أخبار اليوم - بعد أن تنتهي الاحتفالات وتتحطم آخر تماثيل الأسد في الميادين، سيتعين على السوريين معرفة من يحكمهم، وأساساً هل ستواصل سوريا الوجود أم ستنشأ ثلاث – أربع سوريات. دمشق، وسوريا كلها تشبه اليوم برلين بعد 1945 التي قسمت إلى مناطق نفوذ بين القوى المختلفة، والتحدي الكبير هو: هل سينجحون في العمل معاً للحفاظ على وحدة الدولة”. أقوال الكاتب عبد الرحمن الراشد في “الشرق الأوسط” تبرز المعضلة الثاقبة التي تكمن داخل وخارج سوريا في الأسبوع الأخير، ومطلوب الكثير من التفاؤل كي يصدق المرء بأن سوريا ستصعد إلى مسار مستقر. فمن خلف مظاهر الفرح وتوزيع الحلوى، ثمة واقع متكدر ينتظر: طوائف بينها عداء تاريخي وحسابات دموية لم تصف؛ وقيادة جديدة هي جملة واسعة من المنظمات (بعضها جهادية) دون قاسم مشترك ومع كثير من الكراهيات الداخلية: استمرار النبش من أياد خارجية تحمي رعايا وتحاول السيطرة على ممتلكات في الدولة المتفككة؛ وانعدام إطار لساحة سياسية حديثة ومجتمع مدني؛ ودولة اقتصادها وبناها التحتية مدمرة بعد 13 سنة من الحرب الأهلية.
سوريا تشبه العراق في هذا بعد إسقاط نظام صدام حسين في 2003. لم يكن معروفاً الصندوق الأسود للقوى الاجتماعية والعلاقات بين الطوائف في الدولتين حتى انهيار النظام القديم فيهما. عندما سقط نظام البعث في العراق انطلقت من صندوق مفاسد كل شياطين الماضي، بخاصة الصراعات بين الطوائف، وصعدت أو نشأت قوى جديدة بما في ذلك “داعش”. نجح العراق في البقاء، وإن بشكل متعثر، بسبب النسغ الأمريكي الذي حافظ عليه. الأمر غير موجود في سوريا، ويثير التساؤل: ما الذي سيربط بين جملة المنظمات والطوائف؟
اللبناني نديم قطيش، مدير عام شبكة “سكاي نيوز” بالعربية، يوصي بأن نكون شكاكين حول طبيعة الجماعات السائدة في النظام الجديد، وبخاصة هيئة تحرير الشام برئاسة أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع). “يجدر بالذكر أن حكم الخميني في بداية عهده ترافق وآمالاً بنظام جديد وليبرالي، وهكذا كان حكم الإخوان المسلمين قصير الأمد في مصر بعد إسقاط مبارك في 2011، والذي رأى فيه كثيرون بداية نظام ديمقراطي. نعرف التاريخ المخادع هذا ونعرف ما كانت مزايا تلك الأنظمة الواعدة عملياً”.
كما أن الباحثة السعودية أمل الهزاني، تقترح النظر بحذر، وإن بتفاؤل أكبر قليلاً. “بتأخير 14 سنة، نضجت ثمار الربيع العربي في سوريا أيضاً، لكن الاحتفال سابق لأوانه. علامة الاستفهام المركزية تتعلق بالجولاني. في الأسبوع الأخير، حاول تثبيت حكومة انتقالية، أما خطاب النصر الذي ألقاه في المسجد الأموي ومن المقابلات مع وسائل الإعلام الغربية فيشير هجر شعارات الماضي المتطرفة في صالح نظام جيد ومستقر”.
“أسوأ من اليهود”
الأكراد في سوريا يشكلون 10 في المئة من السكان، هم الشكاكون المركزيون تجاه الوضع الجديد، ولهم أسباب وجيهة لذلك. “زعماء مثل الجولاني لا يمكنهم تغيير طبيعتهم”، يشرح د. أكرم نعسان، ناشط كردي – سوري بارز يسكن في ألمانيا وعاد في الأيام الأخيرة إلى منطقة عفرين حيث ولد. “كان الأكراد دوماً الطائفة الأكثر ظلماً في سوريا. وهم عالقون في بقعة أليمة بين تركيا والمنظمات الإسلامية المتطرفة، جهتين تعاونتا في إسقاط الأسد. من ناحية الإسلاميين، الأكراد أسوأ من اليهود، وفي بعض المناطق في شمال سوريا وقعت احتكاكات بين الطرفين، ربما تتعاظم”.
وثمة شكوك من نوع آخر يتميز بها الدروز، الذين يعدون 3 في المئة من السكان. “جبل الدروز، ومدينة السويداء بخاصة، كانا بؤرة مركزية في الثورة ضد الأسد، وقدم الدروز المساعدة لكثير من اللاجئين المسلمين في جنوب سوريا. لكن كانت هناك جيوب تأييد لنظام الأسد مثل قرية الحضر، الأمر الذي يلزم الدروز بأن يثبتوا أنهم جزء من الثورة”، يشرح دولان أبو صالح، رئيس مجلس مجدل شمس حيث رفعت في ميادينها المركزية أعلام سوريا الجديدة. “علامة الاستفهام المركزية تتعلق بالجولاني المعروف مع تيار معاد لكل الطوائف غير السُنية في سوريا بما فيها الدروز”.
وثمة قلق طائفي مختلف تماماً يبرز بين العلويين، الأقلية التي حكمت سوريا في الـ 54 سنة الأخيرة بقوة الذراع وتخاف الآن من تصفية الحسابات، التي بدأت مظاهرها في الأسبوع الأخير في شكل تصفيات وإعدامات.
الخاسرة المركزية من سقوط الأسد هي إيران، التي قدم مركزية في معسكر المقاومة الذي قطعت قادته، وبذلك يضاف إلى الضربات القاضية التي تعرض لها حزب الله الذي بدأ يفقد من قوته مع قطع أنبوب التنفس الإيراني. يدور الحديث عن ضربة تاريخية لطهران، التي شعرت حتى قبل بضعة أشهر بأن النجوم في الشرق الأوسط تترتب لصالحها. الوضع الجديد يثير هناك جملة واسعة من ردود الفعل: بدءاً من النقد الداخلي اللاذع على المقدرات والدماء التي استثمرت سنوات طويلة وضاعت هباء، مروراً بالخوف من اتجاه جهود إسرائيل (والولايات المتحدة) ضد النظام الإسلامي الآن، وانتهاء بجهود التليين، مثل الإعلانات بأن إيران ستقبل حسم الشعب السوري والموافقة على رفع العلم السوري الجديد في السفارة السورية في طهران.
“ينشأ حساب نفس ثاقب في طهران الآن، يترافق واتهام كبار رجالات النظام والحرس الثوري بما يلوح كفشل ذريع لاستراتيجية طويلة السنين”، يشرح الباحث د. فرزين مديني من معهد واشنطن. “التحولات في سوريا ولبنان ستلزم إيران بالاستثمار في العراق أكثر؛ لمنع تهديدات مستقبلية من سوريا، بخاصة إمكانية انبعاث “داعش”. إضافة إلى ذلك، ستتأكد أهمية العراق في الصراع ضد إسرائيل، وقد لا تكتفي الميليشيات الشيعية بإطلاق المسيرات الصواريخ الجوالة وستنتقل إلى صواريخ باليستية. الضربات الأخيرة ستدفع إيران إلى تسريع إنتاج الصواريخ وبالطبع التقدم في المشروع النووي انطلاقاً من التقدير بأن إسرائيل والولايات المتحدة تطوران دافعية هجومية ضد النظام الإسلامي، ما يفترض ردعاً وضمانة للحصانة مثلما تصرفت كوريا الشمالية”.
حماس منعزلة
في الخلفية، ينشأ في العالم العربي بحث حول مسألة هل تبشر الحرب بنهاية معسكر المقاومة الذي تقوده إيران وبالتشكيك بمفهوم المقاومة الذي أساسه حرب عصابات وإرهاب ضد إسرائيل وسعي لاستنزافها حتى لو كان الأمر يجبي ثمناً باهظاً. في الشرق الأوسط يتساءلون: هل شهية الوكلاء هي التي أدت إلى الهزيمة؟ فقد أقاموا مكانة حكم (حماس)، وتمأسسوا عسكرياً (حزب الله)، وطوروا تطلعات لهزيمة إسرائيل. وقفوا أمامها جبهوياً، وهكذا أصبحوا قابلين للإصابة وتعرضوا لضربات قاضية حتى لو لم يبادوا.
المنتصر في الدراما الحالية هو بلا شك أردوغان، الذي دعم معظم المنظمات التي قادت الهجوم الحالي. “هو الحاكم الحقيقي اليوم في دمشق”، يدعي د. نعسان. ويؤكد ذلك د. حي ايتان كوهن ينروجك من جامعة تل أبيب فيقول: “لقد شخص أردوغان فرصة تاريخية في ضوء غرق روسيا في الحرب في أوكرانيا والإصابات الشديدة التي تعرضت لها إيران وحزب الله، وبادر إلى خطوة لتعزيز النفوذ الاستراتيجي التركي في المنطقة. في الخلفية رؤية “العثمانية الجديدة” التي تتطلع إلى استعادة المجد التركي بالعودة إلى قيادة العالم السني، وترى في الحرب خطوة لصد القوى الشيعية بقيادة إيران، مثلما كان في القرن السادس عشر.
للولايات المتحدة وزن مركزي في اليوم التالي في سوريا. تركز واشنطن الآن على منع جهد تركي لسحق القوى الكردية التي يساعدها الأمريكيون ولا سيما ميليشيا YPG. أما باقي الجماعات فليس للولايات المتحدة صلة حقيقية، يشرح روبرت فورد السفير الأمريكي في سوريا بين 2011 – 2014. “لقد نجح الجولاني في المفاجأة بنهجه، والتوقع المركزي منه هو إبداء التسامح تجاه الأقليات، وخاصة المسيحيين، وهي المسألة القريبة من قلوب الأمريكيين. في نظرة إلى الأمام، سوريا تكون في توتر بين تعب أغلبية سكانها من 13 سنة حرب أهلية وخوف من الغرق في مصير مثل مصير ليبيا بعد إسقاط القذافي، وبين خصومات القوى الداخلية وغياب تقاليد اللعبة السياسية، الأمر الذي سيهدد وحدة الدولة”.
دون البحث عن طفيليات
في ضوء الدراما التي لا تزال في ذروتها، باتت إسرائيل مطالبة بنهج متوازن. ترك النشوة بروح حرب الأيام الستة التي سادت في تغطية السيطرة على جبل الشيخ السوري وتدمير سلاح الجو السوري وتذكر المزايا الأساس للحارة التي تعلمناها بشكل مأساوي في 7 أكتوبر. لقد كان الأسد عدواً مريراً، وسقوطه ضربة قاضية لمعسكر المقاومة بقيادة إيران. لكن سوريا في اليوم التالي ليست بلاد الفرص، بل مصدر للعديد من التحديات.
أولاً، يجب الامتناع عن الأخيلة والتذكر كيف نظرنا إلى سقوط صدام والربيع العربي. فقد تحدثنا عن شرق أوسط جديد، ليبرالي، مزدهر ومستقر، وتجاهلنا التحذيرات من الفوضى والإرهاب المحتملين.
ثانياً، يجب مواصلة تدمير البنى التحتية للجيش السوري والقدرات غير التقليدية والسلاح المتطور خشية وقوعه في أيدي الثوار، إلى جانب الاحتفاظ بالمنطقة العازلة في هضبة الجولان، مع التأكيد بأنه مؤقت ومحدود.
في المدى الأبعد، من الضروري تبني نهج حذر متواضع وواع أساساً. ومن الحيوي تطوير علاقات مع جماعات قريبة من الحدود لأغراض أمنية مع الحذر من مغامرات غايتها إعادة تصميم سوريا قد تجتذب إسرائيل عميقاً إلى الداخل مثلما حصل في لبنان 1982. الحلم الإسرائيلي العتيق “لأكل الحمص في دمشق” يجدر إحالته جانباً مع الاعتراف بأنه سيمر وقت وستطل تحديات عديدة في الطريق إلى العاصمة السورية.