بقلم: د. سهم محمد العبادي
في مدرسة الكرامة الثانوية الشاملة للبنات بلواء الشونة الجنوبية، لم يكن اللقاء ندوة تقليدية تُضاف إلى سجل النشاطات، بل كان لحظة صادقة بين التاريخ والمستقبل، بين أرض ارتوت بدماء الشهداء، وعقول تزهر اليوم بوعيٍ عميق لا يقل شرفًا عن معركة البنادق.
"الصحافة والمدرسة توأمان" … كان هذا عنوان اللقاء الحواري الذي نظمته المدرسة بحضور مدير التربية والتعليم في اللواء الدكتور مازن هديرس، ومديرة المدرسة الأستاذة أمينة الحجاجرة، وبالتنسيق الدقيق من المعلمة النشطة هند الزيادات. وكان لي شرف الحضور لا كمحاضر، بل كمتعلمٍ في حضرة طالبات يحملن في مداخلاتهن من الحكمة والوعي ما يفوق كثيراً مما نراه في بعض المنصات الإعلامية.
في تلك المدرسة، لمست الفرق بين التعليم الذي يُلقّن، والتعليم الذي يُطلق العقل، وينتج شخصية قادرة على السؤال لا الحفظ فقط، على النقد لا التلقين، على البناء لا الهدم.
تحدثنا عن الإعلام، عن مسؤوليته الأخلاقية والوطنية، عن تحوّله من الصحافة الورقية إلى الإعلام الرقمي، عن التحديات التي يواجهها اليوم في زمن منصات التواصل والانفجار المعلوماتي. قلت لهن:
"الصحافة ليست مجرد نقل خبر، بل هي مسؤولية وطن، هي صوت الناس لا صدًى للسلطة، هي مرآة للوجع والأمل معًا."
لكن الحقيقة؟ أنا من تلقيت الدرس.
الأسئلة التي طُرحت كانت بمستوى طاولة خبراء:
كيف نميز بين الرأي والمعلومة؟
كيف نتحقق من صحة الخبر؟
ما معنى الإعلام البيئي؟
ما علاقة التربية بالإعلام؟
كيف نُحارب الشائعة؟
كيف يكون الإعلام حارسًا للوطن لا سيفًا عليه؟
هؤلاء البنات، لا يمكن وصفهن إلا بأنهن "بنات الكرامة"، لا من باب الجغرافيا فقط، بل من باب التاريخ والوعي والبصيرة. بنات الأرض التي شهدت أعظم معارك الجيش العربي، والتي هزم فيها الأردني العدو، وكتب بالدم على أرضها اسمًا خالدًا اسمه "الكرامة". واليوم، نرى البنات أنفسهن يحملن الراية: لكن لا في الميدان العسكري، بل في الميدان التربوي، الإعلامي، والوطني.
رأيت في مدرسة الكرامة ما يثبت أن المدرسة ليست فقط حصة وصف ودفتر، بل وطن مصغّر، وأن المعلمة الأردنية ليست فقط مربية، بل صانعة فكر، ومُخرجة لجيل جديد يؤمن بالأردن، ويقرأه جيدًا، ويحلم له كثيرًا.
في ختام اللقاء، غادرت وأنا مملوء بفخر لا يُشترى، وإيمان لا يُزعزع: أن في مدارسنا الحكومية منارات حقيقية يجب أن نضيء عليها، وأن هذه المدرسة تحديدًا تستحق الإشادة والتقدير، قيادة وكوادر وطالبات، قد أكون منحازا للكرامة بسبب الحبل السري الذي يربطني بكل أرض أردنية، خصوصا تلك التي كانت بوابة نصر الأمة الأول.
ومن هنا، أوجه دعوة خالصة إلى معالي وزير التربية والتعليم الدكتور عزمي محافظة، لزيارة هذه المدرسة المباركة، والجلوس مع طالباتها، والاستماع إلى هذا الجيل الجميل، الذي نضج قبل أوانه، وحمل في عقله أسئلة الوطن وفي قلبه انتماءً نادرًا.
فالكرامة لا تزال تنبض، والبنادق تحوّلت إلى وعي، والرصاص أصبح كلمات، والمدرسة تحوّلت إلى مصنع قادة.
نعم، إننا أمام جيل "بنات الكرامة"... وإن كنتم تبحثون عن مستقبل الأردن، فقد وجدته هناك... بين دفاترهن.