صالح الشراب العبادي
لا شك في أن الاحتلال الصهيوأمريكي قد دمر غزة وحوّلها إلى ركام، وارتكب أبشع الجرائم بحق أهلها من إبادة جماعية وتعذيب وتنكيل ونزوح قسري، في محاولة لقتل معنويات الحاضنة الشعبية. إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل، فقد بقي الشعب الفلسطيني صامدًا رغم القصف والتشريد. غير أن التدمير الحقيقي والهزيمة الفعلية لم تكن في الأبنية التي سُويت بالأرض، بل في معنويات الجيش الإسرائيلي الذي مُني بخسائر جسيمة خلال خمسة عشر شهرًا من القتال. لقد حاول الاحتلال رسم صورة النصر الحقيقي، لكنه لم يكن سوى نصرٍ وهمي، مشوّه، مبتور، بل ميت منذ اليوم الأول للقتال، عندما بدأت جثث الجنود والقادة العسكريين تتوافد إلى الداخل الإسرائيلي.
تداعيات الحرب على الجيش الإسرائيلي كانت كبيرة، إذ شهدت معنوياته انهيارًا متسارعًا مع استمرار المعارك واتساع رقعة الخسائر البشرية والمادية. هذا التآكل التدريجي في الروح القتالية وصل إلى درجة لا تُطاق داخل صفوف الجنود، الذين باتوا يدركون أن مواجهة المقاومة أشبه بمواجهة أحجار الدومينو المتهاوية. ومع تنفيذ مراحل صفقة تبادل الأسرى، كانت الصدمة الكبرى عندما خرج مقاتلو المقاومة من تحت الأنقاض، ومن بين الأطلال، ومن أعماق الأنفاق، ليظهروا أمام الاحتلال والعالم كأشجار السنديان الراسخة، الشامخة، التي استعصت على الكسر والإزالة رغم سنوات العدوان والحصار.
المشهد كان مذهلًا حينما انتشر مقاتلو المقاومة في شوارع غزة وأزقتها بكامل جهوزيتهم القتالية، بزيّ عسكري موحّد، وانضباط لافت، ولياقة بدنية عالية، وأصابع على الزناد، وكأنهم يبعثون رسالة واضحة بأنهم جاهزون لكل الاحتمالات. لقد أدت هذه المشاهد إلى حالة من الهلع والارتباك في صفوف القيادة الإسرائيلية، وعلى رأسها بنيامين نتنياهو، الذي وجد نفسه عاجزًا عن تحقيق أي إنجاز حقيقي، فحاول صرف الأنظار نحو جبهات أخرى، كالضفة الغربية ولبنان وسوريا، من أجل تعويض الفشل الذريع في غزة.
الحرب الأخيرة كشفت ضعف العقيدة القتالية الإسرائيلية التي لطالما تباهى بها الاحتلال، والتي تقوم على أسس الردع، الحرب الخاطفة، الحسم، ونقل المعركة إلى أرض الخصم. غير أن المواجهة الطويلة في غزة أثبتت أن هذه المبادئ لم تعد فعالة كما كانت في السابق. فقد فشلت إسرائيل في تحقيق الردع المنشود، حيث واصلت المقاومة الفلسطينية تطوير أساليبها القتالية، من الأنفاق والطائرات المسيّرة إلى الهجمات الصاروخية المتواصلة، مما جعل الحرب تمتد لفترة طويلة دون تحقيق نتائج حاسمة. كذلك لم تنجح إسرائيل في تحقيق نصر سريع وفق مبدأ “الحرب الخاطفة”، إذ فرضت المقاومة أسلوب حرب الاستنزاف، واستطاعت إطالة أمد المعركة، الأمر الذي كلف الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة على المستويات كافة.
أما مبدأ “الحسم”، فقد أصبح بعيد المنال في ظل استمرار المقاومة في الاحتفاظ بقدراتها العسكرية، وتنفيذ عمليات نوعية أربكت الاحتلال، وأفقدته القدرة على إنهاء المعركة وفقًا لأهدافه. كما أن إسرائيل لم تتمكن من نقل المعركة إلى أرض الخصم، بل بقيت المواجهات محصورة داخل قطاع غزة، واستمرت الصواريخ في استهداف العمق الإسرائيلي، في مشهد أكد فشل محاولات التوغل البري، رغم استخدام مختلف الأساليب العسكرية.
في المقابل، تمكنت المقاومة من تحقيق نجاحات استراتيجية من خلال تكتيكات عسكرية مبتكرة مكّنتها من الصمود ومباغتة الاحتلال بعمليات نوعية أربكت حساباته. كانت شبكة الأنفاق أحد أهم العوامل التي ساهمت في صمود المقاومة، حيث أتاحت لها حرية الحركة، ونصب الكمائن، وتنفيذ عمليات خاطفة، دون أن يتمكن الاحتلال من رصد تحركاتها. كما شكلت الضربات الصاروخية المتطورة عنصرًا مهمًا في إرباك منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلي، وأثبتت المقاومة قدرتها على تطوير صواريخ بعيدة المدى ودقيقة الإصابة.
استراتيجيات المقاومة اعتمدت أيضًا على تكتيكات حرب العصابات، حيث نجحت في استدراج الجيش الإسرائيلي إلى معارك كرّ وفرّ أنهكته وأفقدته السيطرة على الأرض. كما كانت للمعلومات الاستخباراتية الدقيقة دور بارز في استهداف القوات الإسرائيلية في اللحظات المناسبة، مما أدى إلى وقوع خسائر فادحة في صفوف الاحتلال.
لم تقتصر نجاحات المقاومة على الجانب العسكري فقط، بل استطاعت أن تدير معركة الرواية الإعلامية بذكاء، من خلال إبراز خسائر الاحتلال وإظهار صمود الشعب الفلسطيني، ما أكسبها تعاطفًا واسعًا على المستوى الإقليمي والدولي. هذه الحرب النفسية أثرت بشكل كبير على المجتمع الإسرائيلي، الذي بدأ يفقد الثقة بقدرة جيشه على حسم المعركة.
عملية تسليم المجندات الإسرائيليات التي نفذتها المقاومة شكّلت لحظة فارقة عسكريًا وسياسيًا وإنسانيًا، إذ أظهرت مدى الانضباط والتنظيم الذي تتمتع به المقاومة، وقدرتها على إدارة الملفات الحساسة بحنكة واحترافية. كما شكلت العملية إحراجًا كبيرًا للحكومة الإسرائيلية، التي عجزت عن استعادة أسراها عبر الوسائل العسكرية، ما زاد الضغوط عليها داخليًا. وفي الوقت ذاته، حرصت المقاومة على تقديم صورة إنسانية حضارية خلال تسليم الأسيرات، مما أكد التزامها بالقوانين الدولية ومعايير معاملة الأسرى، في مقابل الجرائم الوحشية التي يرتكبها الاحتلال بحق الأسرى الفلسطينيين.
لقد أثبتت المقاومة الفلسطينية في هذه الحرب أنها تمتلك رؤية استراتيجية متكاملة، تجمع بين العمل العسكري المدروس والتكتيك السياسي الذكي. كما نجحت في قلب موازين القوة، وإفشال المخططات الإسرائيلية التي كانت تهدف إلى سحقها وإنهاء وجودها.
النصر الحقيقي الذي حققته المقاومة لا يتمثل فقط في قدرتها على الصمود، بل في نجاحها في هزيمة الجيش الإسرائيلي نفسيًا ومعنويًا، وإثبات أنها قوة لا يمكن تجاهلها أو تصفيتها بسهولة. في المقابل، لم يذق الاحتلال طعم النصر، بل تجرع مرارة الهزيمة، وأصبح يعاني أزمة ثقة داخلية، سواء بين القيادة العسكرية، أو على مستوى الجمهور الإسرائيلي، الذي لم يعد يؤمن بالخطط العسكرية لحكومته.
وهكذا، يبقى النصر الحقيقي هو ذلك الذي تحقق بفضل الصبر والثبات، وبفضل العقيدة القتالية الفريدة التي تمتلكها المقاومة، والتي جعلتها قادرة على تحويل قطاع محاصر إلى ساحة صمود وتحدٍ غير مسبوق في وجه أعتى الجيوش.