بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ السياسات العامة المشارك
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
الكتل الاقتصادية السياسية العالمية أثبتت على مدى التاريخ نجاحاً كبيراً، خاصة حينما تنشأ عن المصالح المشتركة القائمة على حرص القائمين عليها على تحسين جودة الحياة في الدول المُشترِكة في تلك الكتل. وقد أظهرت التقارير العالمية أنَّ تجربة التكتلات العالمية، بداية من الاتحاد الأوروبي مروراً بمجموعة الآسيان وانتهاءً بمجموعة أمريكا الشمالية، جميعها أثبتت أنَّ حجم التجارة البينية والاستثمارات المشتركة ترتفع بشكل جوهري بعد إنشاء تلك التكتلات، وبنسب تتجاوز الضعف إلى الضعفين في بعض الحالات. مجموعة البريكس BRICS ، التي جاءت تسميتها كأحرف مختصرة للدول المشاركة فيها حالياً، وهي البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب إفريقيا، نشأت من رحم شعور أول أربع دول في المجموعة المذكورة عام 2006، بأنَّ الوقت قد حان لتشكيل نظام عالمي جديد، يساعد تلك الدول على تنمية اقتصاداتها وتحسين موقعها الاقتصادي، بعيداً عن سيطرة القطب الواحد، وقد انضمت جنوب إفريقيا إلى المنظومة في العام 2011، لتصبح تلك المجموعة اليوم أكثر تأثيراً في الاقتصاد العالمي من مجموعة السبعة الكبار، G7، حيث ارتفعت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى نحو 32%، مقابل نحو 31% لمجموعة السبعة الكبار، التي تضمُّ كلاً من الولايات المتحدة، واليابان، وألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا، وكندا، وايطاليا. ولعلَّ ما تملكه منظومة بريكس من إمكانات مادية وبشرية، يؤهلها اليوم لأن تلعب الدور الأكبر في الاقتصاد العالمي، فهي تشكِّل نحو 40% من مساحة العالم، ونحو 40% من سكانه أيضاً، وفيها أكبر منتجي الغاز، روسيا، والقمح، الهند، وثاني أكبر اقتصاد عالمي، الصين. كما أنها تتمتَّع بمستويات نمو عالمية أكبر بكثير ممّا تحقِّقه الدول المتقدمة، وتشكِّل سرعة نمو اقتصاداتها، واضطراد ذلك النمو، رافعة حقيقية للقدرات الاقتصادية لتلك المجموعة، كما أنَّ تنوُّع قاعدتها الإنتاجية، بسبب تنوُّع مواردها الطبيعية والمعدنية، يؤهِّلها إلى خلق نموذجٍ حقيقي لما يُعرَف بالاعتمادية المتبادلة، التي تقوم على المصالح المشتركة بين الدول، حيث يتم تغطية الفجوات المختلفة في المحاور الأساسية، في مجالات الطاقة، والغذاء، والمياه، حتى الصحة والتعليم والمعرفة، عبر سبل التجارة الخارجية والتعاون التبادلي المشترك بين دول المجموعة. وضمن سعي المجموعة لاستكمال حلقات بناء تكتل اقتصادي مكتمل المحاور، فقد أسَّست المجموعة في العام 2014 بنكاً متخصِّصاً للتنمية، تحت مسمّى بنك التنمية الجديد NDB، وذلك على غرار البنك الدولي للإنشاء والتعمير WB، حيث يعمل البنك الجديد بديلاً عن البنك الدولي، وخاصة في مجالات دعم القطاعات الاقتصادية في الدول الأعضاء، وتمويل المشاريع المرتبطة بتلك القطاعات، مع التركيز على مجال البنية التحتية والتعليم والصحة، وقد رفدت دول منظومة بريكس البنك الجديد برأس مال بلغ 50 مليار دولار، ومن المتوقَّع أن يرتفع ذلك إلى الضعف خلال العامين القادمين. وفي هذا السياق تمَّ السماح للعديد من الدول بالمساهمة في رأس مال البنك، ولها أن تستفيد من برامجه المختلفة، وقد انضمت كلٌّ من أوروغواي، والإمارات العربية المتحدة، وبنغلادش، ومصر إلى عضوية البنك مؤخراً. كما أنشأت المجموعة آلية للتعامل مع تحديات موازين المدفوعات، والحاجات الطارئة لتمويل، وضبط أي تشوهات مباغتة في التسويات التجارية للدول، وذلك على نسق ما يقوم به صندوق النقد الدولي IMF من تمويل طارئ لموازين المدفوعات، وعليه أطلقت المجموعة ما أسمته 'اتفاقية الاحتياطي الطارئ CRA' وخصَّصت لذلك نحو 100 مليار دولار، بغية تجنيب الدول الأعضاء أيَّ تحديات في نظام التسويات المالية العالمية في تجارتها الخارجية بين بعضها بعضاً ومع العالم. ما يعني القدرة على دعم استقرار عملات تلك الدول، وتجنيبها الهزات الكبيرة في القوة الشرائية. بيد أنَّ دول المنظومة لم تقف عند ذلك الحد، فقد بدأت منذ العام 2015 بإنشاء نظام مقابل لنظام الدفع متعدد الأطراف لخدمة أعضائها، وليكون رديفاً لنظام سويفت SWIFT القائم حالياً والمُسيطَر عليه بشكل أساسي من قِبَل الولايات المتحدة. ومن الواضح أنَّ منظومة بريكس ستسبق بسنوات نبوءة الاقتصادي الأمريكي 'جيم أونيل' الذي توقَّع أن تصبح تلك المجموعة بحلول العام 2050 المهيمن الرئيس على الاقتصاد العالمي. ولعلَّ ما يؤكد ذلك اليوم قضيتين؛ الأولى أنَّ المجموعة، وحسب أحدث التصريحات الرسمية، استقبلت مؤخراً 20 طلباً للانضمام إليها، ومن مجموعة مؤثرة من دول العالم، منها الدول العربية الأكثر تأثيراُ في المنطقة، دولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، ومصر، والجزائر، إضافة إلى الأرجنتين، والمكسيك، ونيجيريا، وإيران، وبذلك يرتفع الرقم لتصبح الكتلة تفوق كتلة مجموعة العشرين G20، لتكون وخلال فترة وجيزة، وقبل العام 2050 الكتلة الاقتصادية والديموغرافية، والجغرافية، والسياسية الأكثر تأثيراً في الاقتصاد العالمي. ومن المؤكَّد أنَّ هذه المجموعة ستتوجَّه نحو إنشاء نظام عالمي جديد للتسويات المالية، بعيداً عن قاعدة الذهب، أو آليات سعر الصرف مقابل الدولار الأمريكي. ولعلَّها ستبادر قريباً إلى نظام تسويات مالية يقوم على مكونين اثنين، أحدهما سلة عملات حقيقية، تتشكَّل من العملات الرئسية في المجموعة، ووفقاً لأوزان نسبية ترتبط بحجم كلِّ دولة في التجارة الخارجية العالمية أو البينية بين الدول الآعضاء، والمكوِّن الثاني عملات رقمية قوتها الرسمية تأتي من تعهُّد أكبر دول المجموعة بضمان قيمتها عبر تقويمها بالعملة المحلية لتلك الدول أو بسلة العملات المعتمدة، ما سيوفِّر القبول التام لها في التسويات المالية التجارية بين أعضاء المجموعة، وحتى مع الدول الأخرى مستقبلاً. والمحصلة، بعد قبول انضمام العديد من دول العالم، وتوسُّع المنظومة المكونة لمجموعة بريكس، أن يتم تسوية معظم، أو حتى النسبة الأكبر، من التبادلات التجارية بالعملة الجديدة، التي سيتم طرحها عبر هذه المجموعة، أو بالآلية الجديدة التي ستطرحها هذه المجموعة بيعداً عن نظام سويفت وعن الدولار الأمريكي. بقي القول: إنَّ النظام العالمي الجديد بدأت تظهر إرهاصاته عبر مجموعة البريكس، والتي ستصبح اللاعب الأكبر في التجارة العالمية، وفي جميع قطاعات العالم الأكثر تأثيراً، خاصة في مجالات الطاقة والمياه، والغذاء، والصحة والتعليم. ولا شكَّ أنَّ الأزمة الأوكرانية الروسية أجَّجت من فتيل التحوُّل نحو ذلك النظام العالمي، وفي فترة أقرب بكثير ممَّا نتوقَّع، أو ما توقَّعه الغير؛ فالنظام العالمي الجديد قد يظهر بمكوناته كافة، في التجارة الخارجية، والتسويات المالية، والاعتمادية المتبادلة، خلال السنوات العشر القادمة، وقبل حلول العام 2050 بكل تأكيد، ولعل من الحصافة أن تشارك فيه معظم دول الاقتصادات الناشئة، عبر التقدم إلى عضوية منظومة بريكس.
khwazani@gmail.com
بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ السياسات العامة المشارك
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
الكتل الاقتصادية السياسية العالمية أثبتت على مدى التاريخ نجاحاً كبيراً، خاصة حينما تنشأ عن المصالح المشتركة القائمة على حرص القائمين عليها على تحسين جودة الحياة في الدول المُشترِكة في تلك الكتل. وقد أظهرت التقارير العالمية أنَّ تجربة التكتلات العالمية، بداية من الاتحاد الأوروبي مروراً بمجموعة الآسيان وانتهاءً بمجموعة أمريكا الشمالية، جميعها أثبتت أنَّ حجم التجارة البينية والاستثمارات المشتركة ترتفع بشكل جوهري بعد إنشاء تلك التكتلات، وبنسب تتجاوز الضعف إلى الضعفين في بعض الحالات. مجموعة البريكس BRICS ، التي جاءت تسميتها كأحرف مختصرة للدول المشاركة فيها حالياً، وهي البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب إفريقيا، نشأت من رحم شعور أول أربع دول في المجموعة المذكورة عام 2006، بأنَّ الوقت قد حان لتشكيل نظام عالمي جديد، يساعد تلك الدول على تنمية اقتصاداتها وتحسين موقعها الاقتصادي، بعيداً عن سيطرة القطب الواحد، وقد انضمت جنوب إفريقيا إلى المنظومة في العام 2011، لتصبح تلك المجموعة اليوم أكثر تأثيراً في الاقتصاد العالمي من مجموعة السبعة الكبار، G7، حيث ارتفعت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى نحو 32%، مقابل نحو 31% لمجموعة السبعة الكبار، التي تضمُّ كلاً من الولايات المتحدة، واليابان، وألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا، وكندا، وايطاليا. ولعلَّ ما تملكه منظومة بريكس من إمكانات مادية وبشرية، يؤهلها اليوم لأن تلعب الدور الأكبر في الاقتصاد العالمي، فهي تشكِّل نحو 40% من مساحة العالم، ونحو 40% من سكانه أيضاً، وفيها أكبر منتجي الغاز، روسيا، والقمح، الهند، وثاني أكبر اقتصاد عالمي، الصين. كما أنها تتمتَّع بمستويات نمو عالمية أكبر بكثير ممّا تحقِّقه الدول المتقدمة، وتشكِّل سرعة نمو اقتصاداتها، واضطراد ذلك النمو، رافعة حقيقية للقدرات الاقتصادية لتلك المجموعة، كما أنَّ تنوُّع قاعدتها الإنتاجية، بسبب تنوُّع مواردها الطبيعية والمعدنية، يؤهِّلها إلى خلق نموذجٍ حقيقي لما يُعرَف بالاعتمادية المتبادلة، التي تقوم على المصالح المشتركة بين الدول، حيث يتم تغطية الفجوات المختلفة في المحاور الأساسية، في مجالات الطاقة، والغذاء، والمياه، حتى الصحة والتعليم والمعرفة، عبر سبل التجارة الخارجية والتعاون التبادلي المشترك بين دول المجموعة. وضمن سعي المجموعة لاستكمال حلقات بناء تكتل اقتصادي مكتمل المحاور، فقد أسَّست المجموعة في العام 2014 بنكاً متخصِّصاً للتنمية، تحت مسمّى بنك التنمية الجديد NDB، وذلك على غرار البنك الدولي للإنشاء والتعمير WB، حيث يعمل البنك الجديد بديلاً عن البنك الدولي، وخاصة في مجالات دعم القطاعات الاقتصادية في الدول الأعضاء، وتمويل المشاريع المرتبطة بتلك القطاعات، مع التركيز على مجال البنية التحتية والتعليم والصحة، وقد رفدت دول منظومة بريكس البنك الجديد برأس مال بلغ 50 مليار دولار، ومن المتوقَّع أن يرتفع ذلك إلى الضعف خلال العامين القادمين. وفي هذا السياق تمَّ السماح للعديد من الدول بالمساهمة في رأس مال البنك، ولها أن تستفيد من برامجه المختلفة، وقد انضمت كلٌّ من أوروغواي، والإمارات العربية المتحدة، وبنغلادش، ومصر إلى عضوية البنك مؤخراً. كما أنشأت المجموعة آلية للتعامل مع تحديات موازين المدفوعات، والحاجات الطارئة لتمويل، وضبط أي تشوهات مباغتة في التسويات التجارية للدول، وذلك على نسق ما يقوم به صندوق النقد الدولي IMF من تمويل طارئ لموازين المدفوعات، وعليه أطلقت المجموعة ما أسمته 'اتفاقية الاحتياطي الطارئ CRA' وخصَّصت لذلك نحو 100 مليار دولار، بغية تجنيب الدول الأعضاء أيَّ تحديات في نظام التسويات المالية العالمية في تجارتها الخارجية بين بعضها بعضاً ومع العالم. ما يعني القدرة على دعم استقرار عملات تلك الدول، وتجنيبها الهزات الكبيرة في القوة الشرائية. بيد أنَّ دول المنظومة لم تقف عند ذلك الحد، فقد بدأت منذ العام 2015 بإنشاء نظام مقابل لنظام الدفع متعدد الأطراف لخدمة أعضائها، وليكون رديفاً لنظام سويفت SWIFT القائم حالياً والمُسيطَر عليه بشكل أساسي من قِبَل الولايات المتحدة. ومن الواضح أنَّ منظومة بريكس ستسبق بسنوات نبوءة الاقتصادي الأمريكي 'جيم أونيل' الذي توقَّع أن تصبح تلك المجموعة بحلول العام 2050 المهيمن الرئيس على الاقتصاد العالمي. ولعلَّ ما يؤكد ذلك اليوم قضيتين؛ الأولى أنَّ المجموعة، وحسب أحدث التصريحات الرسمية، استقبلت مؤخراً 20 طلباً للانضمام إليها، ومن مجموعة مؤثرة من دول العالم، منها الدول العربية الأكثر تأثيراُ في المنطقة، دولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، ومصر، والجزائر، إضافة إلى الأرجنتين، والمكسيك، ونيجيريا، وإيران، وبذلك يرتفع الرقم لتصبح الكتلة تفوق كتلة مجموعة العشرين G20، لتكون وخلال فترة وجيزة، وقبل العام 2050 الكتلة الاقتصادية والديموغرافية، والجغرافية، والسياسية الأكثر تأثيراً في الاقتصاد العالمي. ومن المؤكَّد أنَّ هذه المجموعة ستتوجَّه نحو إنشاء نظام عالمي جديد للتسويات المالية، بعيداً عن قاعدة الذهب، أو آليات سعر الصرف مقابل الدولار الأمريكي. ولعلَّها ستبادر قريباً إلى نظام تسويات مالية يقوم على مكونين اثنين، أحدهما سلة عملات حقيقية، تتشكَّل من العملات الرئسية في المجموعة، ووفقاً لأوزان نسبية ترتبط بحجم كلِّ دولة في التجارة الخارجية العالمية أو البينية بين الدول الآعضاء، والمكوِّن الثاني عملات رقمية قوتها الرسمية تأتي من تعهُّد أكبر دول المجموعة بضمان قيمتها عبر تقويمها بالعملة المحلية لتلك الدول أو بسلة العملات المعتمدة، ما سيوفِّر القبول التام لها في التسويات المالية التجارية بين أعضاء المجموعة، وحتى مع الدول الأخرى مستقبلاً. والمحصلة، بعد قبول انضمام العديد من دول العالم، وتوسُّع المنظومة المكونة لمجموعة بريكس، أن يتم تسوية معظم، أو حتى النسبة الأكبر، من التبادلات التجارية بالعملة الجديدة، التي سيتم طرحها عبر هذه المجموعة، أو بالآلية الجديدة التي ستطرحها هذه المجموعة بيعداً عن نظام سويفت وعن الدولار الأمريكي. بقي القول: إنَّ النظام العالمي الجديد بدأت تظهر إرهاصاته عبر مجموعة البريكس، والتي ستصبح اللاعب الأكبر في التجارة العالمية، وفي جميع قطاعات العالم الأكثر تأثيراً، خاصة في مجالات الطاقة والمياه، والغذاء، والصحة والتعليم. ولا شكَّ أنَّ الأزمة الأوكرانية الروسية أجَّجت من فتيل التحوُّل نحو ذلك النظام العالمي، وفي فترة أقرب بكثير ممَّا نتوقَّع، أو ما توقَّعه الغير؛ فالنظام العالمي الجديد قد يظهر بمكوناته كافة، في التجارة الخارجية، والتسويات المالية، والاعتمادية المتبادلة، خلال السنوات العشر القادمة، وقبل حلول العام 2050 بكل تأكيد، ولعل من الحصافة أن تشارك فيه معظم دول الاقتصادات الناشئة، عبر التقدم إلى عضوية منظومة بريكس.
khwazani@gmail.com
بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ السياسات العامة المشارك
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
الكتل الاقتصادية السياسية العالمية أثبتت على مدى التاريخ نجاحاً كبيراً، خاصة حينما تنشأ عن المصالح المشتركة القائمة على حرص القائمين عليها على تحسين جودة الحياة في الدول المُشترِكة في تلك الكتل. وقد أظهرت التقارير العالمية أنَّ تجربة التكتلات العالمية، بداية من الاتحاد الأوروبي مروراً بمجموعة الآسيان وانتهاءً بمجموعة أمريكا الشمالية، جميعها أثبتت أنَّ حجم التجارة البينية والاستثمارات المشتركة ترتفع بشكل جوهري بعد إنشاء تلك التكتلات، وبنسب تتجاوز الضعف إلى الضعفين في بعض الحالات. مجموعة البريكس BRICS ، التي جاءت تسميتها كأحرف مختصرة للدول المشاركة فيها حالياً، وهي البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب إفريقيا، نشأت من رحم شعور أول أربع دول في المجموعة المذكورة عام 2006، بأنَّ الوقت قد حان لتشكيل نظام عالمي جديد، يساعد تلك الدول على تنمية اقتصاداتها وتحسين موقعها الاقتصادي، بعيداً عن سيطرة القطب الواحد، وقد انضمت جنوب إفريقيا إلى المنظومة في العام 2011، لتصبح تلك المجموعة اليوم أكثر تأثيراً في الاقتصاد العالمي من مجموعة السبعة الكبار، G7، حيث ارتفعت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى نحو 32%، مقابل نحو 31% لمجموعة السبعة الكبار، التي تضمُّ كلاً من الولايات المتحدة، واليابان، وألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا، وكندا، وايطاليا. ولعلَّ ما تملكه منظومة بريكس من إمكانات مادية وبشرية، يؤهلها اليوم لأن تلعب الدور الأكبر في الاقتصاد العالمي، فهي تشكِّل نحو 40% من مساحة العالم، ونحو 40% من سكانه أيضاً، وفيها أكبر منتجي الغاز، روسيا، والقمح، الهند، وثاني أكبر اقتصاد عالمي، الصين. كما أنها تتمتَّع بمستويات نمو عالمية أكبر بكثير ممّا تحقِّقه الدول المتقدمة، وتشكِّل سرعة نمو اقتصاداتها، واضطراد ذلك النمو، رافعة حقيقية للقدرات الاقتصادية لتلك المجموعة، كما أنَّ تنوُّع قاعدتها الإنتاجية، بسبب تنوُّع مواردها الطبيعية والمعدنية، يؤهِّلها إلى خلق نموذجٍ حقيقي لما يُعرَف بالاعتمادية المتبادلة، التي تقوم على المصالح المشتركة بين الدول، حيث يتم تغطية الفجوات المختلفة في المحاور الأساسية، في مجالات الطاقة، والغذاء، والمياه، حتى الصحة والتعليم والمعرفة، عبر سبل التجارة الخارجية والتعاون التبادلي المشترك بين دول المجموعة. وضمن سعي المجموعة لاستكمال حلقات بناء تكتل اقتصادي مكتمل المحاور، فقد أسَّست المجموعة في العام 2014 بنكاً متخصِّصاً للتنمية، تحت مسمّى بنك التنمية الجديد NDB، وذلك على غرار البنك الدولي للإنشاء والتعمير WB، حيث يعمل البنك الجديد بديلاً عن البنك الدولي، وخاصة في مجالات دعم القطاعات الاقتصادية في الدول الأعضاء، وتمويل المشاريع المرتبطة بتلك القطاعات، مع التركيز على مجال البنية التحتية والتعليم والصحة، وقد رفدت دول منظومة بريكس البنك الجديد برأس مال بلغ 50 مليار دولار، ومن المتوقَّع أن يرتفع ذلك إلى الضعف خلال العامين القادمين. وفي هذا السياق تمَّ السماح للعديد من الدول بالمساهمة في رأس مال البنك، ولها أن تستفيد من برامجه المختلفة، وقد انضمت كلٌّ من أوروغواي، والإمارات العربية المتحدة، وبنغلادش، ومصر إلى عضوية البنك مؤخراً. كما أنشأت المجموعة آلية للتعامل مع تحديات موازين المدفوعات، والحاجات الطارئة لتمويل، وضبط أي تشوهات مباغتة في التسويات التجارية للدول، وذلك على نسق ما يقوم به صندوق النقد الدولي IMF من تمويل طارئ لموازين المدفوعات، وعليه أطلقت المجموعة ما أسمته 'اتفاقية الاحتياطي الطارئ CRA' وخصَّصت لذلك نحو 100 مليار دولار، بغية تجنيب الدول الأعضاء أيَّ تحديات في نظام التسويات المالية العالمية في تجارتها الخارجية بين بعضها بعضاً ومع العالم. ما يعني القدرة على دعم استقرار عملات تلك الدول، وتجنيبها الهزات الكبيرة في القوة الشرائية. بيد أنَّ دول المنظومة لم تقف عند ذلك الحد، فقد بدأت منذ العام 2015 بإنشاء نظام مقابل لنظام الدفع متعدد الأطراف لخدمة أعضائها، وليكون رديفاً لنظام سويفت SWIFT القائم حالياً والمُسيطَر عليه بشكل أساسي من قِبَل الولايات المتحدة. ومن الواضح أنَّ منظومة بريكس ستسبق بسنوات نبوءة الاقتصادي الأمريكي 'جيم أونيل' الذي توقَّع أن تصبح تلك المجموعة بحلول العام 2050 المهيمن الرئيس على الاقتصاد العالمي. ولعلَّ ما يؤكد ذلك اليوم قضيتين؛ الأولى أنَّ المجموعة، وحسب أحدث التصريحات الرسمية، استقبلت مؤخراً 20 طلباً للانضمام إليها، ومن مجموعة مؤثرة من دول العالم، منها الدول العربية الأكثر تأثيراُ في المنطقة، دولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، ومصر، والجزائر، إضافة إلى الأرجنتين، والمكسيك، ونيجيريا، وإيران، وبذلك يرتفع الرقم لتصبح الكتلة تفوق كتلة مجموعة العشرين G20، لتكون وخلال فترة وجيزة، وقبل العام 2050 الكتلة الاقتصادية والديموغرافية، والجغرافية، والسياسية الأكثر تأثيراً في الاقتصاد العالمي. ومن المؤكَّد أنَّ هذه المجموعة ستتوجَّه نحو إنشاء نظام عالمي جديد للتسويات المالية، بعيداً عن قاعدة الذهب، أو آليات سعر الصرف مقابل الدولار الأمريكي. ولعلَّها ستبادر قريباً إلى نظام تسويات مالية يقوم على مكونين اثنين، أحدهما سلة عملات حقيقية، تتشكَّل من العملات الرئسية في المجموعة، ووفقاً لأوزان نسبية ترتبط بحجم كلِّ دولة في التجارة الخارجية العالمية أو البينية بين الدول الآعضاء، والمكوِّن الثاني عملات رقمية قوتها الرسمية تأتي من تعهُّد أكبر دول المجموعة بضمان قيمتها عبر تقويمها بالعملة المحلية لتلك الدول أو بسلة العملات المعتمدة، ما سيوفِّر القبول التام لها في التسويات المالية التجارية بين أعضاء المجموعة، وحتى مع الدول الأخرى مستقبلاً. والمحصلة، بعد قبول انضمام العديد من دول العالم، وتوسُّع المنظومة المكونة لمجموعة بريكس، أن يتم تسوية معظم، أو حتى النسبة الأكبر، من التبادلات التجارية بالعملة الجديدة، التي سيتم طرحها عبر هذه المجموعة، أو بالآلية الجديدة التي ستطرحها هذه المجموعة بيعداً عن نظام سويفت وعن الدولار الأمريكي. بقي القول: إنَّ النظام العالمي الجديد بدأت تظهر إرهاصاته عبر مجموعة البريكس، والتي ستصبح اللاعب الأكبر في التجارة العالمية، وفي جميع قطاعات العالم الأكثر تأثيراً، خاصة في مجالات الطاقة والمياه، والغذاء، والصحة والتعليم. ولا شكَّ أنَّ الأزمة الأوكرانية الروسية أجَّجت من فتيل التحوُّل نحو ذلك النظام العالمي، وفي فترة أقرب بكثير ممَّا نتوقَّع، أو ما توقَّعه الغير؛ فالنظام العالمي الجديد قد يظهر بمكوناته كافة، في التجارة الخارجية، والتسويات المالية، والاعتمادية المتبادلة، خلال السنوات العشر القادمة، وقبل حلول العام 2050 بكل تأكيد، ولعل من الحصافة أن تشارك فيه معظم دول الاقتصادات الناشئة، عبر التقدم إلى عضوية منظومة بريكس.
khwazani@gmail.com
التعليقات