بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ السياسات العامة المشارك
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
الطبيب المختص الماهر، لا يبدأ بعلاج مريضه دون اللجوء إلى تحليل عام وعميق لما يشعر به المريض من أعراض، حتى لو كانت ظواهر تلك الأعراض واضحة له، فمجرد الشعور بألم في الرأس، لا يعني أن تصرف علبة مُسكن ألم، أو حقنة مورفين، في حالات الألم الشديد، بل الواجب معرفة الأسباب وراء الألم مهما كانت شدته، لصرف العلاج المناسب. وفي العلاج الاقتصادي لحالات الدول، يتطلَّب الأمر دوماً التأكُّد من أسباب نشوء أي عارض اقتصادي، سواء أكان العارض هيكلياً يضرب عصب الاقتصاد بقطاعاته كافَّة، أو قطاعياً يضرب قطاعاً منه دون غيره، أو عارضاً جزئياً يضرب مفاصل من مؤسَّسات، أو أفراد، أو مِهن، أو مناطق اقتصادية. الشاهد من ذلك كله أنَّ العلاج بوصفات محفوظة، جاهزة، ومكرَّرة، ليس من الرُّشد أو الحكمة، حتى لو أنَّ مَن وصفها، أو اخترعها، أو قدَّمها، أكبر علماء العلاج الاقتصادي. العالَم اليوم يواجه حالة من التضخُّم النادر بمكونات نشأته، أي الأعراض أو الأسباب التي أدَّت إليه، ومن ثمَّ فهو تضخُّم يحتاج إلى تحليل في المختبر، وفحوصات محدَّدة، حتى وإن كانت مظاهر أعراضه موجودة في أكثر من دولة. والتضخُّم علمياً ينشأ عن ثلاث حالات أساسية؛ الأولى حينما ترتفع تكاليف الإنتاج ، سواء أكان الارتفاع على المواد المحلية الداخلة في الإنتاج، من أجور ومواد خام محلية، أو من مواد خام مستوردة من الخارج، وفي هذه الحالة ينشأ ما يُسمّى تضخُّم دفع التكاليف. والحالة الثانية لظهور التضخُّم تنشأ حينما يكون حجم النقود السائلة والمتداولة بين الناس أكبر بكثير من حجم السلع والخدمات المتوافرة في الاقتصاد، وعندها يُقال إنَّ هناك أموالاً كثيرة تطارد سلعاً قليلة، فينشأ ما يُسمّى تضخُّم سحب الطلب، أي التنافس بين مستهلكين على السلع والخدمات، فيستغل التجار والصنّاع الوضع، ويرفعون الأسعار استغلالاً للوضع. وأخيراً، تنشأ الحالة الثالثة للتضخُّم، جرّاء ارتفاع أسعار السلع والخدمات النهائية المستوردة من خارج الدولة، كارتفاع أسعار السيارات المستوردة، أو المواد الغذائية المستوردة، أو كلف الذهاب في رحلات سياحية إلى دولة ما، وبالتالي الحاجة إلى دفع مبالغ أكبر ممّا اعتاد عليه المستهلك المحلي لشراء تلك السلع أو الخدمات المستوردة. بيد أنَّ معالجة التضخُّم في كلِّ حالة من الحالات الثلاث السابقة لها وصفة ومقاربات خاصة، قلّما تتشابه فيما بينها. ولكن الفكر الاقتصادي الذي نشأ منذ بداية عقد السبعينيات من القرن المنصرم قام على ما قدَّمه عالِم الاقتصاد المشهور ميلتون فريدمان، الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد عام 1976، والذي عزَّز فكر مدرسة حرية رأس المال التي تؤمن بالحرية الاقتصادية التامة، وترك ضبط الأسواق للقوى الخفية التي تعيد توازنها بفعل ما يُسمّى قوى العرض والطلب، التي تجعل كلَّ شيء يعمل ذاتياً، ولا دور حقيقياً للحكومات في ضبط الأسواق، وإن هناك آليات ميكانيكية تؤدي إلى ضبط أي اختلال في الأسواق، وكل ما يُطلب من صنّاع القرار هو تطبيق تلك الآليات الميكانيكية، أو تركها تعمل دون تدخُّل، وهي ستقوم بالواجب لتصويب التشوهات. وضمن هذا الفكر جاءت نظريته التي تقوم على إنَّ كلَّ تضخُّم يُعالَج برفع أسعار الفائدة، وكلَّ ركود يعالَج بتخفيضها إلى أدنى المستويات، وهي وصفة طبَّقها العالم على مدى العقود الخمس الماضية، فكانت مجدية في الكثير من الحالات، خاصة أنَّ معظم مظاهر التضخُّم العالمي التي واجهها سابقاً نشأت أساساً عن تضخُّم سحب الطلب، أي كثرة النقود وقلة السلع، ما يعني أنَّ الأجدى على البنوك المركزية أن تبادر، عبر منصاتها وأدواتها غير المباشرة، برفع أسعار الفائدة لتقليل حجم النقود التي تدور في الأسواق، وهو ما يُحفّز البنوك برفع أسعار الفوائد على الودائع، وعلى القروض بالضرورة، فالفائدة العالية المُرتفعة، من جهة، حافزٌ لسحب النقود من الأسواق والاحتفاظ بها في الودائع للإفادة من العوائد الكبيرة، وكلما زادت الفائدة ارتفع الإقبال على الادخار بدلاً من الإنفاق، ما يؤدي في النهاية إلى تجفيف الأسواق من النقود السائبة فيها، ومن جهة ثانية، ترفع كلف الاقتراض وتخفف من مزيد من ضخ النقود في الاقتصاد، فينكمش الاقتصاد، ويعود التوازن بين حجم السلع وأحجام النقود إلى التوازن، وفقاً لتلك النظرية. والمعضلة الحقيقية أنَّ العالم لجأ إلى روشتة أسعار الفائدة، كأنها بنادول التضخُّم Inflation Panadol، وذلك كلما تحرَّكت الأسعار نحو التضخم أو الركود، وهو ما يطبِّقه صنّاع القرار الاقتصادي في العالم اليوم، دون أن يتجثموا عناء تحليل أسباب ما نعيشه اليوم من تضخُّم مركَّب الأسباب. والحقيقة أنَّ الجميع يهرول نحو تلك السياسة لقيام الولايات المتحدة الأمريكية بتبنّي سياسات 'بنادول التضخُّم'، عبر آلية سعر الفائدة، لكونها صاحبة العملة العالمية التي تُحدِّد القوة الشرائية للعديد من العملات العالمية، فنحو نصف دول العالم تربط عملتها بالدولار عبر سياسة تثبيت أسعار الصرف، ما يعني التزامها باتباع سياسات الولايات المتحدة فيما يتعلَّق بسعر الفائدة خطوة بخطوة. ولم ينتبه العالم إلى أنَّ دولاً عديدة، منها اليابان وعدد من الدول الأوروبية، لجأت إلى 'بنادول التضخُّم'، عبر تخفيض أسعار الفائدة إلى الصفر، بل وإلى معدل سالب، للخروج من أزمة الركود التي كانت تمرُّ بها قبل جائحة كورونا بعقود، ولكنها لم تعمل، ولم تؤدِّ إلى تحريك عجلة الآقتصاد. والغريب أنَّ تلك الدول تحوَّلت إلى سياسة معاكسة تماماً، وعبر الروشتة نفسها (بنادول التضخُّم)، لمواجهة حالة تضخُّم جامح يصل، للمرة الأولى منذ أربعين سنة، إلى منزلتيين عشريتين. تضخُّم اليوم لا يحتاج إلى روشتة مسكنات وبنادول؛ لأنه ثلاثي الأبعاد والأسباب، وعلاجه يحتاج إلى تحليل عميق، يكاد يختلف بين دولة وأخرى، فهو تضخُّم تكاليف، بفعل تعطُّل سلاسل التزويد، وتعطُّل محركات الأعمال عالمياً خلال الجائحة، زيادة كلف النفط، والمواد الخام الأخرى، وكلف الخدمات اللوجستية، وخاصة النقل والتزويد، وتزامن ذلك كله مع تضخُّم سيولة زائدة، بفعل ضخ الأموال، وحقن الاقتصادات بسياسات تيسير نقدي، ودفع معونات نقدية ضخمة في معظم دول العالم، دون أن تكون تلك المدفوعات مرتبطة بإنتاج أو عمل، وذلك خلال أزمة كورونا، حيث ضخَّت الحكومة الأمريكية السابقة وحدها نحو 3 تريليونات دولار، كمساعدات نقدية وتحويلات مباشرة، دون أن يرتبط ذلك بإنتاج، ما يعني تفعيل ظاهرة تضخم الطلب، نقود كثيرة تطارد سلع قليلة، وتتوَّج ذلك كله في المحصلة بحدوث موجة ارتفاع في أسعار المواد النهائية المستوردة والخدمات المستوردة، ما أوصل دول العالم أجمع إلى ثَالِثَة الأثَافِي عبر تضخُّمٍ مستوردٍ جامحٍ وملموس. والسؤال المهم: كيف تخرج الدول من تلك المعضلة ثلاثية المكونات؟ الإجابة الأسهل: عبر سياسات فريدمان، ومدرسته، مدرسة شيكاغو النقدية، أي من خلال 'بنادول التضخم'، رفع أسعار الفائدة، ما يؤدي حتماً إلى ضبط التضخُّم، ولكن قسراً بعد مرور وقت لا يقل عن ثلاث سنوات، تختنق خلاله الاقتصادات؛ بسبب معالجة أغراض تضخُّم الكلفة والتضخُّم المستورد باستخدام ترياق تضخُّم الطلب، أي البنادول، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى ضرب القوة الشرائية لأصحاب الدخول المتوسطة والمنخفضة بعمق، خاصة حينما يتعلَّق الأمر بأصحاب الدخول الثابتة المحدودة، القائمة على الرواتب والأجور. أمّا الإجابة العملية فهي تقول: إنَّ معالجة التضخُّم في مثل هذه الظروف تتطلَّب تحليلاً نوعياً مخبرياً، وصورة طبقية ملونة، ليتضح بشكلٍ جَلِيٍّ، في كلِّ اقتصاد، أي الأشكال الثلاثة السابقة أكثر تأثيراً على مستوى ومعدل التضخُّم فيه، فإن كان الأمر يتعلق بتكاليف الإنتاج، وتكاليف الحصول على المواد الخام، فإنَّ ذلك يتطلَّب توسيع قاعدة الإنتاج، وتشجيع وتحفيز مزيد من الاستثمار، وخلق حركة اقتصادية، وفتح أسواق جديدة تجعل الإنتاج في تلك الدول يصل إلى ما يُسمّى في الاقتصاد «وفورات الحجم»، أي تخفيض تكاليف الإنتاج عبر استغلال أكبر طاقة كامنة في المصانع، والمؤسَّسات، وذلك لا يستدعي المساس بسعر الفائدة بشكل جوهري، مع إمكانية تحريك الفائدة إلى الأعلى بنسبة بسيطة، حفاظاً على تنافسية العملة، أمام الدولار، إن كان سعرها مثبتاً أمام الدولار، وليس معوماً، أو محدداً بسلة عملات. أمّا إن كان السبب تضخُّماً مستورداً، أي نتاج ارتفاع أسعار السلع النهائية والخدمات من بلد المَصْدَر، فإنَّ ذلك يتطلَّب البحث عن بدائل لتلك السلع، وتوسيع وتنويع مصادر التجارة الخارجية، وخلق منافسة مناسبة ونوعية للسلع التي ترتفع أسعارها، وخلق تنافسية في السوق الواحد، ومنع أي احتكار تجاري يؤدي إلى استغلال المستهلك، وهو دور تلعبه الحكومات، ومؤسَّسات حماية المستهلك. وأخيراً وليس آخراً، إن كان التضخُّم نتاج السيولة الزائدة في الدولة فإنَّ ذلك يستدعي بالضرورة زيادة أسعار الفائدة ومكافحة تضخُّم الطلب، واستخدام الوصفة التقليدية المعروفة، والمطبَّقة اليوم. وفي النهائة، إن كان التضخُّم توليفة من كلِّ ذلك، كما هي الحالة اليوم، فإنَّ السياسة الأكثر نجاعة هي أيضاً توليفة من السياسات الثلاث المذكورة، حيث تُستخدَم كلُّ جرعة علاجاً وفقاً لحجم وقوة تأثير أيٍّ من الأسباب الثلاثة، وكلٌ بحجم تأثيره في معدل التضخُّم في الدولة، وهو ما يعني اختلاف توليفة العلاج بين اقتصاد وآخر، بما يساعد، من جهة، على صياغة روشتة علاجية مُركّبة من السياسات النقدية والمالية التي تؤدي إلى توسيع القاعدة الإنتاجية بسياسات استثمارية تحفيزية، مالية ونقدية ونوعية، ومن جهة ثانية تطبيق سياسة تجارية تفاعلية تؤدي إلى ضبط الاحتكار الخارجي، وتنويع القاعدة الاستيرادية للدولة، وأخيراً وليس آخراً، رفع أسعار الفائدة لتحفيز الادخار، والحفاظ على القوة الشرائية للعملة والدخول، ولكن بنسبة ارتفاع لا توازي بالضرورة ما تقوم به الولايات المتحدة من مستويات، وبالوزن النسبي نفسه لمسببات تضخُّم الطلب في الدولة، على أن يتواءم ذلك كله مع ترشيد للانفاق العام، وهندسة مالية، عبر سياسات مالية متشددة في الانفاق الاستهلاكي، وميسّرة للمشاريع الاستثمارية، وحصيفة في تحصيل الضرائب والرسوم.
khwazani@gmail.com
بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ السياسات العامة المشارك
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
الطبيب المختص الماهر، لا يبدأ بعلاج مريضه دون اللجوء إلى تحليل عام وعميق لما يشعر به المريض من أعراض، حتى لو كانت ظواهر تلك الأعراض واضحة له، فمجرد الشعور بألم في الرأس، لا يعني أن تصرف علبة مُسكن ألم، أو حقنة مورفين، في حالات الألم الشديد، بل الواجب معرفة الأسباب وراء الألم مهما كانت شدته، لصرف العلاج المناسب. وفي العلاج الاقتصادي لحالات الدول، يتطلَّب الأمر دوماً التأكُّد من أسباب نشوء أي عارض اقتصادي، سواء أكان العارض هيكلياً يضرب عصب الاقتصاد بقطاعاته كافَّة، أو قطاعياً يضرب قطاعاً منه دون غيره، أو عارضاً جزئياً يضرب مفاصل من مؤسَّسات، أو أفراد، أو مِهن، أو مناطق اقتصادية. الشاهد من ذلك كله أنَّ العلاج بوصفات محفوظة، جاهزة، ومكرَّرة، ليس من الرُّشد أو الحكمة، حتى لو أنَّ مَن وصفها، أو اخترعها، أو قدَّمها، أكبر علماء العلاج الاقتصادي. العالَم اليوم يواجه حالة من التضخُّم النادر بمكونات نشأته، أي الأعراض أو الأسباب التي أدَّت إليه، ومن ثمَّ فهو تضخُّم يحتاج إلى تحليل في المختبر، وفحوصات محدَّدة، حتى وإن كانت مظاهر أعراضه موجودة في أكثر من دولة. والتضخُّم علمياً ينشأ عن ثلاث حالات أساسية؛ الأولى حينما ترتفع تكاليف الإنتاج ، سواء أكان الارتفاع على المواد المحلية الداخلة في الإنتاج، من أجور ومواد خام محلية، أو من مواد خام مستوردة من الخارج، وفي هذه الحالة ينشأ ما يُسمّى تضخُّم دفع التكاليف. والحالة الثانية لظهور التضخُّم تنشأ حينما يكون حجم النقود السائلة والمتداولة بين الناس أكبر بكثير من حجم السلع والخدمات المتوافرة في الاقتصاد، وعندها يُقال إنَّ هناك أموالاً كثيرة تطارد سلعاً قليلة، فينشأ ما يُسمّى تضخُّم سحب الطلب، أي التنافس بين مستهلكين على السلع والخدمات، فيستغل التجار والصنّاع الوضع، ويرفعون الأسعار استغلالاً للوضع. وأخيراً، تنشأ الحالة الثالثة للتضخُّم، جرّاء ارتفاع أسعار السلع والخدمات النهائية المستوردة من خارج الدولة، كارتفاع أسعار السيارات المستوردة، أو المواد الغذائية المستوردة، أو كلف الذهاب في رحلات سياحية إلى دولة ما، وبالتالي الحاجة إلى دفع مبالغ أكبر ممّا اعتاد عليه المستهلك المحلي لشراء تلك السلع أو الخدمات المستوردة. بيد أنَّ معالجة التضخُّم في كلِّ حالة من الحالات الثلاث السابقة لها وصفة ومقاربات خاصة، قلّما تتشابه فيما بينها. ولكن الفكر الاقتصادي الذي نشأ منذ بداية عقد السبعينيات من القرن المنصرم قام على ما قدَّمه عالِم الاقتصاد المشهور ميلتون فريدمان، الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد عام 1976، والذي عزَّز فكر مدرسة حرية رأس المال التي تؤمن بالحرية الاقتصادية التامة، وترك ضبط الأسواق للقوى الخفية التي تعيد توازنها بفعل ما يُسمّى قوى العرض والطلب، التي تجعل كلَّ شيء يعمل ذاتياً، ولا دور حقيقياً للحكومات في ضبط الأسواق، وإن هناك آليات ميكانيكية تؤدي إلى ضبط أي اختلال في الأسواق، وكل ما يُطلب من صنّاع القرار هو تطبيق تلك الآليات الميكانيكية، أو تركها تعمل دون تدخُّل، وهي ستقوم بالواجب لتصويب التشوهات. وضمن هذا الفكر جاءت نظريته التي تقوم على إنَّ كلَّ تضخُّم يُعالَج برفع أسعار الفائدة، وكلَّ ركود يعالَج بتخفيضها إلى أدنى المستويات، وهي وصفة طبَّقها العالم على مدى العقود الخمس الماضية، فكانت مجدية في الكثير من الحالات، خاصة أنَّ معظم مظاهر التضخُّم العالمي التي واجهها سابقاً نشأت أساساً عن تضخُّم سحب الطلب، أي كثرة النقود وقلة السلع، ما يعني أنَّ الأجدى على البنوك المركزية أن تبادر، عبر منصاتها وأدواتها غير المباشرة، برفع أسعار الفائدة لتقليل حجم النقود التي تدور في الأسواق، وهو ما يُحفّز البنوك برفع أسعار الفوائد على الودائع، وعلى القروض بالضرورة، فالفائدة العالية المُرتفعة، من جهة، حافزٌ لسحب النقود من الأسواق والاحتفاظ بها في الودائع للإفادة من العوائد الكبيرة، وكلما زادت الفائدة ارتفع الإقبال على الادخار بدلاً من الإنفاق، ما يؤدي في النهاية إلى تجفيف الأسواق من النقود السائبة فيها، ومن جهة ثانية، ترفع كلف الاقتراض وتخفف من مزيد من ضخ النقود في الاقتصاد، فينكمش الاقتصاد، ويعود التوازن بين حجم السلع وأحجام النقود إلى التوازن، وفقاً لتلك النظرية. والمعضلة الحقيقية أنَّ العالم لجأ إلى روشتة أسعار الفائدة، كأنها بنادول التضخُّم Inflation Panadol، وذلك كلما تحرَّكت الأسعار نحو التضخم أو الركود، وهو ما يطبِّقه صنّاع القرار الاقتصادي في العالم اليوم، دون أن يتجثموا عناء تحليل أسباب ما نعيشه اليوم من تضخُّم مركَّب الأسباب. والحقيقة أنَّ الجميع يهرول نحو تلك السياسة لقيام الولايات المتحدة الأمريكية بتبنّي سياسات 'بنادول التضخُّم'، عبر آلية سعر الفائدة، لكونها صاحبة العملة العالمية التي تُحدِّد القوة الشرائية للعديد من العملات العالمية، فنحو نصف دول العالم تربط عملتها بالدولار عبر سياسة تثبيت أسعار الصرف، ما يعني التزامها باتباع سياسات الولايات المتحدة فيما يتعلَّق بسعر الفائدة خطوة بخطوة. ولم ينتبه العالم إلى أنَّ دولاً عديدة، منها اليابان وعدد من الدول الأوروبية، لجأت إلى 'بنادول التضخُّم'، عبر تخفيض أسعار الفائدة إلى الصفر، بل وإلى معدل سالب، للخروج من أزمة الركود التي كانت تمرُّ بها قبل جائحة كورونا بعقود، ولكنها لم تعمل، ولم تؤدِّ إلى تحريك عجلة الآقتصاد. والغريب أنَّ تلك الدول تحوَّلت إلى سياسة معاكسة تماماً، وعبر الروشتة نفسها (بنادول التضخُّم)، لمواجهة حالة تضخُّم جامح يصل، للمرة الأولى منذ أربعين سنة، إلى منزلتيين عشريتين. تضخُّم اليوم لا يحتاج إلى روشتة مسكنات وبنادول؛ لأنه ثلاثي الأبعاد والأسباب، وعلاجه يحتاج إلى تحليل عميق، يكاد يختلف بين دولة وأخرى، فهو تضخُّم تكاليف، بفعل تعطُّل سلاسل التزويد، وتعطُّل محركات الأعمال عالمياً خلال الجائحة، زيادة كلف النفط، والمواد الخام الأخرى، وكلف الخدمات اللوجستية، وخاصة النقل والتزويد، وتزامن ذلك كله مع تضخُّم سيولة زائدة، بفعل ضخ الأموال، وحقن الاقتصادات بسياسات تيسير نقدي، ودفع معونات نقدية ضخمة في معظم دول العالم، دون أن تكون تلك المدفوعات مرتبطة بإنتاج أو عمل، وذلك خلال أزمة كورونا، حيث ضخَّت الحكومة الأمريكية السابقة وحدها نحو 3 تريليونات دولار، كمساعدات نقدية وتحويلات مباشرة، دون أن يرتبط ذلك بإنتاج، ما يعني تفعيل ظاهرة تضخم الطلب، نقود كثيرة تطارد سلع قليلة، وتتوَّج ذلك كله في المحصلة بحدوث موجة ارتفاع في أسعار المواد النهائية المستوردة والخدمات المستوردة، ما أوصل دول العالم أجمع إلى ثَالِثَة الأثَافِي عبر تضخُّمٍ مستوردٍ جامحٍ وملموس. والسؤال المهم: كيف تخرج الدول من تلك المعضلة ثلاثية المكونات؟ الإجابة الأسهل: عبر سياسات فريدمان، ومدرسته، مدرسة شيكاغو النقدية، أي من خلال 'بنادول التضخم'، رفع أسعار الفائدة، ما يؤدي حتماً إلى ضبط التضخُّم، ولكن قسراً بعد مرور وقت لا يقل عن ثلاث سنوات، تختنق خلاله الاقتصادات؛ بسبب معالجة أغراض تضخُّم الكلفة والتضخُّم المستورد باستخدام ترياق تضخُّم الطلب، أي البنادول، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى ضرب القوة الشرائية لأصحاب الدخول المتوسطة والمنخفضة بعمق، خاصة حينما يتعلَّق الأمر بأصحاب الدخول الثابتة المحدودة، القائمة على الرواتب والأجور. أمّا الإجابة العملية فهي تقول: إنَّ معالجة التضخُّم في مثل هذه الظروف تتطلَّب تحليلاً نوعياً مخبرياً، وصورة طبقية ملونة، ليتضح بشكلٍ جَلِيٍّ، في كلِّ اقتصاد، أي الأشكال الثلاثة السابقة أكثر تأثيراً على مستوى ومعدل التضخُّم فيه، فإن كان الأمر يتعلق بتكاليف الإنتاج، وتكاليف الحصول على المواد الخام، فإنَّ ذلك يتطلَّب توسيع قاعدة الإنتاج، وتشجيع وتحفيز مزيد من الاستثمار، وخلق حركة اقتصادية، وفتح أسواق جديدة تجعل الإنتاج في تلك الدول يصل إلى ما يُسمّى في الاقتصاد «وفورات الحجم»، أي تخفيض تكاليف الإنتاج عبر استغلال أكبر طاقة كامنة في المصانع، والمؤسَّسات، وذلك لا يستدعي المساس بسعر الفائدة بشكل جوهري، مع إمكانية تحريك الفائدة إلى الأعلى بنسبة بسيطة، حفاظاً على تنافسية العملة، أمام الدولار، إن كان سعرها مثبتاً أمام الدولار، وليس معوماً، أو محدداً بسلة عملات. أمّا إن كان السبب تضخُّماً مستورداً، أي نتاج ارتفاع أسعار السلع النهائية والخدمات من بلد المَصْدَر، فإنَّ ذلك يتطلَّب البحث عن بدائل لتلك السلع، وتوسيع وتنويع مصادر التجارة الخارجية، وخلق منافسة مناسبة ونوعية للسلع التي ترتفع أسعارها، وخلق تنافسية في السوق الواحد، ومنع أي احتكار تجاري يؤدي إلى استغلال المستهلك، وهو دور تلعبه الحكومات، ومؤسَّسات حماية المستهلك. وأخيراً وليس آخراً، إن كان التضخُّم نتاج السيولة الزائدة في الدولة فإنَّ ذلك يستدعي بالضرورة زيادة أسعار الفائدة ومكافحة تضخُّم الطلب، واستخدام الوصفة التقليدية المعروفة، والمطبَّقة اليوم. وفي النهائة، إن كان التضخُّم توليفة من كلِّ ذلك، كما هي الحالة اليوم، فإنَّ السياسة الأكثر نجاعة هي أيضاً توليفة من السياسات الثلاث المذكورة، حيث تُستخدَم كلُّ جرعة علاجاً وفقاً لحجم وقوة تأثير أيٍّ من الأسباب الثلاثة، وكلٌ بحجم تأثيره في معدل التضخُّم في الدولة، وهو ما يعني اختلاف توليفة العلاج بين اقتصاد وآخر، بما يساعد، من جهة، على صياغة روشتة علاجية مُركّبة من السياسات النقدية والمالية التي تؤدي إلى توسيع القاعدة الإنتاجية بسياسات استثمارية تحفيزية، مالية ونقدية ونوعية، ومن جهة ثانية تطبيق سياسة تجارية تفاعلية تؤدي إلى ضبط الاحتكار الخارجي، وتنويع القاعدة الاستيرادية للدولة، وأخيراً وليس آخراً، رفع أسعار الفائدة لتحفيز الادخار، والحفاظ على القوة الشرائية للعملة والدخول، ولكن بنسبة ارتفاع لا توازي بالضرورة ما تقوم به الولايات المتحدة من مستويات، وبالوزن النسبي نفسه لمسببات تضخُّم الطلب في الدولة، على أن يتواءم ذلك كله مع ترشيد للانفاق العام، وهندسة مالية، عبر سياسات مالية متشددة في الانفاق الاستهلاكي، وميسّرة للمشاريع الاستثمارية، وحصيفة في تحصيل الضرائب والرسوم.
khwazani@gmail.com
بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ السياسات العامة المشارك
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
الطبيب المختص الماهر، لا يبدأ بعلاج مريضه دون اللجوء إلى تحليل عام وعميق لما يشعر به المريض من أعراض، حتى لو كانت ظواهر تلك الأعراض واضحة له، فمجرد الشعور بألم في الرأس، لا يعني أن تصرف علبة مُسكن ألم، أو حقنة مورفين، في حالات الألم الشديد، بل الواجب معرفة الأسباب وراء الألم مهما كانت شدته، لصرف العلاج المناسب. وفي العلاج الاقتصادي لحالات الدول، يتطلَّب الأمر دوماً التأكُّد من أسباب نشوء أي عارض اقتصادي، سواء أكان العارض هيكلياً يضرب عصب الاقتصاد بقطاعاته كافَّة، أو قطاعياً يضرب قطاعاً منه دون غيره، أو عارضاً جزئياً يضرب مفاصل من مؤسَّسات، أو أفراد، أو مِهن، أو مناطق اقتصادية. الشاهد من ذلك كله أنَّ العلاج بوصفات محفوظة، جاهزة، ومكرَّرة، ليس من الرُّشد أو الحكمة، حتى لو أنَّ مَن وصفها، أو اخترعها، أو قدَّمها، أكبر علماء العلاج الاقتصادي. العالَم اليوم يواجه حالة من التضخُّم النادر بمكونات نشأته، أي الأعراض أو الأسباب التي أدَّت إليه، ومن ثمَّ فهو تضخُّم يحتاج إلى تحليل في المختبر، وفحوصات محدَّدة، حتى وإن كانت مظاهر أعراضه موجودة في أكثر من دولة. والتضخُّم علمياً ينشأ عن ثلاث حالات أساسية؛ الأولى حينما ترتفع تكاليف الإنتاج ، سواء أكان الارتفاع على المواد المحلية الداخلة في الإنتاج، من أجور ومواد خام محلية، أو من مواد خام مستوردة من الخارج، وفي هذه الحالة ينشأ ما يُسمّى تضخُّم دفع التكاليف. والحالة الثانية لظهور التضخُّم تنشأ حينما يكون حجم النقود السائلة والمتداولة بين الناس أكبر بكثير من حجم السلع والخدمات المتوافرة في الاقتصاد، وعندها يُقال إنَّ هناك أموالاً كثيرة تطارد سلعاً قليلة، فينشأ ما يُسمّى تضخُّم سحب الطلب، أي التنافس بين مستهلكين على السلع والخدمات، فيستغل التجار والصنّاع الوضع، ويرفعون الأسعار استغلالاً للوضع. وأخيراً، تنشأ الحالة الثالثة للتضخُّم، جرّاء ارتفاع أسعار السلع والخدمات النهائية المستوردة من خارج الدولة، كارتفاع أسعار السيارات المستوردة، أو المواد الغذائية المستوردة، أو كلف الذهاب في رحلات سياحية إلى دولة ما، وبالتالي الحاجة إلى دفع مبالغ أكبر ممّا اعتاد عليه المستهلك المحلي لشراء تلك السلع أو الخدمات المستوردة. بيد أنَّ معالجة التضخُّم في كلِّ حالة من الحالات الثلاث السابقة لها وصفة ومقاربات خاصة، قلّما تتشابه فيما بينها. ولكن الفكر الاقتصادي الذي نشأ منذ بداية عقد السبعينيات من القرن المنصرم قام على ما قدَّمه عالِم الاقتصاد المشهور ميلتون فريدمان، الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد عام 1976، والذي عزَّز فكر مدرسة حرية رأس المال التي تؤمن بالحرية الاقتصادية التامة، وترك ضبط الأسواق للقوى الخفية التي تعيد توازنها بفعل ما يُسمّى قوى العرض والطلب، التي تجعل كلَّ شيء يعمل ذاتياً، ولا دور حقيقياً للحكومات في ضبط الأسواق، وإن هناك آليات ميكانيكية تؤدي إلى ضبط أي اختلال في الأسواق، وكل ما يُطلب من صنّاع القرار هو تطبيق تلك الآليات الميكانيكية، أو تركها تعمل دون تدخُّل، وهي ستقوم بالواجب لتصويب التشوهات. وضمن هذا الفكر جاءت نظريته التي تقوم على إنَّ كلَّ تضخُّم يُعالَج برفع أسعار الفائدة، وكلَّ ركود يعالَج بتخفيضها إلى أدنى المستويات، وهي وصفة طبَّقها العالم على مدى العقود الخمس الماضية، فكانت مجدية في الكثير من الحالات، خاصة أنَّ معظم مظاهر التضخُّم العالمي التي واجهها سابقاً نشأت أساساً عن تضخُّم سحب الطلب، أي كثرة النقود وقلة السلع، ما يعني أنَّ الأجدى على البنوك المركزية أن تبادر، عبر منصاتها وأدواتها غير المباشرة، برفع أسعار الفائدة لتقليل حجم النقود التي تدور في الأسواق، وهو ما يُحفّز البنوك برفع أسعار الفوائد على الودائع، وعلى القروض بالضرورة، فالفائدة العالية المُرتفعة، من جهة، حافزٌ لسحب النقود من الأسواق والاحتفاظ بها في الودائع للإفادة من العوائد الكبيرة، وكلما زادت الفائدة ارتفع الإقبال على الادخار بدلاً من الإنفاق، ما يؤدي في النهاية إلى تجفيف الأسواق من النقود السائبة فيها، ومن جهة ثانية، ترفع كلف الاقتراض وتخفف من مزيد من ضخ النقود في الاقتصاد، فينكمش الاقتصاد، ويعود التوازن بين حجم السلع وأحجام النقود إلى التوازن، وفقاً لتلك النظرية. والمعضلة الحقيقية أنَّ العالم لجأ إلى روشتة أسعار الفائدة، كأنها بنادول التضخُّم Inflation Panadol، وذلك كلما تحرَّكت الأسعار نحو التضخم أو الركود، وهو ما يطبِّقه صنّاع القرار الاقتصادي في العالم اليوم، دون أن يتجثموا عناء تحليل أسباب ما نعيشه اليوم من تضخُّم مركَّب الأسباب. والحقيقة أنَّ الجميع يهرول نحو تلك السياسة لقيام الولايات المتحدة الأمريكية بتبنّي سياسات 'بنادول التضخُّم'، عبر آلية سعر الفائدة، لكونها صاحبة العملة العالمية التي تُحدِّد القوة الشرائية للعديد من العملات العالمية، فنحو نصف دول العالم تربط عملتها بالدولار عبر سياسة تثبيت أسعار الصرف، ما يعني التزامها باتباع سياسات الولايات المتحدة فيما يتعلَّق بسعر الفائدة خطوة بخطوة. ولم ينتبه العالم إلى أنَّ دولاً عديدة، منها اليابان وعدد من الدول الأوروبية، لجأت إلى 'بنادول التضخُّم'، عبر تخفيض أسعار الفائدة إلى الصفر، بل وإلى معدل سالب، للخروج من أزمة الركود التي كانت تمرُّ بها قبل جائحة كورونا بعقود، ولكنها لم تعمل، ولم تؤدِّ إلى تحريك عجلة الآقتصاد. والغريب أنَّ تلك الدول تحوَّلت إلى سياسة معاكسة تماماً، وعبر الروشتة نفسها (بنادول التضخُّم)، لمواجهة حالة تضخُّم جامح يصل، للمرة الأولى منذ أربعين سنة، إلى منزلتيين عشريتين. تضخُّم اليوم لا يحتاج إلى روشتة مسكنات وبنادول؛ لأنه ثلاثي الأبعاد والأسباب، وعلاجه يحتاج إلى تحليل عميق، يكاد يختلف بين دولة وأخرى، فهو تضخُّم تكاليف، بفعل تعطُّل سلاسل التزويد، وتعطُّل محركات الأعمال عالمياً خلال الجائحة، زيادة كلف النفط، والمواد الخام الأخرى، وكلف الخدمات اللوجستية، وخاصة النقل والتزويد، وتزامن ذلك كله مع تضخُّم سيولة زائدة، بفعل ضخ الأموال، وحقن الاقتصادات بسياسات تيسير نقدي، ودفع معونات نقدية ضخمة في معظم دول العالم، دون أن تكون تلك المدفوعات مرتبطة بإنتاج أو عمل، وذلك خلال أزمة كورونا، حيث ضخَّت الحكومة الأمريكية السابقة وحدها نحو 3 تريليونات دولار، كمساعدات نقدية وتحويلات مباشرة، دون أن يرتبط ذلك بإنتاج، ما يعني تفعيل ظاهرة تضخم الطلب، نقود كثيرة تطارد سلع قليلة، وتتوَّج ذلك كله في المحصلة بحدوث موجة ارتفاع في أسعار المواد النهائية المستوردة والخدمات المستوردة، ما أوصل دول العالم أجمع إلى ثَالِثَة الأثَافِي عبر تضخُّمٍ مستوردٍ جامحٍ وملموس. والسؤال المهم: كيف تخرج الدول من تلك المعضلة ثلاثية المكونات؟ الإجابة الأسهل: عبر سياسات فريدمان، ومدرسته، مدرسة شيكاغو النقدية، أي من خلال 'بنادول التضخم'، رفع أسعار الفائدة، ما يؤدي حتماً إلى ضبط التضخُّم، ولكن قسراً بعد مرور وقت لا يقل عن ثلاث سنوات، تختنق خلاله الاقتصادات؛ بسبب معالجة أغراض تضخُّم الكلفة والتضخُّم المستورد باستخدام ترياق تضخُّم الطلب، أي البنادول، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى ضرب القوة الشرائية لأصحاب الدخول المتوسطة والمنخفضة بعمق، خاصة حينما يتعلَّق الأمر بأصحاب الدخول الثابتة المحدودة، القائمة على الرواتب والأجور. أمّا الإجابة العملية فهي تقول: إنَّ معالجة التضخُّم في مثل هذه الظروف تتطلَّب تحليلاً نوعياً مخبرياً، وصورة طبقية ملونة، ليتضح بشكلٍ جَلِيٍّ، في كلِّ اقتصاد، أي الأشكال الثلاثة السابقة أكثر تأثيراً على مستوى ومعدل التضخُّم فيه، فإن كان الأمر يتعلق بتكاليف الإنتاج، وتكاليف الحصول على المواد الخام، فإنَّ ذلك يتطلَّب توسيع قاعدة الإنتاج، وتشجيع وتحفيز مزيد من الاستثمار، وخلق حركة اقتصادية، وفتح أسواق جديدة تجعل الإنتاج في تلك الدول يصل إلى ما يُسمّى في الاقتصاد «وفورات الحجم»، أي تخفيض تكاليف الإنتاج عبر استغلال أكبر طاقة كامنة في المصانع، والمؤسَّسات، وذلك لا يستدعي المساس بسعر الفائدة بشكل جوهري، مع إمكانية تحريك الفائدة إلى الأعلى بنسبة بسيطة، حفاظاً على تنافسية العملة، أمام الدولار، إن كان سعرها مثبتاً أمام الدولار، وليس معوماً، أو محدداً بسلة عملات. أمّا إن كان السبب تضخُّماً مستورداً، أي نتاج ارتفاع أسعار السلع النهائية والخدمات من بلد المَصْدَر، فإنَّ ذلك يتطلَّب البحث عن بدائل لتلك السلع، وتوسيع وتنويع مصادر التجارة الخارجية، وخلق منافسة مناسبة ونوعية للسلع التي ترتفع أسعارها، وخلق تنافسية في السوق الواحد، ومنع أي احتكار تجاري يؤدي إلى استغلال المستهلك، وهو دور تلعبه الحكومات، ومؤسَّسات حماية المستهلك. وأخيراً وليس آخراً، إن كان التضخُّم نتاج السيولة الزائدة في الدولة فإنَّ ذلك يستدعي بالضرورة زيادة أسعار الفائدة ومكافحة تضخُّم الطلب، واستخدام الوصفة التقليدية المعروفة، والمطبَّقة اليوم. وفي النهائة، إن كان التضخُّم توليفة من كلِّ ذلك، كما هي الحالة اليوم، فإنَّ السياسة الأكثر نجاعة هي أيضاً توليفة من السياسات الثلاث المذكورة، حيث تُستخدَم كلُّ جرعة علاجاً وفقاً لحجم وقوة تأثير أيٍّ من الأسباب الثلاثة، وكلٌ بحجم تأثيره في معدل التضخُّم في الدولة، وهو ما يعني اختلاف توليفة العلاج بين اقتصاد وآخر، بما يساعد، من جهة، على صياغة روشتة علاجية مُركّبة من السياسات النقدية والمالية التي تؤدي إلى توسيع القاعدة الإنتاجية بسياسات استثمارية تحفيزية، مالية ونقدية ونوعية، ومن جهة ثانية تطبيق سياسة تجارية تفاعلية تؤدي إلى ضبط الاحتكار الخارجي، وتنويع القاعدة الاستيرادية للدولة، وأخيراً وليس آخراً، رفع أسعار الفائدة لتحفيز الادخار، والحفاظ على القوة الشرائية للعملة والدخول، ولكن بنسبة ارتفاع لا توازي بالضرورة ما تقوم به الولايات المتحدة من مستويات، وبالوزن النسبي نفسه لمسببات تضخُّم الطلب في الدولة، على أن يتواءم ذلك كله مع ترشيد للانفاق العام، وهندسة مالية، عبر سياسات مالية متشددة في الانفاق الاستهلاكي، وميسّرة للمشاريع الاستثمارية، وحصيفة في تحصيل الضرائب والرسوم.
khwazani@gmail.com
التعليقات