في جنوب إفريقيا نهاية شهر آب/أغسطس 2023، ستناقش هذا الموضوع بشكل صريح. الخروج عن عملة الدولار، كعملة دولية ووسيط للتبادل التجاري العالمي، ليس بالأمر اليسير، وليس من السهولة بمكان بأن يحدث بين ليلة وضحاها. فالخروج الكامل عمّا كان يسمّى منطقة الإسترليني، حينما كان الجنيه الاسترليني العملة العالمية الوسيطة، كما هو الدولار اليوم، استغرق ما يزيد على 30 عاماً، حتى بعد أفول شمس بريطانيا العظمى، وتخلّيها عن ربط الجنيه الإسترليني بقاعدة الذهب، لصالح الدولار الأمريكي، الذي بدوره وضع العالم على المحك منذ عام 1971، حينما وضع الرئيس الأمريكي نيكسون العالم أمام ما عُرِف بـ«صدمة نيكسون»، حينما فكَّ ارتباط الدولار بالذهب، وترك العالم أمام خيار واحد لا بديل له، وهو الربط مع الدولار مباشرة، أمّا من أراد الخروج عن قاعدة الدولار، فلم يجد لذلك سبيلاً حقيقياً. ومن هنا فالدولار، وعلى مدى ما ينوف على أربعة عقود، كان العملة الدولية للتسويات العالمية، وبات المقياس العالمي للقِيَم، أي الوسيط الرئيس لحساب قيمة البضائع، والخدمات، ووسيطاً للتبادل، أي للتسويات المالية بين دول العالم، ووسيلة الدفع الآجِل، ومخزناً للقيمة، أي مخزناً لقيمة مدخرات الأفراد والدول، أي المكوِّن الأساس للاحتياطيات الأجنبية للدول، وبالتالي المحدّد الرئيس للقوة الشرائية للعملات. ومن هنا نجد أنَّ احتياطيات الدول اليوم مقومة بالدولار، سواء احتفظت بها البنوك المركزية بالدولار، أم بالذهب، أو حتى بالعملات الدولية الأخرى. فالصين، التي تأتي على قمة هرم الاحتياطيات الأجنبية في العالم، تُقدَّر احتياطياتها بنحو 3.4 تريليونات دولار، يأتي بعدها اليابان، بنحو 1.25 تريليون، ثمَّ سويسرا، بنحو 912 مليار، في حين أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية تأتي في المرتبة الثانية عشرة عالمياً، وباحتياطيات لا تتجاوز 242 مليار دولار. ومن هنا، فإنَّ الخروج على الدولار كعملة عالمية للتسويات لن يكون من السهولة بمكان في الأجل القريب أو المتوسط. بيد أنَّ دول العالم الأكثر تأثيراً في التجارة العالمية، والتوازنات الدولية، وفي سلع التبادل التجاري العالمي، وهو الأهم، جميعها بات يعتقد بأنَّ الوقت قد حان للخروج بمنظومة تسويات دولية أكثر عدلاً وإنصافاً، وأقل هيمنةً من قِبَل القطب الواحد، الذي بات يستخدم العملة كسلاح بديل وموجع للاقتصادات العالمية. ولعلَّ هذا الطرح نتج عمّا شهده العالم من سياسات انتهجتها الولايات المتحدة، في المجال الاقتصادي والسياسي، دفعت بالكثير من دول العالم نحو التفكير بالخروج من رادار التحكُّم والسيطرة الأمريكي. فمن ناحية، جاء التوسُّع في فرض عقوبات اقتصادية عالمية ومنع دول كبرى مثل روسيا، من استخدام نظام التسويات المالية (سويفت SWIFT) بمثابة إنذارٍ مبكِّرٍ لدول العالم أنها ستكون عُرْضَةً لذلك أمام أيِّ خروجٍ عن بيت الطاعة الأمريكي، ومن ناحية ثانية، فإنَّ توسُّع سياسات التسيير النقدي، الذي اتبعته الولايات المتحدة خلال الأزمات المالية، منذ عام 2008، وخلال أزمة كورونا، وضخ مبالغ طائلة من الدولارات دون حسيب أو رقيب، ودون إنتاجية حقيقية، بل وطبع كميات كبيرة من النقود الأمريكية وضخّها في الأسواق المالية المحلية والعالمية، كلُّ ذلك حتَّم على الولايات المتحدة أن تلجأ اليوم إلى سياسات انكماشية نقدية، برفع أسعار الفائدة بشكل متتالٍ وصل إلى اثنتي عشرة مرة، تراوح ذلك بين 250 نقطة أساس إلى 750 نقطة أساس في كلِّ مرة، حفاظاً على القوة الشرائية للدولار، ومكافحة للتضخُّم، ما أجبر جميع دول العالم، دون استثناءٍ يُذكَر، إلى القيام بذات الإجراء، حفاظاً على القوة الشرائية لعملتها من جهة، ومنع حدوث ظاهرة الدولرة لديها، من جهة ثانية، أي التحوُّل في المدخرات من العملة المحلية إلى الدولار طمعاً بالعائد الأكبر، والمحصّلة فقدان الدول لاستقلاليتها النقدية، أمام سياسات الولايات المتحدة. وقد زاد من الضغوط العالمية نحو التحوُّل عن الدولار كثرة عمليات تبيض الأموال الناشئة عن التجارة غير الشرعية في الأسلحة والمخدرات، في ظل حالة الفوضى الكبيرة التي أحدثتها سياسات التوازنات والمصالح، وأدت إلى ثروات غير شريعة، وأثرياء غير شرعيين أيضاً، حقنوا العالم بمبالغ ضخمة من الدولارات، وأغرقوا الأسواق العالمية بدولارات غير نظيفة وجعل من الكتلة الدولارية مؤرقاً لدول العالم أجمع، وبات الدولار نظرياً عملة الولايات المتحدة، وواقعياً مشكلة دول العالم أجمع. التداعيات السابقة جميعها، تعزِّز الحاجة إلى نظام عالمي جديد، سيظهر بلا شكٍّ خلال العقدين القادمين، التخلّي عن الدولار كعملة دولية حادث لا محالة، وتاريخ النقود في العالم يشير إلى حدوث ذلك مع أيِّ عملة، أو حتى أيِّ معدن، أو أيِّ سلعة، تم اعتمادها للتسويات الدولية، ولكن الأمر لن يحدث فجأة، ولن ينتهي دور الدولار بين يوم وليلة. النظام العالم الجديد الأكثر عدلاً، من وجهة نظر المتعاملين الدوليين، واللاعبين والفاعليين العالميين في مجالات التجارة الدولية، سيكون أكثر تنوُّعاً من حيث الهيكلية؛ فالمعطيات على أرض الواقع تشير إلى نظام تسويات عالمي، أو ميثاق عالمي جديد، يقوم على مكوِّنَيْنِ أساسيين اثنين؛ الأوِّل، آلية مالية تتكوَّن من سلة من العملات، يكون وزن كلِّ عملة من العملات في هذه الآلية بحسب حجمها النسبي في التجارة العالمية، والثاني، مكوِّن رقمي يقوم على إصدار مجموعة من العملات الرقمية، التي تكفلها دولة معينة أو أكثر بعملتها أو بالآلية المشار إليها سابقاً. حيث تحقِّق تلك العملات الوظائف الثلاث الأساسية للنقود، بضمانة وكفالة تلك الدولة؛ أي أن تكون وسيطاً للتبادل بين الدول، ووحدة لحساب قيمة السلع والخدمات المتبادلة بين الدولة، ومخزناً للقيم، أي للادخار القومي، وأخيراً وليس آخراً، وسيطاً، أو وسيلة للدفع الآجل (البيع تحت الحساب)، أي للاقتراض والتسوية اللاحقة. وختاماً، لعلَّ من المنصف أن نقولَ إنَّ العالم سيشهد آلية تسويات مالية دولية جديدة، لا تعتمد على الدولار، أو لا يكون الدولار هو الأساس فيها، وذلك قبل أن ينتصف هذا القرن، أو حتى قبل أن ينتهي عقده الرابع.
khwazani@gmail.com
التعليقات