رغد الفرَّا: من حلم الطَّبيبة إلى أمنيَّة التَّنفُّس والوقوف مجدَّدًا

mainThumb
رغد الفرَّا: من حلم الطَّبيبة إلى أمنيَّة التَّنفُّس والوقوف مجدَّدًا

25-01-2025 11:30 AM

printIcon

أخبار اليوم - لم تغادر مجمع ناصر الطبي منذ ستة أشهر، تداهمها الأوجاع والآلام، وتملأ جسدها كسورٌ عديدة تبقيها قعيدة السرير أو الكرسي المتحرك. لا تنتهي من عملية جراحية حتى تجري أخرى، غير أن تلك العمليات المستعصية لا يمكن إجراؤها في غزة مع ضعف الإمكانيات الصحية. وحتى يفتح المعبر وتغادر الطفلة رغد الفرا (14 عامًا) للعلاج في الخارج، تعيشُ آلامًا نتيجة أوجاع الرئة بفعل الإصابة، لا يسمع صوتها سوى جدران غرفتها وأمها التي لا تفارقها.

ولم تتوقف مناشدات الطفلة -التي تُصنف حالتها على أنها من أصعب حالات الجرحى- في الأشهر الأخيرة للخروج والسفر عبر معبر "كرم أبو سالم"، لكن لم يأتِ رد من الاحتلال الإسرائيلي على مناشداتها التي خرجت من حنجرة لا تقوى حتى على التنفس بحرية. والآن تتجدد آمالها بالسفر مع اتفاق وقف إطلاق النار.

في حدث دموي دونت تفاصيله يوم 22 يوليو/ تموز 2024، وبعد شهر من عودة العائلة إلى منزلهم بمنطقة الشيخ ناصر شرق محافظة خان يونس، هاجم الاحتلال المنطقة دون سابق إنذار، وبدأ بقصف وأحزمة نارية، تلاه دخول دبابات وإطلاق نار عشوائي، وزادت قسوة المشهد تحليق الطائرات المسيرة التي أطلقت النيران على المنازل والنازحين.

إصابة خطيرة

بصعوبة تستطيع رغد التحدث، بينما يظهر على نبرة صوتها الاختناق. تحاول أمها دفع كرسيها المتحرك داخل مستشفى ناصر الطبي بخان يونس أثناء عودتهن من جلسة للعلاج الطبيعي. تحمل إلى جانبها عكازين حصلت عليهما للتو، بينما تقفز مشاهد الحدث أمام ذاكرة الطفلة، وهي تحكي لصحيفة "فلسطين": "بيتنا كان مدمرًا بشكل جزئي، فأمضينا شهرًا في تنظيفه، لكن الاجتياح كان مفاجئًا وصعبًا بتحليق طائرات وقصف وإطلاق نار. فقصفت طائرة حربية البيت علينا وعلى جيراننا، فخرجنا وكانت مصابة".

بعد إصابة رغد، لم تتوقف محاولات الأطباء عن إجراء عمليات الإنعاش للفتاة التي كانت في "عداد الشهداء"، كما كان يعتقد الأطباء، وكانت أقرب إلى وضعها في الكفن. وامتدت المحاولات حتى ساعات المساء، وهي تركض في غرفة العناية المركزة، واستمرت بالعناية طيلة شهر كامل تتنفس بواسطة أكسجين اصطناعي.

وأدى القصف إلى إصابتها بكسور شديدة في قدمها، ولا تزال تضع مثبت عظام (بلاتين) في قدمها اليمنى، إضافة إلى كسور شديدة في عمودها الفقري الذي يمنعها من الجلوس على كرسي متحرك لأكثر من ساعة. كما جرى استئصال أجزاء من الرئتين والطحال، وطوال الوقت تظل نائمة على السرير الطبي داخل المشفى.

لكن لم تنتهِ معاناتها، فقبل ثلاثة أيام أجرى الأطباء عملية جراحية للفرا في منطقة الرقبة (اللوز) كي تستطيع التنفس. وعلى فترات متباعدة في اليوم، تضع "تبخيرة" لفتح مجرى التنفس، وباتت هذه المشكلة أكثر ما يؤرق حياتها، إذ تتناول مسكنات قوية لتسكين ألم الرئة، والتي باتت غير مؤثرة في الآونة الأخيرة، فغرقَت الطفلة في أوجاعها، تصفها بأنها "آلام شديدة لا يمكن تحمُّلها"، ترافقها منذ ستة أشهر.

تقول بصوت مختنق: "إصابتي خطيرة، هناك مشاكل في الرئة الثانية، عليها نزيفٌ حاد أدى إلى تكتلات دم والتهابات. ومنذ ستة أشهر أناشد للسفر للعلاج لأن علاجها غير متوفر هنا، وتسبب لي آلامًا شديدة من وجع الرئة ولا أستطيع التنفس. إضافة إلى أني أريد إجراء عملية في الخارج كي أستطيع الوقوف على قدمي واستكمل العلاج".

معاناة مستمرة

وعلى مدار خمسة أشهر، ظلت رغد طوال الوقت نائمة على ظهرها في المشفى، تتصل ثلاثة أنابيب طبية بمنطقة البطن، ما سبب مضاعفات صحية ونفسية على حالتها لعدم قدرتها على التحرك أو إسناد ظهرها. إلا أن أمها حاولت فعل ما باستطاعتها، تقول: "لم أتركها، وطلبت من ابنتي الكبيرة في الخيمة متابعة أمور إخوتها بسبب انشغالي مع رغد. الآن رغد هي أولويتي في الحياة، حتى أنها تنام في حضني بسبب خوفها ورعبها، وأحاول طمأنتها أن هناك من يساندها ويقف بجانبها".

ولا يتوقف دور الأم عند المساندة والمرافقة فقط في جلسات العلاج الطبيعي، بل تتولى مهمات أصعب لتسكين آلام الطفلة: "أحاول توفير ما ينقصها من أدوية غير موجودة في المشفى، وأحيانًا كنت أتجول في جميع الصيدليات لأجل توفير الدواء والغذاء المناسب لحالتها رغم المجاعة التي كانت حاصلة خلال الحرب، حتى لا تعاني من نقص ويبقى عندها أمل بالحياة".

وتمكنت الطفلة من مغادرة المشفى لمدة أسبوعين فقط، لكن ساءت حالتها بسبب حياة الخيام بعد تدمير منزلها وافتقارها لبيئة صحية ملائمة، ما زاد أوجاعها، لتعود لاستكمال العلاج بالمشفى على أمل سفرها "للخارج"، وهي أمنيتها المتبقية بعدما فقدت حلمها بأن تصبح طبيبة، وأصبحت أمنيتها الكبيرة "الوقوف على قدميها" والتنفس من جديد، بعدما كان هذا الشيء يتكرر كل ثانية ودقيقة متى أرادت الوقوف أو السير أو الركض أو استنشاق الهواء بحرية.
تقول أمها: "عانت كثيرًا عندما جاءت للخيمة، بسبب تغيير الجو عليها والبرد القارس الشديد. وعندما أحضرتها للمشفى، طلب الأطباء أن تبقى ولا تغادر إلا للسفر والعلاج في الخارج".

الفتاة التي تتمنى أن تصبح شاعرة، وجهت أبياتًا خصصتها لأمها معبرة عن شكرها على مساندتها الدائمة لها ومكوثها بجانبها، جرت على لسانها وهي تتشبث بحلمها:

"توفيقي يكون بدعائها؛ أمي هبة من الرحمن، يا بسمة ثغري وفرحة عيني، وباقة زهري وقصيدة شعري، أروي لك حبًا وأقبل يديك عشقًا، سامحيني يا نبع الحنان، فأنا عاجزة عن الكلام".

أمنية الوقوف

تردف الطفلة، التي أوشكت دمعاتها على السقوط وامتلأت بها حواف عينيها: "أمنيتي الوقوف على قدمي والسفر لاستكمال العلاج خارج غزة، لأن المسكنات لم تعد تفعل شيئًا أمام وجع الرئة الثانية، وأحتاج للسفر لإجراء عملية جراحية بأسرع وقت ممكن، بعدما كانت لدينا أمنيات كبيرة قبل الحرب".


ومع سوء حالتها الصحية مع مرور الوقت، جدد اتفاق التهدئة آمالها بالسفر. تبتسم أثناء إجابتها: "فرحت أولاً لوقف إطلاق النار وحقن الدماء، وأصبح لدي أمل بالسفر لإجراء عمليات جراحية عاجلة، لأن التحويلة الطبية جاهزة منذ فترة وأنتظر تسريع السفر الذي كان يفترض أن يتم قبل ستة أشهر".

وبلغت حالات البتر خلال الحرب، حسب تقديرات وزارة الصحة، 4500 حالة بتر، لكن ما تم تسجيله داخل الوزارة هو 1302 حالة بتر، منهم 1041 حالة للذكور و261 للإناث، تمثل نسبة بتر الأطفال 15%، وتمثل نسبة حالات البتر في الأطراف السفلية 83% من إجمالي تلك الحالات، بحسب إفادة دائرة نظم المعلومات بوزارة الصحة.

عن غياب الدواء، تستذكر أمها كيف عانت طفلتها خلال تواجدها بالعناية المكثفة: "كانت لا تستطيع تحمل الألم من شدة الكسور الشديدة وجروحها العميقة، فيعطونها منومًا".

من الجلوس الطويل على سرير طبي، إلى جلسات العلاج الطبيعي، تعيش رغد روتينًا قاسيًا لم تعتد عليه من قبل. تحضر حديث أمها: "تستيقظ لتتناول الأدوية بعد وجبة الإفطار، ثم تذهب لجلسات العلاج الطبيعي. وبالأمس بدأت بإسناد ظهرها، لكن ضعف العضلات لم يساعدها كثيرًا، لكن هذا يعطينا تفاؤلًا كبيرًا بتحسن حالتها بعد التأهيل".

وبعد تحطم هاتفها المحمول خلال القصف، لا تجد الفتاة إلا صفحات دفتر بيضاء تخط عليها أبياتًا شعرية تجسد ما تعيشه من مأساة وألم. تقول أمها: "تحاول كتابة قصتها، كيف كانت وكيف أصبحت".

ويقسو على قلب أمها أن تشاهد ابنتها تختنق لأجل التنفس بينما لا تفعل شيئًا، وتوضح بنبرة مليئة بالخوف والقلق: "أستطيع تحمل مشاكل الظهر والقدم حتى مهما طالت، وأهون علي من مشاكل الرئة والتنفس التي تعني الروح والحياة، ولها مضاعفات خطيرة تهدد الحياة وقد تتسبب بالسرطان"، مطالبةً بالإسراع بإخراج طفلتها للعلاج.