علبة السمنة

mainThumb

30-12-2024 03:30 PM

printIcon

سهم محمد العبادي
لو أن علبة السمنة أو (صفرة الكنز) تستطيع الكلام، لكانت روت لنا حكاية بيوتٍ وأسرٍ عاشت معها رحلةً من العطاء والتحولات. تبدأ حياتها في رفّ المطبخ، ممتلئة بالسمنة التي تصنع أشهى المأكولات.
لكن هذه العلبة الصغيرة لم تُخلق لتكون مجرد وعاء مؤقت، بل مشروع حياة يستمر لفترات طويلة، يحمل في طياته قصصاً عن الإبداع والاقتصاد.
بداية الحكاية تكون حين تُفرغ العلبة من محتواها الدهني، تُغسل بعناية وكأنها قطعة أثرية، وتصبح جاهزة لمهام جديدة. أول أدوارها بعد التقاعد من المطبخ يكون في تسخين الماء للاستحمام، تُوضع على النار بهدوء، لتمنح العائلة دفء الشتاء، وهي تدخن قليلاً وكأنها تهمس: "ما زال لديّ الكثير لأقدمه".
وحين يضعف غطاؤها أو تبدأ أطرافها بالتآكل، تجد نفسها في مهمة جديدة، حيث تتحول إلى وعاء لسلق البيض، فكانت علب السمنة الصغيرة تُستخدم لتحضير الإفطار، تتوسط الطاولة وكأنها تشارك العائلة في صباحاتهم.
وفي موسم الدجاج، تُستخدم لغلي الماء وتنظيف الريش، وهي تفيض بالبخار، شريكةً في التحضير لأشهى الأطباق.
لكن هذه العلبة لا تعرف التقاعد الحقيقي، حين يظهر أول ثقب صغير أو تبدأ بالتسريب، تُمنح حياة أخرى؛ تُملأ بالتراب وتتحول إلى وعاء صغير لزراعة الريحان أو النعنع، تتربع على نافذة المطبخ أو الشرفة، تُضيف لمسة من الجمال الأخضر لبيوتٍ عرفت قيمة الأشياء الصغيرة.
ومع تآكلها بفعل الصدأ، تُعاد مرة أخرى إلى النار، لكن هذه المرة كمدخنة للبواري أو البابور، تصدر منها رائحة الفحم، وتشارك العائلة في جلسات التدفئة الشتوية أو إعداد القهوة على نار الكانون الهادئة.
أما المهمة الأخيرة في رحلتها الطويلة، فتكون في يد العمال والبنّائين، تُقطع وتُستخدم لسد فجوة في السقف أو تدعيم صبةٍ إسمنتية
. وبهذا تُختم حكايتها، وقد أدت كل الأدوار الممكنة، تاركة خلفها أثراً لا يمحوه الزمن.
علبة السمنة أو "الصفرة" ليست مجرد قطعة معدنية، بل هي رمزٌ للإبداع الشعبي، ولروحٍ تعشق الاستفادة من كل شيء حتى آخر نفس.
إنها درسٌ متكرر في الصبر، الاقتصاد، وإعادة التدوير، وواحدة من أيقونات الكفاح التي شهدتها البيوت البسيطة.
ليت المسؤول في بلدي يخدمنا كما خدمتنا علبة السمنة.
* من وحي المطر



news image