... ماذا أرادت إسرائيل من كل ما حدث؟.. الأمر بسيط هي أرادت الاستسلام.. وأرادت أن يجثو شعب غزة على قدميه ويطلب الصفح، كانت تعتقد في ذهنها الصهيوني المتطرف.. أن الاستسلام يعني طي ملف القضية للأبد.
أتمنى أن يترجم هذا البيت للذين يحكمون إسرائيل وهو بيت دائما ما أردده في ذهني حين يداهمني ألم الحرب: أتعلم أم أنت لا تعلم أن جراح الضحايا فم.
وقد كتبها الجواهري في العام (1948) حين وصله خبر استشهاد شقيقه جعفر الذي خرج مع جموع المتظاهرين ضد معاهدة (بورتسموث)، كان جعفر قادما من دمشق ويدرس فيها الحقوق.. لم يعد جعفر؛ سال دمه على الجسر، وفارق الحياة.
فيما بعد سقطت المعاهدة وانتصر صوت جعفر، وظل هذا البيت خالدا في تاريخ الشعر والنضال والرفض.
هل تدرك إسرائيل أن جراح الشهداء ستنطق، وستنتقم.
سأحدث إسرائيل عن جعفر.. وجعفر هو طفل من غزة فقد أمه وأباه، فقد عمه وأبناء عمه.. ويعيش مع أسرة من العائلة، واحترف النزوح.. جعفر الغزاوي يختلف عن جعفر العراقي بأنه ما زال حيا... لكن جراح أبيه ونزف أمه ما زال كل يوم يتردد صداه في أذنه.
جعفر الان عمره (11) عاما، منذ عام لم يفتح الكتاب.. لم يتعلم شيئا جديدا، منذ عام لم يقم بشراء حذاء أو دفتر، لم يقم بشراء.. قلم أو حتى رداء يقيه برد الليل.. وجعفر لم يعد يعرف شكل الحمام.. لقد اختار الخلاء كي يقضي حاجته، واختار جمع الحطب من بقايا البيوت المهدمة.. واختار إشعال النار، وهو يجيد تكديس العفش حين تقرر إسرائيل للمجاميع أن تنزح مرة أخرى.. وجعفر استهلك كل الدموع في عينيه لم يعد في محجر العين دمع، صار يبكي دما... وهو يأكل من المعلبات التي تأتي على شكل مساعدات، يأكلها دون طبخ.. فطعم الوجع يطغى على أي طع? آخر.. جعفر أمنيته أن يحصل على مقص للأظافر، هو يبحث في الخيمة عن مقص؛ ففي الليل حين يداهمه البعوض.. ويحك وجهه يكتشف في الصباح أنه خدش رقبته وسال دمه، أترك (أظافرك) يا حبيبي فهي منذورة للثأر اتركها يا ابن دمي.. لا وقت الآن لقصها.
ماذا أقول عن جعفر الغزاوي.. هل أقول لكم، أنه حين يأتي القصف، يخرج من الخيمة غير مكترث بما يحدث، لقد مل الفتى.. وكبده شكا من الجراح، لم تعد تخيفه القذيفة ولا (الزنانات).. قلبه يهفو لشمال غزة، لمنزلهم والحديقة.. لدرس الدين بعد الصلاة، ولصوت أمه حين كانت تناديه... ولعودة أبيه، وللندى حين يبلل الشبابيك في صباحات غزة، ويبدأ جعفر برسم قلوب الحب على الشبابيك، مخترقة أصابعه طبقات الندى.. كان سيكبر ويصبح أسطورة في العشق لكنهم.. دمروا كل أشكال العشق، اغتالوا الحياة.. ومع كل ذلك، لم يستطيعوا أن يغتالوا ذاكرة جعفر ولا?الهوية.
أنا أعرف يا حبيبي أن بنطالك متسخ.. لا عليك، على الأقل ليس بوساخة هذا العالم.. أعرف أنك تحتاج حَمَّاماً وتحتاج حلاقاً، وتحتاج أماً تقص أظافرك وتمسح بالخرقة المبللة أذنك اليمنى، أعرف أنك تحتاج.. ساعة تعمل على توقيت غزة.. وتحتاج حذاء لا تظهر من بين تفاصيله الأصابع.. أعرف أنك تحتاج قطرة عين فالحساسية التي كانت تصيبك في الطفولة عادت.. أعرف يا حبيبي أنك تحتاج.. أن تقفز على ظهر أبيك، وتخبر أمك عن أسرار المدرسة.. والبنت التي أعطتك دفترها، أعرف كل شيء.
أما من أب في هذا العالم يدرك وجع جعفر.. أما من أم، أما من منظمة أو دولة أو هيئة تدرك.. عذابات جعفر.
ما بين جعفر العراقي الذي سقط على الجسر، وبين جعفر الغزاوي الذي أقسم بأن يثأر.. ذات الجسر وذات البندقية والمجرم واحد.. ما بينهما هو العروبة التي ستنهض والدماء التي ستنطق وتفضح، والمروءة التي تقف في وجه الغطرسة.. ما بين جعفر العراقي وجعفر الغزاوي.. هو الرفض.
كلما ضاق بك المدى يا جعفر الغزاوي تذكر أن تنشد: (أتعلم أم أنت لا تعلم أن جراح الضحايا فم).. وتأكد أن صرخات دماء الشهداء ونزفهم سيهزم إسرائيل.. وتأكد أن الجواهري لم يقم برثاء أخيه جعفر بل قام برثاء العروبة وقتها.. لكنك يا جعفر الغزاوي الحي.. أنت من سيسترد العروبة.. أنت وحدك من سيستردها.
حين تنتهي الحرب، وحين تستعد للثأر.. وتأتيك فسحة من الهدوء وتحصل على مقص للأظافر، أرجوك لا تقم برمي بقاياها على الأرض.. امنحني أياها يا ابن دمي.. سأخبئها في زجاج مفرغ من الهواء، وسأكتب عليها أنها أعلى وسام شرف يمنح لي في العمر.. فهي من جسد جعفر.
Abdelhadi18@yahoo.com