أخبار اليوم - لم يكن حمزة قزعاط، الشاب الثلاثيني من غزة، بحاجة إلى التفكير مرتين قبل أن يقرر البقاء في مدينته، رغم الدمار والمجازر التي شهدتها على مدار العام والنصف الماضيين، حيث رفض النزوح إلى جنوب القطاع كما فعل المئات من عائلته وعشرات الآلاف من الغزيين، مفضلًا التمسك بمنزله وأرضه.
صمود دفع حمزة ثمنه، إذ أُصيب مرتين بإصابات خطيرة كادت أن تودي بحياته، ورغم حاجته للعلاج المستمر والمُكلف، إلا أنه كان دائم الرفض لقرار النزوح وترك غزة، حتى لو كان ذلك في سبيل إنقاذ حياته.
"منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، اضطررتُ إلى ترك بيتي الذي أسكنه بالإيجار والنزوح إلى بيت العائلة في تل الهوا، الذي سرعان ما اضطررنا إلى إخلائه بسبب تهديدات الاحتلال، لتبدأ بعدها رحلة نزوح من مكان لآخر حتى تجاوزتُ 15 مرة".
15 مرة وأكثر كانت كلها في رحاب مدينة غزة، إذ لم يستطع حمزة مغادرة المدينة التي وُلد فيها وترعرع بين أزقتها، رغم أنه فقد أخاه شهيدًا وعددًا من أفراد أسرته وأصدقائه. يقول لـ "فلسطين أون لاين": "إذا غادرنا جميعًا، فمن سيبقى في غزة؟ هذه مدينتنا ولن نتخلى عنها مهما حصل".
بقي حمزة في غزة، محاولًا تدبير احتياجاته اليومية وسط انقطاع الماء والكهرباء ونقص الغذاء. في كل مرة يخرج للبحث عن الطعام أو المياه، كان يعود محملًا بالمعاناة، لكنه لم يكن يدرك أن إحدى هذه المحاولات ستجعله قاب قوسين أو أدنى من الموت.
في أحد الأيام العصيبة، حين نفدت المؤن تمامًا، خرج حمزة للبحث عن كيس طحين يسد رمق عائلته، فاتجه إلى دوار النابلسي، حيث كان من المفترض أن تصل قوافل الإغاثة. لكنه لم يكن وحده، إذ تجمع مئات الفلسطينيين في المكان نفسه، منتظرين شاحنات الطحين بفارغ الصبر.
لم تكد الشاحنات تصل حتى انهالت نيران الاحتلال ومدفعيته من كل اتجاه، فاخترقت أصوات الرصاص والقذائف الحشود، وسقط العشرات بين قتيل وجريح، وكان حمزة من بينهم. أصابته رصاصة في رأسه، جعلته يسقط فاقدًا للوعي وسط جثث الشهداء.
بأعجوبة، نجا حمزة من الموت، بعدما تمكن بعض الشبان من حمله إلى مستشفى الشفاء، ومن ثم إلى أحد المراكز الطبية، حيث عالجه طبيب كان يتواجد هناك واستطاع تضميد الجرح وخياطته دون بنج. يقول: "لا زلتُ أشعر بألم خياطة الجرح كلما تذكرت تلك الحادثة".
وبعد شفائه، وبينما كان في منزل نزح إليه، أطلقت طائرة "كواد كابتر" الرصاص عليه، فأصيب برصاصتين دخلتا يده اليسرى وخرجتا منها، ثم اخترقتا صدره، ليُنقل على إثرها إلى المستشفى وتبدأ رحلة علاج مريرة استمرت 120 يومًا.
ورغم إصاباته، لا يزال حمزة متمسكًا بموقفه، فعاد إلى منزله، مواصلًا العيش وسط الركام، مصممًا على ألا يغادر غزة مهما اشتد الحصار والقصف.
وبعد الإعلان عن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، عاد حمزة مباشرة إلى بيت عائلته في تل الهوا. وسط هذه المعاناة، لم يستسلم، وقرر أن يقاتل بطريقته، ففتح بسطة صغيرة على أحد الأرصفة المدمرة، يبيع فيها حاجيات بسيطة للأطفال والعائلات.
بالنسبة لحمزة، البقاء في غزة ليس مجرد قرار، بل هو تحدٍّ لكل محاولات اقتلاعه من أرضه. يقول: "أعلم أن الحياة هنا صعبة، لكن الرحيل ليس خيارًا، حتى لو اضطررتُ للعيش على القليل، سأبقى هنا. غزة ليست مجرد مكان، إنها هوية".
في مدينة بلا ماء ولا كهرباء، حيث الجوع يزاحم الموت على أبواب البيوت، يظل حمزة نموذجًا للصمود، يبيع بضاعته القليلة، يقاوم بضحكة طفل يشتري قطعة حلوى، ويتمسك بالحياة حتى في أحلك الظروف، لأن في غزة، البقاء بحد ذاته انتصار.