موسى العدوان
من الأقوال المتداولة في مجتمعنا مقولة "كبّر عقلك ". وهي نصيحة تُقدم لمن ضاق عقله، وتمسك بأمور صغيرة، لكي يتسامى ويتسامح في تلك الأمور مع فاعلها. وخلال وجودي في إحدى المكتبات وقع نظري على كتاب بعنوان يخالف هذا العنوان تماما، وهو " صغّر عقلك" لكاتبه معتزّ مشعل. استغربت هذا العنوان، فاشتريت الكتاب ورحت أبحر بين صفحاته بشغف، لأعرف قصة هذا العنوان المخالف لما عهدناه. وقد تبين لي بعد قراءته، أن الكاتب يدعو إلى تكبير العقل، ولكن بأسلوب معاكس لما عهدناه.
فقد طلب الكاتب أن نعود إلى عقلية أطفالنا الصغار، التي لا تعرف الحقد، وتعود إلى فطرة التسامح التي خلقها الله تعالى بداخلنا. وهي فطرة موجودة لدى كل إنسان، وإذا ما استخدمها وركّز عليها قليلا، فإنها ستفتح له أبوابا فكرية عديدة، تجعله يفكر ويحكم على الأمور بطريقة سليمة. ولكي يثبت الكاتب دعوته التي أطلقها، أورد لنا العديد من الأمثلة التي استنبطها من تجربته مع أبنائه الصغار، وتعلّم منها كيف "يصغّر عقله"، سأختار فيما يلي بعضا منها.
يقول الكاتب: من الطبيعي أن ابني كبقية الأطفال، لديه أقرباء وأصدقاء متقاربون في العمر. وفي أحد الأيام كان 6 أطفال من بينهم ابني، يلعبون كعادتهم في القسم المخصص للأطفال. وفجأة قام أحد الأطفال بضرب ابني على رأسه بلعبة كانت بيده. فما كان من ابني إلاّ أن قام بضربة مضادة لصديقه كرد فعل على ما حدث، ودخل الاثنان في معركة. جاء الطفلان إليّ يشكوان بعضهما، فأخذت بمواساتهما بكلمات رقيقة. فما كان منهما إلاّ أن عادا إلى العب معا وكأن شيئا لم يكن. فكرني هذا الموقف بقوله تعالى: "دفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم".
وفي حادثة أخرى خرجت وزوجتي من المنزل، نركض باتجاه السيارة، وأنا أحمل طفلي الصغير، بعد أن دفعه أخوه الأكبر (6 سنوات) عندما كانا يلعبان سويا، فسقط عن الطاولة على رأسه. كان الفاعل بدوره يبكي بسبب بكاء أخيه، وربما لشعوره بالذنب. وعندما وصلنا المستشفى طلب الطبيب الانتظار لمدة ساعتين أو ثلاث، ليتأكد إن كان هناك حاجة إلى صورة شعاعية أم لا. وأخيرا جاءت الأخبار السعيدة من الطبيب، بأن الصغير لا يحتاج إلى تصوير، وأن حالته الصحية جيدة.
خرجنا من المستشفى والصغير يمشي على قدميه ويضحك، ثم طلب أن أشتري له آيس كريم. طلبت من البائع قطعة آيس كريم واحدة، ولكن الصغير طلب قطعة ثانية بالشوكلاتة، قائلا بأنها لأخيه، الذي يحب هذا النوع من الآيس كريم. دخلنا المنزل ونادى الصغير على أخيه بابتهاج ليخبره بالمفاجأة (آيس كريم بالشوكلاتة). نسي الطفل الصغير الألم والبكاء والطبيب وساعات الانتظار في المستشفى، وتذكر أخاه وصديقه في تسامح بريء، دون حقد أو طلب القصاص منه.
وفي هذا السياق نتذكر حالات من التسامح على مستوى الوطن جرت خلال تاريخ الأردن الحديث. ففي أواخر الخمسينات من القرن الماضي، كان الملك حسين طيب الله ثراه، قد تعرض لعملية انقلابية عليه، وعلى نظام حكمه. ولكنه بعد أن استتبت الأمور، سامح الملك حسين من تآمروا عليه، وعلى نظام حكمه، وعفا عنهم، وسمح لهم بالعودة إلى الوطن، ثم قلدهم أرفع المناصب في الدولة، في أكبر عملية تسامح تجري في العالم.
وكذلك فعل رئيس الوزراء الأسبق وصفي التل عليه ألف رحمة، عندما جاءه قروي يقدم إليه طلبا بالإفراج عن ابنه، المسجون بسبب شتمه وصفي التل. فأخذ الطلب من القروي، وكتب عليه بخط يده "يلعن أبو وصفي التل اللي الناس تنسجن من شأنه "، وأرسله مع ذلك القروي إلى سجّانيه، ليُفْرَج عنه فورا.
وفي تاريخنا الإسلامي وقع خلاف بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وبنتيجته أخطأ أبا بكر بحق عمر، فانصرف عمر غاضبا. وما هي إلاّ لحظات، حتى شعر أبو بكر، بخطئه وندمه على ما فعل مع عمر. فذهب إلى بيت عمر ليعتذر إليه، لكن عمر رفض الاعتذار، وأغلق الباب بوجه أبي بكر. فذهب أبو بكر إلى حيث كان الرسول عليه الصلاة السلام جالسا مع بعض أصحابه، ودخل عليه خجلا، ثم روى له ما حدث. أخبر الرسول مجالسيه وهو غاضب، بأن عمر قد بالغ في خصومته، وأن أبا بكر قد سبق إلى الخير، وقال لأبي بكر: "يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا".
ندم عمر على رده لأبي بكر بتلك الطريقة غير اللائقة، فقصد مجلس النبي، وجلس بقربه وعلامات الندم تفصح عما بداخله. كان الرسول غاضبا من تصرف عمر، لأنه رفض الاعتذار من أبي بكر، ولم يكن متسامحا معه فقال له: "يسألوك أن تستغفر له فلا تفعل؟ " وانصرف عنه. فما كان من أبي بكر إلاّ أن لحق بالرسول، وقدم له اعترافه بأنه هو البادئ بالخلاف، وهو من أغضب صديقه، وهو الذي يجب أن يُلام فيما حدث. فهل لنا أن نعتبر من ذلك؟ ونتذكر هنا قوله تعالى:" ن تعفوا وتصفحوا وتغفروا، فإن الله غفور رحيم" صدق الله العظيم.
وهنا علينا أن نطرح السؤال التالي: كم شخصاً حارب أخ أو أخت أو صديق أو قريباً، بسبب موقف سخيف، ولم يتكلم معه لفترة طويلة؟ ولكن بعد مرور سنوات عديدة تسأله عن السبب، فتجده قد نسيه وأخفي ندمه وراء كبريائه، الذي لا يعترف بالخطأ، ولا القيام بمبادرة نحو الأفضل.
كم منا من يحتاج "ليصغّر عقله" ويعود طفلا لكي يعرف التسامح والصفح، ذلك الشعور الذي خلقه الله تعالى فينا عندما كنا صغارا، فنسيناه عندما صرنا كبارا، وأصبحنا نشعر أن مسامحتنا لشخص أسأنا إليه، هو ضعف منا.. أم أن العكس هو الصحيح..!
في الختام أقول: هل يمكن لعقل الدولة، أن يوجه كبار المسؤولين في الدولة، لكي "يصغّروا عقولهم" بالمفهوم الحديث، ويعودوا إلى طبيعتهم البريئة عندما كانوا أطفالا، ويجعلون من " التسامح " أسلوبا في التعامل مع المواطنين؟ لا أن يتخذوا من قانون الجرائم الإلكترونية، منصة ينطلقون منها لمعاقبة من تحدث أو كتب كلمة على (مقاماتهم الرفيعة) وإيداعهم للسجن، أو ابتزازهم بمبالغ مالية تثقل كواهلهم، وتحرم عائلاتهم من أسباب المعيشة الضرورية؟ هل يمكن لعقل الدولة أن يأمر بوضع ارمه (Area) لي مكتب كل مسؤول في الدولة، مكتوب عليها:" غّر عقلك". لعلها تعيده إلى الطبيعة التي غرسها الله تعالى في نفسه، من براءة وتسامح وحسن خُلق..!
التاريخ: 1 / 11 / 2024