السلطة الفلسطينية وقرار إسكات الجزيرة: بين ضياع البوصلة وشراكة القمع

mainThumb
د. هديل شقير/دكتوراة في الإعلام السياسي

02-01-2025 01:44 PM

printIcon

د. هديل شقير/دكتوراة في الإعلام السياسي


في لحظة فارقة من التاريخ الفلسطيني الحديث، أصدرت السلطة الفلسطينية قراراً بوقف بث قناة الجزيرة وتجميد عمل صحفييها. هذا القرار الذي جاء بلا مقدمات تبرره، أثار موجة من التساؤلات عن مستقبل حرية الإعلام في الأراضي الفلسطينية، وعن المدى الذي يمكن أن تصل إليه السلطة في تقييد حرية التعبير التي طالما كانت أحد أعمدة النضال الفلسطيني.
حرية الإعلام ليست رفاهية، بل هي شريان حيوي لأي مجتمع يسعى إلى بناء نظام ديمقراطي ومشاركة فاعلة للمواطنين. الإعلام الحر هو مرآة تعكس واقع المجتمع ومشاكله، وهو صوت الضعفاء الذين لا يُسمع صوتهم في دوائر السلطة والنفوذ. بإقدامها على كتم هذا الصوت، لم تعتدِ السلطة الفلسطينية فقط على مؤسسة إعلامية، بل أيضاً على حق المواطن الفلسطيني في المعرفة والحقيقة. الصحافة الفلسطينية والعالمية، بما فيها قناة الجزيرة، كانت دائماً عيناً مفتوحة تراقب وتوثق، تُظهر للعالم حجم المعاناة والظلم الواقع على الفلسطينيين. فكيف يمكن للسلطة أن تُقدِم على خطوة تعاكس هذه القيم؟
القرار يحمل رمزية خطيرة، إذ يضع السلطة الفلسطينية في موقف يبدو وكأنه تماهٍ مع أساليب الاحتلال الإسرائيلي. الاحتلال، الذي طالما استهدف الصحفيين، وحاول كتم الأصوات التي تنقل جرائمه، يجد اليوم شريكاً غير متوقع، أو ربما متوقع، في السلطة الفلسطينية. بهذا القرار، تُصعِّب السلطة على نفسها مهمة التمييز الأخلاقي بينها وبين المحتل. فقد كانت الكلمة دائماً وسيلة مقاومة، امتداداً للنضال من أجل الحرية. محمود درويش، في قصيدته "أنتَ منذ الآن غيرك"، يصف التحوّل الذي يطرأ على الإنسان حين يتخلى عن مبادئه الأولى. فهل باتت السلطة الفلسطينية "غيرها"، متناسية أن الإعلام كان دائماً جزءاً من مقاومة الشعب؟
إن قرار وقف بث قناة الجزيرة وتجميد عمل صحفييها ليس مجرد إجراء تقني أو إداري؛ إنه موقف يعكس أزمة أعمق في العلاقة بين السلطة والإعلام، وبين السلطة والشعب. السلطة الفلسطينية، التي تمثل القيادة السياسية لشعب عانى لعقود من القمع والاحتلال، تعتمد في شرعيتها على قدرتها على تمثيل تطلعات الفلسطينيين للحرية والعدالة. عندما تتخذ السلطة قرارًا كهذا، فإنها تخاطر بفقدان جزء كبير من هذه الشرعية. الشعب الفلسطيني لديه وعي عميق بأهمية الإعلام كجزء من نضاله، حيث كان الإعلام دائمًا وسيلة لإظهار الحقائق ومواجهة الاحتلال. هذا القرار يمكن أن يُفسَّر من قبل الفلسطينيين على أنه محاولة لإسكات صوت يفضح القضايا الجوهرية التي يعانونها، ما يخلق فجوة متزايدة بين السلطة والمواطن، ويغذي شعورًا بالخذلان لدى قطاعات واسعة من الشعب.
على المستوى الدولي، يمكن أن يُفهم القرار باعتباره خطوة تُظهر السلطة الفلسطينية بمظهر مشابه للممارسات القمعية التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي ضد الإعلام الحر. الاحتلال لطالما واجه انتقادات عالمية لقمعه الصحفيين، واستهداف وسائل الإعلام التي تُظهر وجه الحقيقة. الآن، عندما تصدر السلطة قرارًا مشابهًا، فإنها تُضعف موقفها الأخلاقي والسياسي أمام العالم، وتجعل من السهل على الأطراف المعادية مساواتها بالاحتلال، مما يؤدي إلى تآكل الدعم الدولي الذي تعتمد عليه القضية الفلسطينية. الربط بين السلطة والمحتل في هذا السياق لا يُشكل فقط أزمة أخلاقية، بل أيضًا أزمة استراتيجية. فمن خلال اتخاذ هذا القرار، تضع السلطة نفسها في موضع لا يخدم مصالحها الوطنية، وتساهم بشكل غير مباشر في تقويض صورتها كحامية لحقوق الشعب الفلسطيني.
أمّا بالنسبة لقناة الجزيرة، فمن دراستي العميقة لتاريخها ونهجها وتخطيطها على مدى سنوات بحثي وتخصصي، فإنّها ستستمر في التغطية؛ إذ لم تتوقف يوماً عن تغطيتها أينما كانت السلطة التي تمنعها، فلديها من القدرة المادية واللوجستية والفنية والطاقات البشرية ما يعينها على الاستمرار مهما كانت الظروف.