"بيتي فور"

mainThumb
سهم محمد العبادي

11-01-2025 10:25 PM

printIcon

سهم محمد العبادي

في هذا الوطن، هناك ظاهرة لا تهتز أمام الأزمات ولا تخشى تقلبات السوق.

ظاهرة تتقن التعايش مع الظروف، وتزدهر بلا توقف: تجارة المؤتمرات. تجارة ليست بحاجة إلى فكر إبداعي ولا إلى حلول عبقرية، فقط إلى عنوان كبير، و"بوفيه مفتوح"، والباقي تفاصيل.

تبدأ القصة برسالة دعوة مزخرفة، عنوانها يحمل مصطلحات مثل "الابتكار"، و"الاستدامة"، و"التنمية". عناوين براقة تجعلك تعتقد أنك على وشك حضور مؤتمر سيغير وجه العالم. لكن ما إن تصل القاعة، حتى تبدأ ملامح القصة الحقيقية بالظهور.

في مدخل القاعة، تقف حسناوات بأناقة مفرطة، يحملن باجات المشاركين بابتسامات عريضة. يقدمنها للحضور وكأنهن يرحبن بعلماء نوبل.

الضيوف يلتقطون صورًا للباجات مع شعار المؤتمر، وكأنها شهادة على أهميتهم الشخصية. البعض يشعر أنه أصبح خبيرًا دوليًا فقط لأنه علق الباج على صدره.

في الداخل، تبدأ الجلسات. يجلس الحضور على طاولات مستديرة مزيّنة بأطباق البيتي فور وعصائر البرتقال.

يعتلي المنصة أول المتحدثين، يرتدي بدلة وكأنه يلقي كلمة أمام قمة عالمية. يتحدث بلغة مليئة بالمصطلحات المعلبة: "علينا تعزيز الابتكار لتحقيق التنمية"، و"نستفيد من التجارب العالمية". الكلمات تُلقى بنبرة رسمية، لكن أعين الحضور مشغولة بطبق البيتفور، ينتظرون اللحظة التي تفتح فيها استراحة الغداء.

وعندما تُعلن استراحة الغداء، تبدأ اللحظة الحقيقية للمؤتمر. يتسيد المشهد خروف محشي ضخم في منتصف البوفيه، وكأنه الراعي الرسمي للفعالية. الحضور يتزاحمون حول الأطباق، تتشابك الأيدي فوق الأرز والمشاوي. تختفي الكلمات الكبيرة أمام لقمة مشاوي ساخنة وقطعة كنافة لامعة.

على الطاولات، يبدأ الحضور بإلقاء توصياتهم الخاصة بين لقمة وأخرى. أحدهم يعلن: "علينا التركيز على التعليم الرقمي"، بينما يرد آخر: "الإعلام هو المفتاح للتنمية". وبينما يقطع أحدهم قطعة من الخروف المحشي، يقول بحماس: "تمكين المرأة هو المستقبل!". هذه النقاشات، وإن بدت جادة، تنتهي بمجرد امتلاء الصحون ومعها بعض المصطلحات الانجليزية.

ولكن، بعد خروج الراعي الرسمي (الخروف المحشي)، تتغير الصورة. تعود الجلسات إلى قاعة شبه فارغة، حيث الحضور يقتصر على موظفي الجهة المنظمة وبعض الداعمين.

المتحدث يواصل كلماته أمام كراسٍ خالية، بينما الحاضرون الفعليون مشغولون بالتقاط الصور بجانب الطاولات الفارغة.

أما الأوراق المعدة للتوصيات؟ نهايتها في سلة القمامة، مختلطة بفضلات الطعام. ورغم ذلك، يُعلن عن نجاح المؤتمر، وتُلتقط صورة جماعية تُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي مع وسم #المؤتمر_السنوي.

في النهاية، المؤتمرات ليست سوى استعراض. تبدأ بعناوين براقة، وتنتهي ببطون ممتلئة وصحون فارغة. المشكلة ليست في البيتي فور ولا في الخروف المحشي، بل في عقول استبدلت العمق بالقشور، وتركت مضمونها يُرمى مع بقايا الكنافة وبقايا الطعام.