لعلّه من المهم كيف سيُؤرَّخ الموقف الأردني من حرب غزة التي ما زالت مستمرة، وربما آثارها ستتعاظم أكثر، والأردن ليس الأبعد عن تلك الآثار، بل هو الأكثر تأثُّرًا، خاصة في الزمن الترامبي. وبلا شكّ، قام الأردن بفعل دبلوماسي وإنساني وسياسي كبير، وهناك أدوار عربية وإسلامية وعالمية كبيرة ضد الحرب ومع الشعب الفلسطيني.
من المهم اليوم إعادة تحليل الموقف الأردني وبنائه، وكيف تطوَّر، وما هو الأثر الذي أحدثه، وهو بلا أي مواربة فعلُ دولةٍ وقيادةٍ ومؤسساتٍ.
البعض سيقول: وماذا عن الناس؟ نعم، قاموا بفعلٍ ودورٍ مهم، لكنه تناغم وتوحُّد مع موقف الدولة، أعني كسلطةٍ سياسيةٍ هي التي ساعدت على الموقف الشعبي، واليوم نشهد نوعًا من الهمس حول مسألة التناغم بين الشعبي والرسمي والحرص عليه، خاصة أن البعض يستخدم حالة التناغم التي سادت لتبرير خروجه على القانون والفتِّ في عضُد الدولة وتبرير تجاوز خطابه للسقوف، وهذا أمرٌ خطير، ونشهده ذلك في خطاب الجماعات التي تُصرُّ على العودة للحشود والمجال العام، والبعض يرى أنه كان بالإمكان تخفيف آثار الحرب على الأردن، وأن موقفنا الكبير والمهم والأخلاقي والوطني والعربي ستكون كلفته السياسية كبيرة، أو ربما سينعكس على موقف الولايات المتحدة منّا ومن الدبلوماسية الأردنية.
المهم أن يوميات حرب غزة قاسية أردنيًّا، وبالرغم من موقفنا كدولة محترمة، ولا موقف يُدانيها ويُشبه موقف قيادتها وجيشها، فإننا وجدنا مَن يُزاود علينا، ومَن يتهم، ومَن ينبز، ومَن يتحدث بلغةٍ خشبيةٍ، ويريد منّا أن نخوض حربًا لا يمكن خوضها، وقد عبَّرنا مرارًا بأن مسارنا وخيارنا الوطني في العلاقة مع العدو هو السلام.
نعم، سمحت الدولة بالهتاف لحماس وقادتها، وكان بوسعها منع المظاهرات، ومارس قادة حماس بالمقابل خطابًا خشبيًّا معنا، يريدون من أبناء الأردن فتح الحدود والضغط على قيادتهم الهاشمية، كان ذلك يُعلن خطيئةً كبيرة، عانقتْ خطابًا بائسًا لحركة الإخوان التي التقتْ رئيس الحكومة قبل مدة وخرج قادتها يؤكِّدون وقوفهم مع الدولة الأردنية، وقدَّمت الحركة خطابًا يستشعر غضب الدولة. ونحن نقول دومًا ما يُقرُّ به الأردنيون: «الإخوان مقدورٌ عليهم»، وقائمة الوقائع التاريخية معهم ومع الدولة واضحة.
لكن أين المشكلة اليوم؟ أرى أنها تكمن في جيلٍ شابٍّ تغذّى على كراهية الأردن، وآخرين غير الشباب حتى لا نُجمِلهم بالسوء، يريد دومًا أن يُبخس الأردنيون حقهم في بناء دولتهم ونموذجهم، وهذه الدولة بُنيت وأُسست على مكارم العروبة ومروءات الأردنيين والفكرة الهاشمية النهضوية التي سمحت لفؤاد سليم ورشيد طليع – والأخير رئيس أول حكومة، والأول قائدًا للجيش – أن يقوما بأنبل المهام في إمارة الشرق العربي، كما سمحتْ للفيلسوف رضا توفيق التركي ورشيد بقدونس ونبيه العظمة ومحمد الشريقي ومحمد التقي ومظهر أرسلان وصبري الطباع وتوفيق أبو الهدى وسليمان النابلسي وسمير الرفاعي وعارف العارف، وكذلك الحال ليوسف عزالدين ومحمد الضباطي ودولة عبد الله السراج، ومثلهم كثر من أصول فلسطينية أو تركية أو سورية أو حجازية أو شنقيطية وغيرهم كثر، بأن يبرزوا في المشهد الوطني ويؤسسوا جميعًا الدولة، في زمن الأمير المؤسس، إلى جانب عودة أبو تايه ومثقال الفايز وسليمان السودي وحسين الطراونة وارفيفان المجالي وسابا العكشة وسعيد المفتي وصالح أبو جابر وعلاوي الكباريتي وحابس المجالي وسعود العدوان وغيرهم كثر، وأولئك استمر أبناؤهم وأحفادهم في الدولة. كل تلك النخب من رجال الدولة أوجدتْ لنا وطنًا كبيرًا، وطنًا لا تفهم معناه وقيمته تلك الحناجر النشاز والتي تُشكك في الأردن ومواقفه العظيمة.
شخصيًّا أرى أن تطبيق القانون وسيادته هو المهم، للحدِّ وقفل المجال على الأصوات النشاز التي تُهدِّد المجتمع والدولة والسلم الأهلي، ولا مجال لممارسة الوعظ والخطابة على شعبٍ محترمٍ تحكمه قيادة محترمة غنية بمواقفها النبيلة والواضحة عن فلسطين. ولدينا قيادة، ومجتمعًا، دماءً للشهداء أزكتْ ثرى فلسطين، وللناعقين ضدنا الهلاكُ والخزي.
لهذا كله، سنكتب متونًا لتاريخٍ مُبهجٍ عن الأردن وقيادته في مسألة حرب غزة، وسيُخصص التاريخ هوامش توضيحية لكل المشككين بالأردن، لكي تقرأها الأجيال، ولكي نعرف خيبتنا جميعًا فيمَن مُنِحوا شرف العيش على أرض الأردن.