أخبار اليوم - وعد "أحمد الشرع"، أو ما كان يُعرف بلقب "أبو محمد الجولاني"، في خطاب له عام 2023 داخل قاعة على الحدود السورية التركية، بأن الثورة السورية ستصل إلى العصر الذهبي خلال عامين، وقال مخاطباً جمعاً من السوريين الحاضرين: "أراكم تجلسون في حلب كما أراكم تجلسون أمامي الآن"، وربما لم يكن الجولاني على قدر كبير من الثقة بأن أمانيه ستتحقق بالفعل، فما هي إلا أشهر قليلة، وإذ به يقود معركة الفصل في سوريا، انطلاقاً من إدلب وما حولها، ليصل خلال أيام إلى مدينة حلب، ويلتقط الصور على قلعتها، ثم يصل إلى دمشق ويُسقط بشار الأسد -الذي فرّ تحت جنح الظلام إلى روسيا-، ويتربع على كرسي القيادة داخل قصور دمشق، مستقبلاً الوفود الدولية الرسمية بحلته الجديدة، مرتدياً الطقم الرسمي وربطة العنق.
لم تكن رحلة الشرع سهلةً أو خاليةً من التحديات، فقبل أشهر قليلة من انطلاق معركة "ردع العدوان"، واجه أكبر تحدٍ بالنسبة لفصيله، هيئة تحرير الشام، متمثلاً بـ "ملف العملاء"، وصولاً إلى مظاهرات شبه يومية انطلقت في شهر شباط الماضي تطالب بإسقاطه ومحاكمته، ومنذ أن خطت هيئة تحرير الشام أولى خطواتها في الشمال السوري بعد التفرد بالحكم على حساب الفصائل الأخرى، كان الشرع يعمل على تأسيس منظومة عسكرية وإدارية قادرة على استيعاب تعقيدات المرحلة.
إدلب، التي اعتُبرت يوماً معقلاً هامشياً، تحولت تحت إدارة الشرع إلى نموذجٍ متقدمٍ في التنظيم، ومنصةٍ لانطلاق مشروعه الأكبر: إعادة رسم خريطة سوريا السياسية والعسكرية.
كان سقوط نظام الأسد لحظةً فاصلةً في مسيرة الشرع، حيث وجد نفسه ينتقل من قائد ميداني إلى زعيمٍ يحمل على عاتقه مسؤولية قيادة مرحلةٍ جديدة، ومع هذا التحول، بدأ يكشف عن شبكةٍ من الرجال الذين ساندوه في الظل، سياسياً وعسكرياً، ليشكلوا معه فريقاً متكاملاً استعداداً للمرحلة القادمة.
اليوم، يتحرك الشرع وسط مشهدٍ دولي وإقليمي معقد، وهو يعلم أن دوره لم يعد محصوراً في ساحات القتال، بين بداياته الغامضة وظهوره الحالي كرجل دولة، يعكس أحمد الشرع قصةً استثنائيةً من التحولات التي جعلت منه مهندساً محتملاً لمستقبل سوريا.
من هو أحمد الشرع؟
تتباين المعلومات عن أحمد الشرع، لكن معظمها تتقاطع وتشير إلى أنه وُلد عام 1982 في العاصمة السعودية الرياض لعائلة نازحة من قرية جيبين التابعة لمدينة فيق في الجولان المحتل. والده، حسين الشرع، قومي عربي وخبير في اقتصاديات النفط، تخرج في جامعة بغداد في الاقتصاد والعلوم السياسية وألف أربعة كتب في مجاله. أما والدته، فكانت مدرسة جغرافيا محافظة عملت في إعدادية البنات.
قضى أحمد طفولته الأولى في الرياض، حيث تلقى تعليمه الباكر. عادت الأسرة إلى دمشق عام 1989 لتستقر في حي المزة فيلات شرقية. التحق بمدرسة "معاذ بن جبل" الابتدائية، حيث وُصف بأنه طالب متميز وهادئ. لكنه خلال دراسته الثانوية في مدرسة "عمر بن عبد العزيز"، تراجع مستواه الدراسي بشكل ملحوظ. التحق بكلية الإعلام بنظام التعليم المفتوح، لكنه لم يظهر تقدماً يُذكر في الدراسة.
تحولات فكرية
تأثر الشرع بالانتفاضة الفلسطينية عام 2000 وأحداث 11 أيلول 2001، ما أدى إلى تغييرات في توجهاته. أطلق لحيته وبدأ بارتداء الجلابية، وداوم على الصلاة في جامع "الشافعي" بحي المزة.
في عام 2003، غادر الشرع إلى العراق بالتزامن مع الاجتياح الأميركي، حيث وصل إلى بغداد ثم الرمادي. لم ينخرط حينذاك في تنظيم معين، لكنه بعد عودته إلى سوريا انخرط في تنظيم سلفي ناشئ. تم اعتقاله في 2005، لكنه أقنع السلطات ببراءته وأُفرج عنه.
عاد إلى العراق لينضم إلى "سرايا المجاهدين" بقيادة أبو طلحة العراقي، التي بايعت لاحقاً أبا مصعب الزرقاوي كأمير لتنظيم القاعدة في العراق. اعتُقل في 2006 في أثناء محاولة زرع عبوة ناسفة، وسُجن تحت هوية عراقية مزورة، متنقلاً لمدة 5 سنوات بين سجون أميركية مختلفة مثل أبو غريب وبوكا.
في السجن، تعرف الشرع إلى شخصيات بارزة من قادة "دولة العراق الإسلامية". بعد خروجه من السجن عام 2011، ومع اندلاع الثورة السورية، عاد إلى سوريا بتنسيق مع "أبو مسلم التركماني". أسس خلايا لتنظيمه وأعلن في كانون الثاني 2012 عن تشكيل "جبهة النصرة" في تسجيل مرئي تكلم فيه بصوت مشوش بشكل مقصود، حيث ظهر تحت اسم "الفاتح أبو محمد الجولاني".
أعلنت وزارة الدفاع الأميركية "جبهة النصرة" كجماعة إرهابية في 2012، في حين أدرجها مجلس الأمن على قائمة العقوبات في 2013. في العام نفسه، أعلن الجولاني بيعة النصرة لتنظيم القاعدة رداً على إعلان أبي بكر البغدادي دمج النصرة في تنظيم "داعش". في 2016، أعلن فك ارتباط النصرة بالقاعدة وتغيير اسم التنظيم إلى "جبهة فتح الشام".
في 2017، قاد الشرع تحالفاً بين عدة فصائل ليشكل "هيئة تحرير الشام"، وأصبح قائدها العسكري. لاحقاً، تولى قيادة الهيئة بعد استقالة هاشم الشيخ (أبو جابر) في تشرين الأول 2017.
في أثناء قيادته لجبهة النصرة، ظهر أحمد الشرع في لقاء مع الإعلامي أحمد منصور، ولم يظهر حينئذ وجهه، مرتدياً "شماخ" كما يُعرف محلياً، ثم ظهر بوجهه علناً لأول مرة عام 2016، عندما أعلن عن فك ارتباط الجبهة بتنظيم القاعدة وتغيير اسمها.
سيطرت هيئة تحرير الشام على إدارة إدلب عام 2017 وشكلت حكومة الإنقاذ، بعد معارك استطاعت من خلالها القضاء على عدة فصائل منافسة لها وإضعاف بعضها. في ذلك الوقت، بدأ الجولاني بهندسة شكل دولته المصغرة، عبر حكومة الإنقاذ إدارياً، وجهاز الأمن العام أمنياً، وعدد من الرجال المقربين منه اقتصادياً، مع التركيز بشكل لافت على الملف العسكري بخصائصه المختلفة، من تصنيع وتدريب وغير ذلك.
أدار المعركة من غرفة العمليات ووصل إلى قاسيون
بعد أيام من انطلاق معركة "ردع العدوان"، ظهر أحمد الشرع إلى جانب عدد من العسكريين داخل غرفة العمليات، وأمامه قبضات التواصل مع القادة الميدانيين والشاشات التي تعرض تطورات المعركة أولاً بأول.
من غرفة العمليات التي تقع شمالي إدلب، على مقربة من الحدود مع تركيا، أعطى الأمر ببدء المعركة التي استغرق التحضير لها عدة أشهر. أُطلقت الرصاصة الأولى وسُيرت المدرعات في سهول ريف حلب الغربي ومرتفعاته. يقول قائد ميداني لموقع تلفزيون سوريا: "كانت الخطة أن نصل إلى بلدة الهوتة القريبة من عنجارة خلال 3 أيام، لكننا حققنا الهدف خلال يوم، ووصلنا إلى مشارف مدينة حلب بسرعة قياسية".
مع التقدم السريع للفصائل، كانت إدارة العمليات العسكرية تنشر صوراً أو مشاهد سريعة للجولاني يطلب فيها من المقاتلين الرفق بأهلهم في المناطق التي يدخلونها وحمايتهم. كانت إدارة المعركة تطلق على قائدها لقب "أبو محمد الجولاني"، لكنها ومع سرعة التحولات في ميدان المعركة، بدأت تنشر كلمات الجولاني وتصريحاته باسمه الحقيقي "أحمد الشرع".
وصل الشرع إلى حلب بعد السيطرة عليها، والتقط الصور على قلعتها. في أثناء صعوده في السيارة لوّح بيده للحاضرين قائلاً: "يا أهل حماة، جهزوا حالكم. أهل حمص، أهل الشام والدير، جهزوا حالكم"، في إشارة إلى أن السيطرة على هذه المناطق باتت مسألة وقت.
أيام قليلة كانت كافية لوصول الشرع إلى دمشق. سجد شكراً لله في ساحة الأمويين، ثم توجه إلى منزله الذي ترعرع فيه بدمشق، طالباً بتواضع من قاطنيه الجدد إخلاءه خلال مهلة محددة، لما يحمله من رمزية وما فيه من ذكريات بالنسبة له.
جال الشرع في دمشق، وذهب إلى حلّاقه منذ الصغر، حيث التقط الناس معه الصور، وتحدث مع جيرانه السابقين، مستذكراً مرحلة من حياته قبل ذهابه إلى العراق ومن ثم العودة إلى سوريا في بداية الثورة.
بعد أن استعاد الذكريات، يبدو أن الشرع تفرغ الآن لمرحلة البناء، عبر رسم شكل الدولة الجديدة في سوريا، مستقبلاً الوفود الدبلوماسية بحلة جديدة، مرتدياً الطقم الرسمي وربطة العنق، منهمكاً في التعيينات التي غالباً ما اقتصرت على الشخصيات المقربة منه، انطلاقاً من رئيس الحكومة إلى وزيري الدفاع والخارجية.