الدكتور أجمل الطويقات
ما أَصعبَ أَن تَجدَ نَفسكَ في مَوقفِ المُدافِعِ عنِ الحَقيقةِ في زَمَنٍ أَصبَحَ فيهِ الافتراءُ عادةً، والهَدمُ هوايةً يَتْقِنُها البعضُ بلا وعيٍ. وزارةُ التربيةِ والتعليمِ الأردنيةِ، تِلكَ الأُمُّ التي حَمَلَتْ على عاتِقِها تَربيةَ الأَجيالِ وتعليمَهُمْ، باتَتِ اليومَ بينَ مطرقةِ القطيعِ الذي يَنعِقُ دونَ عِلمٍ، وسندانِ ذوي القربى منَ التربويينَ الذينَ ما زادَها قربُهُمْ إلّا تَجنيًّا وظُلمًا.
عُقوقُ الوزارةِ الأُمِّ... عُقوقٌ للوطنِ
إنَّ عُقوقَ وزارةِ التربيةِ والتعليمِ ليسَ مجردَ تَطاولٍ على مؤسسةٍ حكوميةٍ، بل هُوَ عُقوقٌ مُؤَكَّدٌ للأُمِّ الأَكبرِ، الوَطَنِ نَفسِهِ. فالوَطَنُ الذي نَهَضَ على أكتافِ العلمِ والعلماءِ، لا يَليقُ بهِ أَنْ يُتركَ نَهبًا لأَقلامٍ مَأجورةٍ واتِّهاماتٍ جائرةٍ. إنَّ الادعاءَ بأنَّ الوزارةَ تَخلو منَ الأخطاءِ مَحضُ افتراءٍ، ولكن ما يُثيرُ الغرابةَ هو أنَّ هَؤلاءَ المُدعينَ أَنفُسَهُمْ هُم مَنْ يَحمِلونَ مَعاولَ الهدمِ لجدارِ القيمِ والأخلاقِ، غيرَ مُكترثينَ بدعوةِ اللهِ العَدلِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.
مدرسةُ الشونةِ الجنوبيةِ الثانويةِ للبَنينِ... حيثُ تماهى مفهومُ الكرامةِ والأُمِّ
كنتُ طالبًا في مدرسةِ الشونةِ الجنوبيةِ، تِلكَ المدرسةُ التي وَقَفَتْ شامخةً بجوارِ النصبِ التذكاريِّ لشهداءِ معركةِ الكرامةِ، شاهدةً على بَسالةِ الجيشِ العربيِّ المُصطفويِّ وحاضنتِهِ الشعبيةِ من أبناءِ الأردنِّ الشرفاءِ. لقد تَعَرَّضَتْ تِلكَ المدرسةُ للقصفِ الغاشمِ من قِبَلِ قواتِ العدوِّ الإسرائيليِّ، لكنَّها ما لَبِثَتْ أن نَهَضَتْ من تحتِ الركامِ بفضلِ جهودِ وزارةِ التربيةِ والتعليمِ، لتعاودَ دورَها في غَرسِ القيمِ وتعليمِ الأجيالِ.
ولأنَّ الأقدارَ شاءَتْ أن أعودَ إليها مُعلِّمًا بعدَ أن كُنتُ طالبًا فيها، فقد وَجَدتُ نَفسي أَحمِلُ الطَّبشورةَ ذاتَها التي تَعلَّمتُ منها أولى حُروفِ الكرامةِ. هناكَ، في تِلكَ الصفوفِ التي غَمَرَتها ذِكرياتُ النضالِ والعلمِ، أَدركتُ أنَّ التعليمَ رسالةٌ قبلَ أن يكونَ وظيفةً، وأنَّ القلبَ المُحبَّ يَنتقِلُ معه الطَّبشورةُ واللوحُ والأقلامُ وأوراقُ التصحيحِ من مدرسةٍ إلى أخرى. لقد كانت تِلكَ التجربةُ درسًا جديدًا في حُبِّ الوطنِ، حيثُ أصبحَ مفهومُ الكرامةِ مُتجسِّدًا فينا، طَلَبةً ومُعلِّمينَ.
رسالةُ التعليمِ... بينَ التحدياتِ والإنجازاتِ
نعم، قد تَعاني بيئاتُ المدرسةِ من بَعضِ المادِّياتِ، وقد تَحدثُ بعضُ الأخطاءِ هنا وهناكَ، لكن هل منَ المنطقِ أن نتجاهلَ أنَّ لدينا أكثرَ من أربعةِ آلافِ مدرسةٍ، وما يزيدُ على مليوني طالبٍ، وأكثرَ من مئةٍ وعشرينَ ألفَ مُعلِّمٍ وإداريٍّ ومُساندٍ؟ أضف إلى ذلكَ تَقَلُّصَ دورِ الأسرةِ في دَعمِ تعديلِ سلوكِ الطَّلبةِ وتوجيهِهم، مما يَزيدُ العبءَ على المدرسةِ ويُضاعفُ مسؤوليةَ المعلمينَ.
لا أُبرِّرُ لأيِّ أحدٍ تَترتَّبُ عليهِ مسؤوليةٌ أخلاقيةٌ أو وظيفيةٌ في أيِّ موقفٍ كانَ، ولكن الحقَّ يُقالُ إنَّ جهودًا جَبارةً تُبذَلُ للارتقاءِ بالعمليةِ التعليميةِ رغمَ شُحِّ الإمكانياتِ وتعددِ التحدياتِ. إنَّنا بحاجةٍ إلى أيدٍ مُساندةٍ، لا أيدٍ هادمةٍ همُّها الوحيدُ الظهورُ ولو على حسابِ الوطنِ.
المعلِّمُ الأردنيُّ... جنديٌّ لا يَعرِفُ التَّراجُعَ
وفي هذا السِّياقِ، لا بُدَّ من أن نَنحني إجلالًا لكلِّ معلِّمٍ واعٍ في مدارسِ الأردنِّ، أولئك الذينَ آمَنوا برسالتِهِم وأَدركوا أنَّ دورَهُمْ لا يقتصرُ على تَلقينِ الدُّروسِ، بل يَتعدَّاهُ إلى غَرْسِ القيمِ والكرامةِ. هُم الجنودُ الصامتونَ الذينَ يُواجِهونَ صعوباتِ المهنةِ وضُغوطَ الحياةِ بابتسامةٍ وثَباتٍ، يَنحتونَ في صُخورِ الجهلِ نورًا، ويَصنعونَ من الأحلامِ واقعًا رغمَ كلِّ التحدياتِ.
نحوَ كلمةٍ طيبةٍ... تَقومُ وتَبني
ويا صاحبَ القلمِ، لا تَكن بخيلًا بالكلماتِ الطيبةِ. إن أَحببتَ فَقُلْ، وإن أُعجِبتَ فأَفصِحْ، وإن رأيتَ جميلًا فامدحْ. الكلمةُ الطيبةُ ليستْ مجردَ حروفٍ تُنثَرُ في الهواءِ، بل هي زادُ القلوبِ ولمسةٌ تُحيي الأرواحَ حينَ يَنهكُها الجفافُ. إنَّها قانونٌ إلهيٌّ للرفقِ الإنسانيِّ، دعوةٌ لأن نكونَ سُكّانًا في بيوتِ القلوبِ، لا غُزاةً يَهدمونَها.
وختامًا، نقولُ لكلِّ من يسعى لهَدمِ وزارةِ التربيةِ والتعليمِ بلسانهِ أو قلمهِ: تريَّثْ قبلَ أن تَقذِفَ بحجارةِ نقدِكَ، فالبناءُ يحتاجُ إلى صَبرٍ وإخلاصٍ، أما الهدمُ فلا يتطلَّبُ سوى جَهلٍ أو حقدٍ. وكما قالَ الشاعرُ:
قد تُنكرُ العينُ ضوءَ الشمسِ من رَمَدٍ
وينكرُ الفمُ طَعمَ الماءِ من سَقَمِ
وزارةُ التربيةِ والتعليمِ ستَبقى صامدةً كالسنديانِ، تُغرَسُ فيها جُذورُ الكرامةِ لتُثمِرَ أجيالًا واعيةً، ولن تُزعزِعَها سهام