ميلادٌ من شهادة: عن قصَّة صحفي وهَبَ طفلَه الاسم والتاريخ ورحل شهيدًا

mainThumb
ميلادٌ من شهادة: عن قصَّة صحفي وهَبَ طفلَه الاسم والتاريخ ورحل شهيدًا

04-01-2025 02:54 PM

printIcon

أخبار اليوم - "أيمن سامعني، يما!؟" كان صوت أمه يتدفق بين تشققات الموت ليكسر جدار الصمت المطبق، وقفت أمام سيارة مشتعلة تحمل علامة الصحافة، وبداخلها كان ابنها الصحفي أيمن الجدي. تصطف أمام مستشفى العودة بمخيم النصيرات، كان صوتها الوحيد القادر على تجاوز حمم النار وعتمة الغبار، تصرخ، تبكي، وتستغيث. يحترق قلبها من الداخل ويكتوي بنيران الفقد والحسرة والقهر، وهي تقف عاجزة أمام نار أحدثها صاروخ إسرائيلي استهدف المركبة فجر 26 ديسمبر/كانون الأول 2024.

في المشفى، وبذات اليوم وبعد ساعات من الاستشهاد، وُضع الرضيع على كفَّي أمه ليطلق صرخة الحياة، بينما كان الأقارب يحملون جثمان والده نحو القبر. تغير المشهد وتبدلت المراسم، واختلط الفرح بالحزن في تناقضات عجيبة لا تحدث إلا في فلسطين.

خرج الطفل من رحم اليتم ليعانق يوم ميلاده ذكرى استشهاد والده. استشهد أيمن فجر اليوم وولد أيمن الصغير مساء اليوم ذاته. رحل الأب وجاء الابن حاملًا نفس الاسم وثقلًا كبيرًا على قلبه، لتتعانق الحياة مع الموت، وتجتمع ذكرى تزاحم فيها الحزن والفرح.

كُفِّن الوليد أيمن بثوب اليتم قبل وصوله إلى الدنيا، بينما كُفِّن والده بالموت، بعدما كان يفرد جناحي الحب والفرح لضم طفله البكر، ويعد الأشهر التسعة ساعة بساعة. حضر الجميع مراسم الولادة التي غاب عنها والده.

قبل حادثة الاستهداف والولادة، أوصل الصحفي أيمن الجدي زوجته إلى غرفة الولادة بالمشفى، والتحق بزملائه داخل الحافلة ليحتمي من البرد والصقيع، وكان ضيفًا عندهم. وثّق تلك اللحظات بمقطع فيديو نشره في البداية بجروب عائلي على "واتساب". كان واضحًا عليه السعادة الغامرة، حيث يظهر بجانبه مجموعة من الأصدقاء، وقال بعفوية وهو يوثق هذه اللحظة: "اليوم هو تاريخ مميز. إحنا مضيوفين عند الشباب وما قصروا. المرأة عندي ولادة". نشر المقطع لاحقًا على مواقع التواصل الاجتماعي بعد استشهاده.

تتمزق أم أيمن بصوتها المكلوم، وترافقها دموع تنهمر من قلبها: "لحظة ولادة أيمن بقدر الفرح الذي عشته، كانت النار تكوي قلبي لأنه جاء بدون والده". وأضافت والدموع تنساب من عينيها، وبجانبها حفيدها الرضيع: "الحمد لله، ربنا جبر قلبي بأيمن الصغير، وعهد علي كما ربيت أيمن على التقوى والإيمان ومحبة الناس، سأربي ابنه مثله".

فرحة ممزوجة بالحزن

بينما تحدق بحفيدها بعينين محمرتين وقلب مكلوم، تمر أمامها مشاهد استعدادات نجلها لاستقبال وليده المنتظر، ولفرحة سرقت منه. تقول: "امتاز أيمن بالطيبة والأخلاق العالية، واكتسب محبة الناس، وكان يحب الآخرين. كانت أمنيته أن يفرح".

"لم يذق طعم الفرح بولادة طفله ولا بزفافه الذي توافق مع يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. جرى تأجيل كافة ترتيبات الفرح، وأتمها في النهاية بمراسم صامتة وتزوج بخيمة". ترافق الحسرة صوتها.

مشهد اللحظات الأخيرة

يبقى مشهد اللحظات الأخيرة حيًا في ذاكرة أمه. تروي بصوتها المكلوم: "هزّ الانفجار المكان. زوجته شعرت بالقلق وصرخت: 'أيمن يا خالتي!' نزلت على الدرج بشكل سريع، وكان قلبي يشعرني بوجود شيء لابني وزملائه. فهم كأبنائي. وصلت وكنت أريد اقتحام النار لكن الشباب منعوني. تخيلي أم ترى ابنها وسط نار مشتعلة وانفجارات ولا تستطيع إنقاذ مهجة قلبها أو رفع الألم عنه".

تروي زوجته ذكرياتها الأخيرة معه لـ "فلسطين أون لاين": "لم نعقد مراسم زفاف وتزوجنا بخيمة احترامًا لدماء الشهداء. وقبل ثلاثة أيام من الولادة، تساءل وهو يحاورني: 'معقول أشوف ابني؟' فتعجبت من سؤاله وقلت له: ليش ما تشوفهوش يعني؟ فشاركني مشاعر تسيطر عليه: 'حاسس إني مش حشوفه'. لكني أكدت له أنه سيراه. ثم بدأنا نبحث عن اسم المولود إن كان بلال على اسم صديقه أو عبد الله. فاخترنا عبد الله، وقبل إغلاق الحوار عاد لنفس الشعور: 'إيش دراك يمكن نسميه أيمن؟ يمكن استشهد. حاسس هيك'".

"لم أكن أدري أنه سيولد يتيم الأب. عندما خرجت من غرفة الولادة أحمل طفلي بحضني، وصلتني مكالمة فيديو مع شقيقه المغترب حمزة، وسألني عن ملامح الطفل فأخبرته أنه يشبه والده. ثم أخبروني أن زوجي مصاب، وبعدها أن حالته خطيرة. كنت أدعو أن تكون إصابته طفيفة، ولم أدرك أنه كان شهيدًا منذ ساعات".

مسيرة حافلة

رافق الصحفي أحمد سهمود، زميله أيمن الجدي، في العمل لمدة سبعة أشهر وقبلها ثماني سنوات من الصداقة وزمالة العمل. يقول: "وصل أيمن مشفى العودة بالنصيرات كي تلد زوجته. نام شقيقه ووالد زوجته بسيارته الشخصية، بينما نام هو مع زملائه بحافلة الصحافة المتوقفة أمام المشفى. حدث الاستهداف الساعة الثانية فجرًا يوم 26 ديسمبر".

درس الجدي دبلوم الصحافة بجامعة الأزهر، وكان يطمح لإكمال دراسة البكالوريوس. وكانت مسيرته الإعلامية حافلة، إذ حصل على جوائز عديدة في التصوير الفوتوغرافي والمرئي، وكان يعدّ قصصًا مع مؤسسات دولية خلال الحرب. استشهد وهو يعمل مع قناة "القدس اليوم"، التي قدمت 25 شهيدًا ضمن أكثر من 200 صحفي قتلهم الاحتلال.

صمد الجدي في غزة، ومع اشتداد المأساة نزح مشيًا على الأقدام مع عائلته جنوبًا. كان يمارس التغطية باستخدام "صحافة الموبايل"، التي تميز بها، ورغم التحذيرات المستمرة من زملائه، كان يصرّ على التغطية قائلاً: "الروح وحدة".

فلسطين أون لاين