سهم محمد العبادي
في خضم التحولات السياسية التي تشهدها المنطقة، ومع تعاقب الإدارات في البيت الأبيض، يبرز الأردن مرة أخرى كلاعب رئيسي في صياغة المعادلات الإقليمية، وهو ما أثبتته المواقف الصلبة لجلالة الملك عبد الله الثاني في مواجهة المشاريع التي تمس جوهر القضية الفلسطينية وأمن المنطقة.
منذ وصول دونالد ترامب إلى السلطة، لم يكن خافيًا أنه يحمل في جعبته تصورات خاصة لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ورغم الضجيج الإعلامي والسياسي الذي صاحب "صفقة القرن"، إلا أن بعض البنود لم تكن محط تركيز كافٍ، ومنها فكرة تهجير الغزيين إلى الأردن ومصر، وهو الطرح الذي كرره ترامب في أكثر من مناسبة، متجاهلًا بشكل واضح الرفض الأردني والمصري القاطع لهذه الفكرة.
ورغم محاولات الإعلام الدولي، وحتى بعض الأصوات داخل واشنطن، لشرح أن الأردن لن يقبل هذه التسويات المفروضة، كان الرئيس الأمريكي يصرّ على أن عمّان والقاهرة ستقبلان عاجلًا أم آجلًا، وكأن المنطقة مجرد رقم في معادلة البيت الأبيض. إلا أن الواقع أثبت أن الإرادة السياسية العربية، خصوصًا الأردنية، أقوى من أي ضغوط أو تصورات مغلوطة.
عندما التقى جلالة الملك عبد الله الثاني بالرئيس ترامب، لم يكن هناك أي مجال للمناورة أو التأويل. كان الحديث واضحًا وصريحًا: "لا توطين، لا تهجير، لا وطن بديل." هذا الموقف لم يكن مجرد تصريح سياسي، بل كان امتدادًا لنهج ثابت، يعتمد على رؤية عربية مشتركة، تقوم على إعادة إعمار غزة وبقاء أهلها على أرضهم، كجزء من حل شامل للصراع. الملك لم يأتِ إلى واشنطن ليوافق على إملاءات، بل ليقدم للعالم خطة عربية متكاملة، تعيد ترتيب الأولويات على أسس عادلة ومستدامة.
لم تمضِ أيام حتى خرج الناطق الإعلامي باسم البيت الأبيض ليؤكد أن الأردن يرفض تهجير الفلسطينيين، في إشارة إلى أن هذه الفكرة لم تجد صدى في دوائر القرار العربي. ومع ذلك، لم يكن هذا الاعتراف كافيًا، فقد عاد ترامب نفسه، وبشكل مفاجئ، ليقول إن خطته بشأن التهجير لم تكن سوى مقترح، وأنه لم يكن ينوي فرضها على أحد.
هذا التراجع، أو ما يمكن وصفه بالتحول 180 درجة، يعكس أمرين مهمين: الأول هو الوزن السياسي للأردن في المعادلة الإقليمية، فهو ليس مجرد دولة تمر عبرها الخطط، بل هو مفتاح الحل والاستقرار في المنطقة. والثاني هو قوة الدبلوماسية الأردنية بقيادة الملك عبد الله الثاني، الذي استطاع أن يحوّل موقفًا كان يبدو كخطر محدق إلى نقطة ارتكاز في الصراع، تعيد ترتيب الأولويات بما يخدم الفلسطينيين والمنطقة ككل.
ما حدث ليس مجرد انتصار دبلوماسي، بل هو انعكاس لنظام سياسي متماسك، يدرك حجم التحديات، ويواجهها بحنكة ووضوح. فالأردن لم يقبل أن يكون طرفًا في صفقة غامضة، ولم يسمح بأن يتحول إلى "وطن بديل"، بل حافظ على التوازن بين أمنه القومي ودوره الإقليمي ومسؤوليته تجاه القضية الفلسطينية.
واليوم، بينما تتغير المواقف في واشنطن، يبقى الموقف الأردني ثابتًا: الأردن ليس ورقة تفاوض، بل هو أساس لأي حل سياسي عادل، ولن يكون جزءًا من مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، مهما كانت الضغوط.