أخبار اليوم - أمضتْ عدّة دقائق عالقةً تحت سقفين في بقعةٍ مظلمة، غارقةً في أوجاعها، نتيجةً لذلك الثقل الذي كان للتوِّ يأويها، ليتحوّل إلى قبرٍ يُطبق على أنفاسها التي كادت تختنق. كان الصمتُ المحيطُ بالمكان يردُّ صوتَ ندائها على عائلتها خاويًا من أيِّ استجابة، وبقيتْ تستغيثُ حتى وصلت طواقمُ الدفاع المدني، التي لم تكن مهمّتها سهلةً في الحفر بين الركام بأدواتٍ بدائيةٍ تحاول الوصول إلى صاحبةِ صوتِ الاستغاثة.
"هينا قرّبنا نصل.. هانت يا شباب.. مش ضايل كتير، في عمود باطون قصّوه".. أصواتُ حوارٍ بين طواقم الإنقاذ، بعد أكثر من ساعةٍ ونصف من العملِ المتواصل حتى استطاعوا انتشالَ حنين مقداد من تحتِ الركام بأعجوبة. خرجتْ لتجدَ البيتَ مدمّرًا، بينما كانت الطواقمُ قد انتشلت جثثَ زوجها الشهيد إبراهيم أبو حمادة وأطفالها الثلاثة. في لحظةٍ، انطفأت الدنيا أمامها، وغرقتْ في بكائها.
كان صباحُ التاسعِ من مارس/ آذار 2024 عاديًا، تناولَ إبراهيم أبو حمادة (33 عامًا) طعامَ الإفطار مع زوجته وأطفاله الثلاثة بعدما عاد من السوق، وضمت مائدةُ الإفطار عائلةَ زوجته النازحين في بيت خالتها بمخيّم النصيرات وسط قطاع غزة.
توزّع كلُّ شخصٍ منهم في مكانٍ بعد انتهاء وجبة الإفطار، وفي زاويةِ غرفةٍ من المنزل جلس إبراهيم وأولاده عمر (6 سنوات) وندى (4 سنوات) يتلون سورةَ الكهف، بوجود شقيق زوجته باسل.
اللحظات الأخيرة
"كانت أختي تجمعُ أطباق المائدة، وأمي متوجّهةً نحو خالتي، كنتُ ذاهبةً لأخبرَ إبراهيم أنني سأنشغل، فوجدته يقرأُ القرآنَ ويكملُ قراءةَ سورةِ الكهف يوم السبت، بسبب انشغاله الكبير يوم الجمعة وعدم تمكّنه من قراءتها. قال لي: "ضايلي قراءة خمسة أجزاء.. بدي أختمها قبل رمضان"، تقصّ مقداد لـ "فلسطين أون لاين" اللحظاتَ الأخيرةَ قبل المجزرة.
تفاصيلُ أخرى تتحركُ أمامها: "فجأةً، انقلبتِ الدنيا، وتهاوى البيت، وطرنا جميعًا. وقعتُ واندفنتُ بالرمال، وأطبق عليَّ سقفان من الباطون فوق ظهري، وكنتُ مثبّتةً تثبيتًا بوضعية رأسي واصلًا لقدمي. حاولتُ أخذَ طفلتي الرضيعة زينة (أربعة أشهر) لحظةَ الانهيار، لكنني لم أستطع. بعد دقيقةٍ من القصف -وهي أكثر لحظةٍ مرعبة- عمَّ الصمتُ المكان. ناديتُ على إبراهيم فلم يردَّ، فعرفتُ أنه استُشهد. زينة بقيت تبكي ثلاثَ دقائق حتى اختنقت واستُشهدت. لو تأخّرت طواقمُ الإنقاذ نصف ساعةٍ إضافية، لأُصبتُ بشللٍ كامل".
رحلة النزوح
بدأت رحلةُ نزوحِ أبو حمادة وعائلته في مطلع أكتوبر، تستذكر زوجته: "كنتُ على وشكِ ولادةِ طفلتي زينة، فنزحنا إلى بيتِ خالتي. وُلدت في 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وبعد الولادةِ بأسبوع، حاولنا العودةَ، لكن نصحَنا أفرادُ العائلة بالبقاء في النصيرات، وعملنا بتلك النصيحة. طوال الحرب، كان إبراهيم قارئًا للقرآن، وإمامَنا في البيت، لا يفارقُ ذكرُ اللهِ لسانَه، وكان على ثقةٍ بنصرِ اللهِ أو الشهادة".
يختنق صوتُها وهي تستحضرُ صفاتَ زوجها، تقول: "لا يوجدُ مثله في الدنيا، شهدَ له كلُّ من عرفه بأخلاقه وكرمه ودينه وأدبه. كان قدوتُه الرسولُ، فكان قرآنًا يمشي على الأرض. لا يُعوَّض أبدًا. يحسن الظنَّ بالناس، كان مسامحًا جدًّا، حريصًا على أن تكونَ أخلاقُه كأخلاقِ الرسول. كان يربّي عمر وندى ويطّلع على كلِّ تفاصيل حياتهم، يشجّعهم على حفظ القرآن، مثابرًا مجتهدًا. لا أذكرُ أنه أيقظني يومًا إلا للصلاة".
شرطيُّ اللغة
درس إبراهيم أبو حمادة اللغةَ العربيةَ والصحافة، وعمل مدقّقًا لغويًّا في صحيفة "فلسطين" لسنواتٍ عديدة، وتميّز في عمله، فكان حارسًا للغة، حريصًا على تنقيةِ المواد الإعلامية من أيةِ أخطاءٍ نحوية. كان مرجعًا للكثيرين في اللغة.
تقول زوجته: "كان يحبُّ صحيفةَ "فلسطين"، لكن لم يكن يناسبه الدوامُ الليلي. وعندما نشر مجلسُ الوزراء حاجته لمدقّق، قال لي: "ربنا عمل هالوظيفة إلي". حتى رأيتُ رؤيا بأنه "يرتقي أكثر"، وعندما أخبرته بها، قال مبتسمًا: "شو بدِّك أكتر؟ أصير وزير؟" ولم ندرك أنَّ الشهادةَ تنتظره".
لم يعرف زوجُها اليأس، كان طموحًا في الحياة. قبل عامين من الحرب، اشترى شقةً بحيِّ النصر بمدينة غزة، وعاش فيها أجمل أيام حياته لعامٍ ونصف. تصف زوجتُه تلك الأيامَ: "كانت أجمل أيام حياتنا في هذا البيت، كلُّ شيءٍ نحبُّه ومريحٌ لحياتنا قمنا بجلبه. ومن شدّة حبه لي، كان يقول لي: "هذا بيتُكِ، بدي أسجّله باسمِك"، وبالفعل، كان بيتُنا مملكتَنا. وكان حلمُ حياةِ أطفالي عمر وندى العودةَ إلى البيت".
ودّعت مقداد أمَّها وأختها وشقيقيها أحمد في أولِ الحرب، وباسل في المجزرةِ الدموية، كما ودّعت زوجَها إبراهيم وأطفالها الثلاثة. نجتْ لتروي قصةَ مجزرةٍ دمويةٍ استُشهدَ فيها 12 فردًا من المنزل المقصوف، و5 مواطنين من البيتِ المجاور. يغلف صوتَها الحزنُ: "اللهُ يربط على قلبي، أنا خصيمتُ العربِ والمسلمينَ واليهودِ ليومِ القيامة. أخذوا مني عائلتي".
المصدر / فلسطين أون لاين